في الأوساط الأكاديمية المشتبكة مع الدراسات اللغوية ومسألة إعادة إنتاج اللغة المعيارية وتشكيلها داخل السياقات الاجتماعية المختلفة، هناك مسلّمة تقول إن الأدب الرسمي أو الأدب المدوّن، يقف في الجهة المقابلة تمامًا من الأدب الشعبي الشفاهي، بنيويًا ووظيفيًا، بحيث لا يلتقي النوعان بحال، لأن كل منهما يسير في اتجاه غير الآخر.
هذه الحقيقة هي تجسيدٌ نظري لمفارقة المركز، المركز السياسي (السلطة)، التي تتموضع ميدانيًا عبر جغرافيا معينة تكتسب قيمتها من قيمة وجود السلطة ومن تعاظم مواردها، وتتبنى (هذه السلطة المركزية) اتجاهًا عقديًا يخدم تطلعاتها السياسية، وقيمًا ثقافية تثبت أركانها داخل المجتمع، حيث يحظى المركز وتجلياته دائمًا بكل الأضواء والدعم، ويدور الأدب حول هذا المركز ويُدعم من السلطة (الأدب الرسمي)، بينما تخبو الهوامش الأخرى على أطراف هذا المركز، حيث البشر المنسيون والجغرافيا التي تنتمي إلى الوطن بالاسم فقط على الخريطة، والعمل السياسي الذي يمثل تهديدًا للسلطة، والثقافة الشعبية الشفاهية التي لا ترى ذاتها إلا بعيون المركز الذي يرفض – في نفس الوقت – الاعتراف بها إلا كهامشٍ له.
لا يلزم.. الأدبُ الشعبي أن يكون معلوم المؤلف أصلاً، بل يستحسن ألا يكون كذلك لأن الشعب إذا تلقاه بالقبول، لن يعبأ بصاحبه
هذه الحقيقة تجلت بنيويًا أيضًا في خصائص كل من هذين النوعين الأدبيين: الأدب الرسمي في مقابل الأدب الشعبي، كل على حدة، بدءًا من طريقة ميلاده، وصولًا إلى قبوله وتداوله، وانتهاءً بموته، فبينما ينبغي للمنتج الأدبي الرسمي أن يكون مؤلفه معروفًا لممثلي السلطة المسؤولين عن الثقافة والأدوات الناعمة – كما هو معروف عند جمهوره -، ولغته مكتوبةً بالحد الأدنى من اللغة المعيارية التي تتبناها مؤسسات الدولة الرسمية وتفرضها على مجال تعاملاتها إذا لم تستطع فرضها على المجال العام كله (الفصحى في حالتنا)، ولا يتم تداوله إلا مكتوبًا أو مطبوعًا (بعد اكتشاف الطباعة) وهو في ذلك مفتقر دومًا إلى دعم السلطة المباشر أو إلى هامشها المصطنع، فإذا مر النص الذئبقي من الرقابة الأولى وكان به من المحظورات ما به يقف إنتاجه في المطابع ويُصادر من منافذ البيع، ويستمر النص الرسمي على قيد الحياة طالما أن السلطة راضية عن وجوده، أو غير عابئة بوجوده أصلاً.
في حين أنه لا يلزم، في المقابل، الأدبُ الشعبي أن يكون معلوم المؤلف أصلاً، بل يستحسن ألا يكون كذلك لأن الشعب إذا تلقاه بالقبول، لن يعبأ بصاحبه، وسيصبح النص ملكًا للجمهور، من خلال الراوي الشعبي الذي سيعيد تشكيل النص وفقًا لمحددات كثيرة، أبرزها ذاكرته وموهبته وتفاعل الجمهور ونوع الجمهور والسياق الجغرافي والثقافي الحاكم لرواية النص، (فقد ينسى الراوي شيئًا من النص الأصلي فيُعيد لحم النص من جعبته وخبرته، وقد يعيد الراوي تشكيل النص حسب لغة الإقليم فيبدل كلمة بأخرى، وقد يتحاشى ذكر مفردةٍ ما إذا كان الجمهور ممن يتوجب التزام التقاليد في حضورهم كالنساء وكبار السن)، ويظل النص في هذه الحالة متداولًا طالما يحقق حاجة نفسية معينة لدى الجماعة الشعبية، ولو بلغةٍ جديدة وقالب جديد، حسب السياق.
