في عزل الكورونا، يبدو الزمن مثل يوم طويل تتخلله إغفاءات قصيرة مرهقة، غير أني تصالحت معه، حتى صار أجمل من أيامي السابقة جميعها؛ كل أرق أذوق، صار مستساغًا وغير ذي قيمة، في ظل يوم طويل لا يمتلك أي فواصل. قديمًا كنت سأصف الوجود تحت وطأة الحال ذاتها، مثل “نكبة”، لكننا في ما يبدو، نشهد، أو هكذا يوحي الوضع، آخر صورة للبشرية التي يصفها بيتر هاندكه بأنها في “لحظاتها الأخيرة، في خضم التعب الكوني” ستصير “متصالحة مع التعب”.
في نصه “عن التعب”(*)، يصف النمسوي بيتر هاندكه، الحائز على نوبل السنة الماضية، نتفًا من أيامنا الحالية، بشكل متطابق، من دون الحاجة إلي لب النص ليستقيم تأويله وما قد نتصوره في ظل الوضع القائم، لأن “التعب يعطي المشتتين مفتاح الخلاص”، فيما يجعل صاحب “الشقاء العادي” من سيرته مع التعب نصًا جمعيًا، ليس لأنه ينشد إثارة العاطفة في نفوس قرائه، وإنما لأن “التعب يحكي قصة الآخر، حتى وإن كنت لا أعلم عنه أي شيء”!
يمكن لذلك الكتاب القصير (55 صفحة من القطع المتوسط)، الذي انتهى هاندكه من تأليفه في العام 1989، أن يصلح كسيرة ذاتية، تكشف كثيرًا من حياة الكاتب المثير للجدل، الذي نشأ في عائلة فقيرة في ريف النمسا، وأدرك معاني التعب في وقت حاجته للهو مع الأطفال، والنزق مثل المراهقين، والتهور كالشباب. كان صاحب “الحادث الكبير” صبيًا يدفع عربة يدوية محملة بالأحجار، صعودًا إلى موقع بناء بيتهم الجديد الذي أراد والده تشييده “كنت فقط أحملق في اتجاه الأحجار الرمادية الخشنة، التي أنقلها بالعربة، وفي بخار الأسمنت الرمادي الذي يحاصرني، وفي المفاصل التي تربط بين ألواح الخشب التي أخطو عليها (…) كانت يداي مكدومتين، وأصابع قدمي محروقة من الأسمنت الذي يتسلل إليهم. لم أكن أجلس على الكرسي، بل أرتمي إليه (…) لم يسمح لي هذا التعب بأي راحة، فما إن كنت أنام فور استلقائي على السرير، حتى أستيقظ مع بزوغ الفجر، لأبدأ العمل من جديد. ازداد شعوري بالتعب يومًا بعد يوم، فقد سلب مني ذلك العناء أساس إحساسي بالحياة لدرجة أن ضوء الصباح الباكر ونسيم الهواء العليل، تحولا إلى إشارة صريحة تنذر بعدم وجود أي مفر من ذلك الموت الحي”، وفي مراهقته، في فترة الدراسة، كان هاندكه يعمل بالدوام الصباحي في غرفة الشحن التابعة لأحد المتاجر الكبرى “كنت أستيقظ في الرابعة فجرًا كي ألحق بالمترو، ثم أتبول في زجاجة مربى فارغة، كي لا أزعج أفراد البيت، وبعدها أخرج من دون أن أغتسل. كنت أعمل في الأسابيع التي تسبق ذروة عيد الفصح وعيد الميلاد، في غرفة الشحن بالطابق الأخير، تحت أنوار الضوء الصناعي، حيث أفكك الكارتون ثم أقطعه على شكل مستطيلات كبيرة بواسطة مقصلة ضخمة، كي يُستخدم في دعم الكراتين الجديدة (…) كان يتجلى شعوري الجديد بالتعب، عندما نطأ بأقدامنا خارج المتجر، ليمضي كل منا في طريقه بعد انتهاء فترة العمل. كنت غارقًا في التعب وأنا وحدي؛ نظارتي يكسوها الغبار، وياقة قميصي متسخة ومجعدة. وجدتني أنظر إلى الشارع الذي آلفه بأعين جديدة، فلم أعد أعتبر نفسي أحد هؤلاء المارة الذين يسلكون الجهات المختلفة؛ إلى المتاجر، أو محطة القطار، أو السينما، أو الجامعة”.
يمنح هاندكه مفردة “التعب” معاني أكثر اتساعًا من الإرهاق أو الألم، فهو عنده نوعان؛ خبيث وطيب. يرتبط الأول بما يصيب النفس، ويرصد الثاني مشقة العيش الذي اضطر أن يتكبدها في سبيل استكمال حياته، لكن الأخير أيضًا أعمق من “كيتش” المعاناة، فهو أكثر اتصالاً بالبشرية، يصنع ملاحمها، ويوحدها، بل ويفسح المجال أيضًا “كي تتشكل ملاحم سائر المخلوقات الأخرى، حتى الحيوانات”، ولعل ذلك التعب هو الذي جعل من شخص يشعر بإقصائه من المجتمع ويسير وحده في اتجاه معاكس لكل البشر، أو يظن لاحقًا بسبب فعل الكتابة أنه “غير متاح للمجتمع، ولكل من حولي”، يتوحد مع ذلك الذي شعر أنه لا ينتمي إليه، لأننا “نتشارك في التعب معًا”؟ لكن تلك الرغبة التي ينطوي عليها الوصف الأخير، تتعارض بشدة مع علاقته الملتبسة بدكيتاتورية سلوفودان ميلوسوفيتش، وتجعلها لا تتسق ربما ومواقف كتاب كثيرين ناصروا الديكتاتورية لأسباب مختلف، لأنه يرى أن”في ظل تولي الفسدة زمام الأمور، صار صعبًا على الأقليات (على الرغم من كثرتهم) أن تتجمع كي تُشكل معًا “شعب التعب””.
يعمد بيتر هاندكه في بناء نصه إلى صيغة السؤال والإجابة، وفي حين يصف ذلك الإلحاح الذي تعكسه الأسئلة والإجابة عليها بالأسلوب الفاتر الذي “يتناسب مع إشكالية التعب التي أطرحها” كأنه توبيخ يوجهه إلى نفسه، فإنه يبدو أيضًا كثقل ينوء صاحبه بحمله ويريد أن يدفعه عن كاهله “مفهوم “التعب” يحمل في طياته معنى “الحمل الثقيل”، وتأثيره على كل ما هو حوله”، لذلك ينطلق تفسير صاحب “رسالة قصيرة للوداع الطويل” للعالم والحب والرأسمالية بناء على فهمه ومعايشته للتعب في صوره ومعانيه المتعددة ضيقة وواسعة: “في الماضي، كنا نتناول الشيء في إطاره الخاص، ومع مرور الوقت، صرنا لا يمكن أن نتناول الشيء إلا في إطار علاقته بنا. ولكن أنواع التعب التي أتناولها هنا، تُجدد ذلك المفهوم القديم، وتربطه بالحديث. فالشيء هو ما يبدو عليه، أما في أثناء التعب، فلا يمكن أن يتجلى وحده، بل لا بد أن يرتبط بأشياء أخرى، حتى وإن كانت قليلة”.
(*) صدر الكتاب عن دار صفصافة في القاهرة، ونقلته إلى العربية في ترجمة مميزة عن الألمانية مباشرة، المترجمة د.رضوى إمام.
*المصدر: المدن