أحمد ثروت: ليلة رائعة لقطار

0

الآن

الساعة السادسة تماماً، كل شيء يدور دورته، تفاصيل رتيبة مجهدة، بلا أي نوع من اليقين. في السادسة مساءً الأخرى، السادسة مساءً التي تخص الغد، سيكون كل هذا مختلفاً.

سينطق الأبكم، ستشتعل المواقد تحت فناجيل القهوة المُرّة، سينسكب الكحول النقي أنهاراً صغيرة بين المقاعد الخشبية القصيرة، فوق قطع الإسفنج المزركشة، وستنهمر الحروف من كل صوب، بلا قيد أو معلمين عابسي الوجوه، فكل شيء تم ترتيبه.

الحقيقة المبهجة أن البداية ستكون قبل ذلك بست ساعات كاملة، في السادسة صباحاً، بعد اثنتي عشرة ساعة من الآن، ستكون أولى الخُطى، حين يتحرك قطار العاصمة حاملاً بين عرباته المتصلة، كل أفكاري. يضم روحي الحقيقية وجسدي الذي لن يعود غريباً عني.

سأصل محطة القطار في الخامسة تماماً، قبل موعد انطلاقه بساعة كاملة، سأكون في الشارع الرئيسي، أوقف عربة التاكسي السعيدة في الرابعة والنصف. في الرابعة ستكون حقيبتي فوق ظهري، ألاعب فنجان القهوة المحلاة، الأخيرة في هذا المكان، أراجع تذكرة القطار لمرة جديدة، وأقضم قطعة الشيكولاتة التي أعددتها لهذه اللحظة. في الثالثة تماماً سيهتف منبه الهاتف الخلوي داخل السمّاعة المتصلة بأذني، سأطفئه في هدوء أحاول جلبه من صمت المكان، سأغسل أسناني ووجهي، وسأدعك جسدي بكل قوة بالصابونة الجافة، سأبدّل ملابسي قطعة قطعة، ثم سألقي بالملابس القديمة في علبة القمامة الضخمة. سوف أتحرك كآلي بُرمجت كل خطواته بدقة مذهلة، سأقلّب البن بالسكر، ثم أضيف الماء يسيراً فوقهما، سأشعل الموقد، وأنتظر.

أمامي ست ساعات أُعّد فيها كل ما يلزم، في منتصف الليلة تماماً أنام، ثلاث ساعات يكفينني للنوم. في الغالب لن أغفو حتى، لكنني سأظل ممدداً فوق سريري منتظراً اللحظة الفاصلة.

حقيبتي السوداء فقدت زهوتها منذ زمن طويل، لها يدين قصيرتين. عرفت أن “الهاندباج” الرخيصة لن تتحمل كل شيء؛ فاستقر قراري على اختيار الأهم، أقرب الاشياء لقلبي. أرتبط بشدة بالأشياء الساكنة، بينما لا أرتبط بالبشر هكذا أبداً. في الحقيقة لا أحب أن أحمل أي شيء من هنا، لكنها جهوزية عقلي لكل الاحتمالات، كل الخطوات في الغالب ستتم في أول يوم، رغم ذلك، سأحاكي النمل، وأعّد نفسي للنجاة أياماً احتياطية، هذا عين العقل وتمام الحكمة.

مؤكد أن “اللاب توب” يحتضن زمناً كان كحياة ما. لوحاتي البائسة، أفكاري التي لم تكتمل أبداً، وأفلامي المقدسة، كل هرائي اللازم لأكونَ ما كنتُ. ليس مناسباً أن أحطمه هنا والآن، سأضطر لاصطحابه، لكنني لن أفتحه أبداً مرة أخرى، سأتخلص منه بعد وصولي مباشرة.

حقيبتي ستضم ثلاثة كتب، لا أحب غيرها، ولن أقرأ سواها. سأحتفظ بألبوم الصور القديم، ألبومي الضخم الذي اقتنصته من أبي في لحظة سعادة نادرة، لحظة غياب عن الواقع. سأترك لهم كل الأوراق الصفراء والبيضاء، الملساء والخشنة، فليحرقوها أو يستخدموها في حماماتهم الخاصة، لا أهتم. فكل شيء تم ترتيبه.

المأوى الذي ينتظرني ليس فندقاً، فالكلمة غير معبّرة عنه حقيقةً، لا أظن أن هذه التكلفة يقبلها فندق حقيقي، على الأرجح سيكون “لوكاندة” حقيرة، لا يهم. المهم أنه يقع في منتصف كل شيء، يصل كل مكان بكل مكان آخر، كما تنام أمامه عربة فول ثابتة، ومقهى رخيص يرقد جواره، هذا كل ما أريده في تلك الفترة الفاصلة. حسبت بالظبط تكلفة المواصلات الداخلية للذهاب والعودة، من “اللوكاندة” للمكان المنشود، نظمت أيضاً نقود الطعام والقهوة. لقد أكدوا لي أن كل ما يلزم سيتم في أول يوم، لكنني أخذت احتياطاتي؛ تحسباً لأي تغير في الأحوال. كل شيء تم ترتيبه.

أتذكر أن

 الحب، هو مجرد مصطلح، تعريف، مفهوم لغوي، كما تعلمت. أنا ذكر وهي أنثى، ربما نتكامل في أشياء كثيرة، ربما بيننا مشتركات عدّة. التقينا في بيئة محدودة الوقت والمكان، فمن المنطقي أن نكون حبيبين. لا أفهم غير هذا. بينما الحب بالنسبة لها، تجربة. تجربة خاصة ولّدت تعريفها المتفرد، تجربة مرّت بمثلها منذ طفولتها حتى لقائنا، انقطعت التجربة الثرية مرّة واحدة، فكنت البديل. كانت تشبه جنة بلا حدود. علاقتها بأبيها هي النموذج المعرفي، والممارسة الحقيقية، التي تعلمتها لكلمة “الحب”. كانت تحب أباها لأنه منحها حبه دفعة واحدة، دون شروط، دفقات متتالية لا تنتهي. تذكُر يوماً كان محتماً أن يعاقبها، لقد ارتكبت جُرماً، تمرّدت على تعاليمه، واندفعت خارج الطريق الذي خطّه لها. لم يعاقبها أبوها، لم يخاصمها أو يعبس في وجهها، ارتسمت على وجهه أجمل ابتسامة عرفتها، واحتضنها.

لا أذكر من علاقتنا إلا يوم ابتعَدتْ، لحظة انشقت عنّي. أخبرتني أن ما شجعها على قبول محادثتي الأولى، هو شكلي. ملامحي. أنفي المستقيم ذو العظمة البارزة، عيناي النصف مغمضتين، شعري المبعثر عن قصد. ملامحي هي هي ملامح أبيها. قالت أنني أشبهه تماماً، لكنه شبه ظاهري، “أبي لم يكن متعصباً لرأيه مهما آمن به، لم يكن رافضاً للآخر، وبالطبع لم يكن عنصرياً”. أخبرتني أن تصرفاتي التلقائية كشفت هويتي، إنها أفعال وردود أفعال طبيعية. صرخت في وجهي “أنت تكره نفسك، من يحمل كل هذه الكراهية للآخرين، هو شخص يكره نفسه”.

لم تتحرك عيناي ولم تنبس شفتي، ظللت أنظر نحوها. انتظرت حتى هدأت نبرة صوتها المرتفعة.

*المصدر: موقع الكتابة الثقافي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here