الواقع السياسي المصري إبان حكم عبد الناصر، كان واقعًا استثنائيًا مكدسًا بالتناقضات بحيث لا يمكن لعقلٍ قطبي – يرى العالم باللونين الأبيض والأسود – استيعابه
وقد أفرزت هذه الثنائيات، ثنائية المركز والهوامش والأدب الرسمي مقابل الأدب الشعبي، نموذج تشكل الفن الأكثر شيوعًا في التراث العربي داخل بناء المجتمع حسبما يقول الدكتور محمود عبد الغفار أستاذ الأدب المقارن بجامعة القاهرة: نموذج الشاعر الذي يعيش في كنف السلطة وبلاطها، حيثُ الحماية والأموال والسلطة الرمزية (الشهرة والاحترام)، ونموذج آخر، مقابل، أقل شيوعًا، هو نموذج “عقلاء المجانين”، حيث تكون ضريبة قول الحقيقة ونسجها في بناء أدبي شفاهي: الطرد من النظام وعدم الاعتراف “إعادة تأويل مفهوم الجنون بما يتناسب مع قيم السلطة عند ميشيل فوكو”، أو ادعاء الجنون لتجنب بطش السلطة، كسيبويه المصري (شخصية مختلفة عن سيبويه النحوي الذي عاش في القرن الثاني الهجري) الذي أفرد له المؤرخ ابن زولاق كتابًا بعنوان: “أخبار سيبويه المصري”، وهي شخصية موجودة في كل الثقافات بالمناسبة (شخصية جحا).
خرق القاعدة: كيف وثقت الجماعة الشعبية التاريخ الناصري؟
وفي هذا الصدد، نجد أن الواقع السياسي المصري إبان حكم عبد الناصر، كان واقعًا استثنائيًا مكدسًا بالتناقضات بحيث لا يمكن لعقلٍ قطبي – يرى العالم باللونين الأبيض والأسود – استيعابه، قد أفرز مفارقة نوعية فيما يتعلق بطريقة فهمنا للأدب من خلال ثنائيتيْ المركز والهامش، الرسمي والشعبي، وعلاقة ذلك بقراءة التاريخ لاحقًا.
فبحسب الثنائيات الكلاسيكية سالفة الذكر، لا تعتبر الآداب الرسمية مصدرًا موثوقًا لقراءة التاريخ أو ملء الفجوات المفقودة في الروايات التاريخية، لأنها آداب لم تكن لتوجد لولا السلطة التي تؤرخ لها، وبالتالي لا يُنظر إليها على أنها مصادر موضوعية، فيما تعتبر النصوص الشفاهية غير الرسمية مصادر ذات وجاهةٍ كبيرة في قراءة التاريخ، لانتفاء عامل “المنفعة” عنها، حيث لا يمكن، عقلاً، إجبار الجماعة الشعبية على تداول نص، إلا إذا كان هذا النص يؤدي وظيفةً ما، إذا لم تكن هذه الوظيفة هي رواية التاريخ المحض، ستكون – على الأقل – رؤيتهم الذاتية للتاريخ، التي تتعارض غالبًا مع الرواية الرسمية للتاريخ، بما سيمنح الباحثين مساحات واسعة للمقارنة والتحليل بين الروايتين.
الجماعة الشعبية المصرية حملت لعبد الناصر حبًا جارفًا غير عقلاني ودافقًا بالعاطفة في آن، رغم كل المعطيات المتناقضة
إلا أن الجماعة الشعبية المصرية، إذا جاز التعبير، خرقت هذه القاعدة بنصوصها التي رأت من خلالها جمال عبد الناصر خلال فترة حكمه الممتدة من عام 1954 بعد الإطاحة بمحمد نجيب حتى وفاته عام 1970، وكانت نصوصها الشفاهية، الشعبية والعامية، أكثر رومانسية وانحيازًا لعبد الناصر وتأليهًا لصورته الذاتية بشكل يفوق تاريخه المدون رسميًا نفسه.
يقول أحمد الدريني الباحث والصحافي بجريدة “المصري اليوم” في هذا الصدد: “الجماعة الشعبية المصرية حملت لعبد الناصر حبًا جارفًا غير عقلاني ودافقًا بالعاطفة في آن، رغم كل المعطيات المتناقضة، التي عاشتها الجماعة بتفاصيلها خلال فترة حكمه”، ويشير الدريني إلى أن أبرز المشاهد تعبيرًا عن تناقض هذه الفترة، هو مشهد هتاف الشيوعيين المعتقلين السياسيين في سجن الواحات غرب القاهرة، لعبد الناصر، باسمه “في الوقت الذي تحمل ظهورهم آثار سياط جلاديه”!
وفي أول صعيد مصر بمحافظة الفيوم، وأقصى صعيدها بمحافظة قنا، لا يزال إلى الآن يُتداول نص مشهور عن فطنة “ناصر” وعزته التي هي من عزة مصر، عندما كان في زيارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان الرئيس الأمريكي في استقباله جالسًا على كرسي، فوجد ناصر أن باب الدخول إلى المقابلة مصممًا كي يبدو الداخل إلى مقابلة الرئيس في وضع المنحني أمامه، فقرر، بسرعة بديهة، أن يدخل رافعًا قدمه بدلاً من خفض رأسه، ليرد الصاع صاعين لمن أرادوا إحناء رقبته، وهو ممثل للشعب المصري، أمام الرئيس الأمريكي، ممثل الشعب الأمريكي، وهو ما غاظ جميع الحضور.
ويرجع عبد الرحمن الأبنودي، أشهر شعراء العامية في مصر، أحد أسباب هذه الحالة الاستثنائية في تعامل الوعي الجمعي مع رأس سلطة مارس ضدهم كل أنواع القمع تقريبًا إلى صدق عبد الناصر في عمله من أجل الجماهير
وهو موقف لم يحدث كما يؤكد الباحثون، وإنما يعود إلى يحيى بن الحكم الغزال الشاعر الأندلسي الذي أرسله حاكم الأندلس على رأس وفدٍ لزيارة إمبراطور الرومان الذي فعل هذه الخدعة، وفهمها الشاعر الأندلسي، لكنه — هذا النص -، شاهد على الصورة الذهنية للرئيس المصري الأسبق في المخيال الجمعي المصري.
ويرجع عبد الرحمن الأبنودي، أشهر شعراء العامية في مصر، أحد أسباب هذه الحالة الاستثنائية في تعامل الوعي الجمعي مع رأس سلطة مارس ضدهم كل أنواع القمع تقريبًا، واعتقله بشكل شخصي عام 1966 عندما عارضه ووضعه بالحبس الانفرادي في سجن القلعة لمدة 6 شهور، إلى صدق عبد الناصر في عمله من أجل الجماهير، وتلمس هذا الصدق من الجماهير، خلافًا لمن سبقه من حكام مصر:
“مش ناصري ولا كنت في يوم
بالذات في زمانه وفي حينه
لكن العفن وفساد القوم
نساني حتى زنازينه
إزاي ينسينا الحاضر
طعم الأصالة اللي في صوته؟
يعيش جمال عبد الناصر”
الهزائم والوفاة
حتى الهزائم العسكرية لم يوثقها التاريخ الشعبي على أنها هزائم منسوبة لناصر، إنما كان التفسير الأكثر تداولاً وقبولاً هو اعتبارها “نكسات” تسببت فيها حاشيته، ستعود الأمة بعدها عفيةً فتية بقيادة زعيمها ووالدها، بل وفي بعض الأحيان كانت تؤولها كانتصارات، فقد رأت الجماعة الشعبية المصرية أن مجرد تكوين تحالفٍ ثلاثي، بقيادة إنجلترا وفرنسا “وإسرائيل”، لمحاربة مصر بعد تأميمها قناة السويس عام 1956 وإشرافها الفعلي والرمزي على كامل العبور من القناة، ثم الصمود في مواجهة هذا “العدوان الثلاثي” هو بمثابة انتصار للشخصية المصرية على هذا التشكيل العصابي ومصالحه، بغض النظر عن أي تفاصيل تخص مسار المعارك على الأرض:
“سالمة يا سلامة
فاتت علينا باخرات محملة بالخيرات
إن كانت رايحة لفرنسا والخير ده رايح أهاليها
خدي بخاطرها في الوكسة أول ما توصلي عديها
وامشي في جنازة شركة فرنسا شركتنا باقية ليوم القيامة
سالمة يا سلامة
وإن كانت رايحة إنجلترا قوليلها مصر بقت حرة
شروطها هي اللي هتمشي على العدو في بلاد بره
من غير مؤامرة أو مفاوضة الحق واضح من غير علامة
سالمة يا سلامة”
وإذا كانت القوات الأجنبية قد نجحت في العبور إلى مدن القناة واحتلالها أيام حرب 1956، فإن هذا نتاج طبيعي لفترة الاستعمار البريطاني التي امتدت من 1882 إلى 1954 وصحبها توزيع رجال الاستعمار على المناصب الرسمية والمفاصل الحيوية للدولة، فلا ذنب لعبد الناصر ودولته في هذا الاحتلال، بل إن هذا العدوان بمثابة إرهاص لنهاية الوجود الأجنبي على أرض مصر:
داسوا أراضي واحتلوها أيام الخاين توفيق
ياما هانوها وياما خانوها وقفلوا فـ وشي الطريق
وشربت أنا وناسي يا سلام المر في كاسي يا سلام
وأهلي بتقاسي منهم عذاب ومرار
فضلت سبعين سنة عايش في أحزاني
مستني يوم المنى أرجع لأوطاني
لما أتانا جمال الشعب كله قال
خلاص مفيش احتلال ده عينيه شافت نهار
وعن نكسة يونيو/حزيران 1967 عندما فقدت الأمة العربية سيناء المصرية والجولان السورية والقدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة من فلسطين، يقول الدكتور خطري عرابي أستاذ الأدب الشعبي في جامعة القاهرة في فصل بعنوان: “التاريخ المصري في مرآة الشعر الشعبي”: “كان لا بد لهزيمة البلاد العربية أن تستحوذ على قدر كبير من هموم الشعراء الشعبيين، لكن اللافت للنظر أنني لم أعثر على قصيدة واحدة تستخدم مصطلحات “الهزيمة” أو “النكسة”، إنما كانت كل القصائد تبشر بالنصر القادم، أو ترى أن ما حدث قدر ومكتوب، أو تتحدث عن العرب وأمجادهم وتدعو للوحدة العربية، أو تحذر من العملاء الذين يتعاونون مع العدو وتبشر بعودة سيناء”:
“بعون الكريم يا سينا حكم المسلمين عواد
ونغز رايات السعد من رابعة لبير العبد
واللي جرى أول من صنعة الفساد
ربي يجبر صوابنا ونعمر اللي انهد
واللي تجيب الثار أم إصبع وزناد
والملح إن ثار ما يختشي من حد
نور النبي عين تروي كل وراد
واللي طنيبه رسول الله ما ينهزم من عبد”
هذا النص السينائي، حيث احتلت “إسرائيل” الجزء الشرقي من مصر آنذاك، يقر بأن الهزيمة حقيقة وواقع لا يمكن إنكارها هذه المرة، ولكن عبد الناصر غير مسؤولٍ عنها ولا يتحملها، لأن “اللي جرى أول من صنعة فساد”، وحاشية عبد الناصر ورجاله هم السبب في هذه الهزيمة، ومن ثم إذا عاود عبد الناصر نفسه ترتيب أوراقه وإبعاد الفاسدين من حوله، سيتمكن من إلحاق الهزيمة بالعدو وسيرفع العلم المصري مجددًا على أراضي سيناء المحتلة، من رابعة إلى بئر العبد.
يؤكد أحد النصوص الشفاهية المتواترة إلى الآن في صعيد مصر حقيقة عزو الجماعة الشعبية هزائم ناصر وتفسيرها بفساد رجاله وتواطئهم
فالهزائم في عهد عبد الناصر ليست مسؤوليته، وإنما مُسببة بمساعي عبد الناصر الاستقلالية سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا التي حاول تنفيذها للبلاد العربية والعالم كما قاد شطرًا كبيرًا منها في مصر، بل ويمكن تحويل هذه الهزائم إلى انتصارات جديدة طالما أن عبد الناصر موجود في سدة الحكم، وباقٍ على قيد الحياة.
ويؤكد أحد النصوص الشفاهية المتواترة إلى الآن في صعيد مصر حقيقة عزو الجماعة الشعبية هزائم ناصر وتفسيرها بفساد رجاله وتواطئهم، فيحكي النص عن مؤامرةٍ دبر لها الاستعمار للتخلص من ناصر واغتياله في أثناء إحدى رحلاته الخارجية الداعية للاستقلال والمطالبة بإنهاء الاستعمار، وذلك بالتنسيق مع بعض من حاشيته، ولكن حلمًا في نومة رجل صوفي عارفٍ بالله رأى خلاله تفاصيل المؤامرة كاملة، أدى إلى إحباطها، بعد نجاحه في التواصل مع الرئاسة وإبلاغ عبد الناصر بما يُحاك له، فاستجاب “ناصر” بالفعل لنصيحة الرجل وحقق في الأمر وكشف المخطط وعاقب مقربيه المتآمرين وأبعدهم.
وتزداد هذه النظرة المختلفة التي خصت بها الجماعة الشعبية عبد الناصر وضوحًا بعد وفاته، فكل ما يمكن قبول تأويله من كتابات رومانسية في أثناء حياته بأي من الدوافع النفعية والمصلحية، للفرد أو الجماعة، لا يمكن تأويله أبدًا بهذا التأويل بعد موت عبد الناصر، فالموت يقضي على الاحتمالات والفرص ويدشن نقطة تحول جديدة في عمر الوطن يمكن بعدها الانتقام من الميت بلا خوفٍ من العواقب، فيرثي “أبو الشعراء” فؤاد حداد، جمال عبد الناصر الذي اعتقله لأكثر من 8 سنين في سجونه، ويعزو ذلك إلى قدرته على التفريق بين الذاتي والموضوعي، فإذا كان ناصر قد اعتقله فعلاً، فإنه كان يعمل من جهةٍ أخرى لصالح الوطن، وهذا كافٍ عنده لاستحقاقه الرثاء:
“مع السلامة يا والد يا أحن شهيد
أدي الرقاب وأدي الأعلام بتتنكس
فين طلتك في الدقايق تسبق المواعيد
والابتسامة اللي أحلى من السلام بالإيد
يا معانا في كل فرحة ومعركة وجديد
أؤمر لي بحقوقي وهدوم الولاد في العيد
والمجانية ومرايل بيضا والأناشيد
والصبر ما يغلبهوش الذل والتنهيد
فرقت ورقك وقلت الكل يكتبلي
من البحيرة من الشرقية وقبلي
وياما قلبك خفق من رحمته وضناه
كل الآهات شعب واحد يا حبيب الله
ويوثق شاعر العامية الراحل أحمد فؤاد نجم هذه الحالة الغريبة في حب عبد الناصر، حاكيًا أن والدته قد زارته في محبسه بعد وفاة ناصر، حيث كان معتقلاً منذ اعتراضه على نتائج حرب يونيو/حزيران 1967، فرأى في عينيها آثار بكاء، فسألها متعجبًا: أتبكين على رجل حبس ابنك؟ فأجابته، كما فسر فؤاد حداد رثاءه لشخص اعتقله، إن هذا موضوع وذاك موضوع آخر، وأن موته يعني “سقوط العمود الذي تستند عليه خيمة الوطن”.
كيف أثرت مواقع التواصل الاجتماعي على مفهوم الأدب غير الرسمي وتشكلاته؟
غيرت مواقع التواصل الاجتماعي مفهومنا التقليدي عن الأدب غير الرسمي باعتباره صنوًا للثقافة الشفاهية، فأصبح هذا الأدب غير الرسمي قائمًا بالفعل على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن بشكلٍ جديد ملائم لفلسفة العصر وثقافة الصورة، معتمدًا على البنية البصرية/الكتابية (الكوميكس) بدلاً من الثقافة الشفاهية/السمعية التقليدية.
يقول رولان بارت الفيلسوف الفرنسي صاحب الإسهامات المهمة في النقد الأدبي وعلوم الدلالة والعلامات “السيميولوجيا”، في كتابه “غرفة التظهير: حاشية على التصوير”: “الصور التي نتعرض إليها في حياتنا تولد لدينا إمكانية شعورين: الشعور الأول الممكن توليده هو “الدرس” حيث نشعر بالرغبةٍ في تفحص تفاصيل الصورة والوقوف على دقائقها وفهمها وهي عملية عقلية أساسًا، أو “الوخر” وهو شعور آنٍ سريع بالتفاعل مع مضمون الصورة، فرحًا أو ضحكًا أو حزنًا، وهذا الشعور هو الأكثر توافرًا في العالم الآن، وفي الأروقة شبه الرسمية، كالصحافة والسينما والدراما التي تعتمد على الصور لتوليد العواطف المطلوبة لدى جمهورها، وهو في مواقع التواصل الاجتماعي الشعور الوحيد المتدفق من التفاعل مع الصور.
إذا كان الإنترنت بشكل عام قد أثر على البنى الفوقية للمجتمعات فإن مواقع التواصل الاجتماعي أثرت بوضوح على البنى التحتية المتعلقة بالثقافة
ويشير الدكتور خالد أبو الليل، أستاذ الأدب الشعبي في جامعة القاهرة، في دراسته عن “النكتة”، وهي أحد الفنون التقليدية بالأدب غير الرسمي، التي تستخدم أساسًا كوسيلة للتسامي على القهر الصادر عن السلطة، أن النكات، رغم تصنيفها تقليديًا كفن شفاهي – سمعي، خضعت في مواقع التواصل الاجتماعي إلى منطق الصورة، وأصبح بالإمكان تقديمها في قوالب بصرية، كما اكتسب التفاعل معها أشكالاً جديدة من التفاعل، تختلف عن التفاعل التقليدي المعروف، بالضحك وتبادل النكات وضرب الكفوف، عبر “الإيموجي”.
ويؤكد مصطفى السيد حسن، أنثربولوجي وباحث بالمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أنه إذا كان الإنترنت بشكل عام قد أثر على البنى الفوقية للمجتمعات (علاقات الإنتاج) فإن مواقع التواصل الاجتماعي أثرت بوضوح على البنى التحتية المتعلقة بالثقافة.
أكثر أشكال هذا التأثير وضوحًا بحسب مصطفى، هي “الكوميكس/الميمز” المستخدمة في مواقع التواصل الاجتماعي، لأنها مستقاة أصلاً من أعمال واقعية كالأفلام والمسلسلات، وتقوم بدور “الأمثال الشعبية” في التواصل اليومي التقليدي، بحيث يكون لها مورد ومضرب لا تفهم إلا من خلاله شأنها كل الأمثال، إلا أن تقديمها وإعادة إنتاجها تتم في قوالب بصرية ملائمة للتفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي، ومصدر الاستعارة (فيلم مثلاً)، بدلاً من التواصل الشفاهي المستخدم في الأمثال قديمًا.
ما علاقة ذلك بجمال عبد الناصر؟
مواقع التواصل الاجتماعي اشتعلت سخريةً في الفترة الأخيرة من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وهي ليست سخريةً سياسية، وإن شابها بعض الأدلجة من كارهي عبد الناصر بطبيعة الحال، فمطلقو هذه المواد الساخرة من فئة جيل النصف الثاني من التسعينيات وجيل الألفية الجديد، وهم لم يشاهدوا جمال عبد الناصر، وعلى الأرجح لم يقرأوا تاريخه قراءة نقدية متأنية تعالج هذه الفترة بموضوعية، لأنه – على الأقل – لم يُكتب إلى الآن كتابات توثيقية رصينة في هذا الباب، بحسب الدكتور خالد فهمي أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
الوعي الجمعي لا يتفق على مناقشة قضية والانحياز لوجهة نظر معينة في هذه القضية إلا إذا كانت تحقق وظيفة نفسية معينة أو وظائف لدى الجمهور.
ومنطق هذه السخرية كما يبدو أبعد ما يكون عن نقد سياسات عبد الناصر الاجتماعية وتفاصيل الحكم وسرد الأحداث، وإنما يركز هذا “التريند” على موضوعٍ واحد و”ثيمة” معينة، وهي ثيمة هزائم عبد الناصر المتكررة في كل الحروب التي خاضها، حتى يصور عبد الناصر كأيقونة نموذجية متكاملة في الفشل، مستعرضًا شواهد أخرى (لم نتمكن من التأكد من صحتها) مثل وثيقة رسوبه في الإعدادية، وهي ثيمة كوميدية ثابتة في المشهد الاجتماعي السياسي المصري، حيث يعرف أن طلاب الكليات والمعاهد العسكرية يلتحقون بالجيش بأقل الدرجات التعليمية في الإعدادية والثانوية مقارنةً بزملائهم في الجامعات الأخرى، وصورة من مباراة “شطرنج” تنبئ تحركاته خلالها بعدم معرفته أساسيات اللعبة، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل صور “التريند” الرئيس المصري الأسبق ملهمًا للفاشلين والمهزومين.
وبغض النظر عن صحة الادعاءات التي يطرحها “التريند” من عدمها، فهو ليس موضوعنا، فإن السؤال الأهم: لماذا يتم استدعاء شخصية جمال عبد الناصر من الماضي في هذا الوقت؟ وما قيمة هذا الاستدعاء؟ فالوعي الجمعي لا يتفق على مناقشة قضية والانحياز لوجهة نظر معينة في هذه القضية إلا إذا كانت تحقق وظيفة نفسية معينة أو وظائف لدى الجمهور.
يستخدم الجمهور تقنيةً نفسية لتفريغ الكبت السياسي يكثر استعمالها في أزمنة الاستبداد والبطش، وهي محاكمة الحاضر في شخصيات الماضي باستخدام الرمز
ولا يمكن في نفس الوقت أن نتصور بحال أن الجمهور حانق على المنجز الاجتماعي الناصري المتمثل في إعادة توزيع الثروة وتحريرها من يد الإقطاع ولا المنجز السياسي الخارجي المتمثل في الخلاص من الاستعمار والتبشير بذلك خارجيًا، ولا حتى الهزيمة، من القوى الكبرى، شعار هذه الحملة، باعتبار أن الهزيمة في أي حرب خيار محتمل، وإنما ثمة شيء وراء ذلك.
يستخدم الجمهور تقنيةً نفسية لتفريغ الكبت السياسي يكثر استعمالها في أزمنة الاستبداد والبطش، وهي محاكمة الحاضر في شخصيات الماضي باستخدام الرمز، تخففًا من العبء السياسي والاجتماعي وتجنبًا للخطر المتوقع حدوثه من بطش السلطة المستبدة الجاثمة على صدره، التي لا يمكنه مواجهتها بشكل مباشر، وهي تقنية “العنف السلبي”.
ولا يُقصد موضوع السخرية (هزائم ناصر) لذاته، وإنما يُوجه النقد لهذا الموضوع باعتباره “مجازًا مُسببًا” كما يقول رواد البلاغة الكلاسيكية، فالهزيمة في حد ذاتها ليست موضعًا للسخرية في أي مجتمع، ولكن تكرارها، وطريقة الإدارة التي أدت إليها المتمثلة في انفراد الرئيس الأسبق بالسلطة، وغياب التحقيقات القانونية في أسباب الهزائم، وتعامله بمنطق الأب الذي يحتكر الحقيقة والمعرفة والمصير أمام مجتمع من المراهقين الذين أوكلوا أمورهم إليه.
وتبدو المشاكلة بين الماضي والحاضر واضحةً في هذا التريند عند استدعاء عبد الناصر في الوقت الحاليّ، لأن عبد الناصر لم يصل إلى السلطة إلا من خلال تحرك عسكري قاده برفقة زملائه في تنظيم الضباط الأحرار الذين أطاح بهم لاحقًا، ليصادر بعد ذلك الحريات السياسية والحياة النيابية والمجال العام وينفرد بالسلطة، وهو ما تم استنساخه مجددًا عندما تحرك الجيش ضد الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، في الـ3 من يوليو/تموز 2013، بقيادة الرئيس المصري الحاليّ عبد الفتاح السيسي الذي أطاح بكل رفقائه العسكريين وانفرد بالحياة السياسية، كما يحمل “الترند” في نفس الوقت تبشيرًا مبطنًا بهزيمة المشروع الحاليّ للسلطة، ولكن المجتمع بأكمله سيتحمل مسؤولية هذه الهزيمة.
تعتبر السخرية في حد ذاتها سلاحًا مثاليًا لقتل السرديات التقليدية إذا تراكمت في اللاوعي الجمعي المصري
استخدام السخرية السياسية كأداةٍ، عبر الـ”الكوميكس” والـ”ميمز” التي تمثل تطورًا للفنون الشعبية التقليدية كالنكتة والمثل، في الفضاء الافتراضي الذي يعتبر مساحةً موازيةً للقنوات الرسمية التقليدية التي تمثل السلطة، من الأجيال الجديدة، هو بمثابة إعادة كتابة للتاريخ الشفاهي المؤرخ لهذه الحقبة التي نهل من قيمها وأحداثها كل من حكم مصر لاحقًا، لأن النصوص الشفاهية التي أرخت لهذه الحقبة إيجابيًا ستندثر مع الوقت، لأسبابٍ تتعلق بعدم ملاءمة بنيتها الشفاهية/السمعية للقوالب البصرية المعاصرة، ولأسبابٍ تتعلق بتغير المزاج العام لدى الأجيال الجديدة، التي لم تعد تنظر للرموز التقليدية نفس النظرة السابقة، وهو ما يعني عدم الحاجة لهذه النصوص، ومن ثم نسيانها وموتها.
حيث تعتبر السخرية في حد ذاتها سلاحًا مثاليًا لقتل السرديات التقليدية إذا تراكمت في اللاوعي الجمعي المصري، ولم ينجح النظام – في المقابل – في إعادة إنتاج هذه السرديات في قوالب جديدة.
السيسي، وإن لم يكن متمسكًا بالسياسات الاجتماعية الاشتراكية التي أفرزتها ثورة يوليو نظرًا لاختلاف السياقات بشكل كبير، إلا أنه متأثر بحالة يوليو
وعن تأثر النظام الحاليّ والسابق بالإرث الناصري بشكل خاص وإرث يوليو بشكل عام، يؤكد سامح أبو العرايس، خبير أسواق المال وأحد داعمي حملة “أنا آسف يا ريس” المؤيدة للرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، إن الرئيس الحاليّ عبد الفتاح السيسي، وإن لم يكن متمسكًا بالسياسات الاجتماعية الاشتراكية التي أفرزتها ثورة يوليو نظرًا لاختلاف السياقات بشكل كبير، إلا أنه متأثر بحالة يوليو، ومدرك لأهميتها التاريخية في تشكيل الواقع الحاليّ، وهو حريص، بدوره، على استدعاء رموزها دومًا، حيث أسمى حاملة المروحيات الفرنسية التي تعاقد عليها الجيش المصري في سبتمبر/أيلول 2015 باسم “جمال عبد الناصر” كما أسمى أكبر القواعد العسكرية المنشأة حديثًا في الشرق الأوسط وإفريقيا باسم “محمد نجيب”، وضمن الاحتفال بتخريج الكليات العسكرية في يوم واحد، هو يوم الـ23 من يوليو كل عام.
أما الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، فقد حرص على زيارة ضريح جمال عبد الناصر بصورة دورية خلال فترة حكمه، وأطلق اسم كل من جمال عبد الناصر ومحمد نجيب على محطتين في الخط الأول والثاني بمترو الأنفاق، وساهم من جيبه الخاص في إنتاج فيلم ناصر 1956، وأسمى ابنه الأكبر “جمال” حبًا في جمال عبد الناصر، وكلها علامات “سيميولوجية” دالة على استلهام ناصر وحركة يوليو في صراع تاريخي متبادل بين الضباط والشباب.
المصدر : نون بوست