إذ يبلغُ الزلزال هذا القَدْرَ الفاحشَ من العنف الملحميّ فيحمل في ركابه، وهو الذي تقاسُ مدّته بالثواني، هذه الأهوالَ التي لا يحيطُ بها الخيالُ: ينشرها في نطاقٍ من الأرض يعادل مساحة دولةٍ معتبرة، فيقتل بشراً بالألوف ويثخن في آخرين بعشرات الألوف ويحيلُ مدناً عامرةً إلى خرائب وركام ويدمّر مصادر معاشٍ ومقوّمات سكنٍ لملايين فيحيلهم إلى لاجئين في بلادِهم بعد أن يسقط ما تقوم به حياة الجماعات من مرافق ومنشآت فضلاً عن إسقاطِه ما يستقيم به عيش الأفرادِ والأسر… إذ يقوى على هذا كلّه ربيبُ الثواني هذا، تتوه المخيّلة وتلبثُ قاصرةً، مهما تجتهدْ، دون مقاربة ما يعصف بهذه النفوس المصابةِ كلّها من مشاعر الفجيعة المتشعّبة وضروب العناءِ في الأجسام والنفوس، وهذا فضلاً عن الامتحان الذي تمثّله مواصلةُ العيش ومواجهةُ ضروراته: بعونٍ خاصٍّ أو عامٍّ تتفاوتُ فاعليّتُه ومناسبتُه للحاجاتِ، في جانبٍ من الحالاتِ، وبلا عونٍ يذكَرُ، في جانبٍ آخر، وهذا مع عبْءِ الخسارات يُثقِلُ المناكبَ في الحالاتِ جميعاً.
إذ تقفُ المخيّلةُ حاسرةً أمام هذا كلّه، يبقى عليها أن تواجه الأسئلة المتّصلةَ بالتغيير الذي يفتّرضُ أن يتمخّض عنه في الخيارات الكبرى والمعايير الأساسيّة، في النظرِ العامّ إلى الحياةِ والعالم، حدثٌ خليقٌ بألاّ يبقى بعدهُ شيءٌ من هذا كلّه على الصورةِ التي كان عليها قبْلَه، زلزالٌ في الأرضِ يسوغُ السؤالُ معه عمّا إذا كان سيُسْفِرُ عن زلزالٍ في العقول…
لا فائدة ترجى، بطبيعةِ الحالِ، من ترسّمٍ لا يغادِرُ الاستدلال المبدئيّ ومستوى الفرضيّات ولو بدت مستجيبةً لمنطقٍ ما… فما دامَ هذا المنطق لا يستندُ إلى ما يكفي من الشواهد والشهادات المؤيّدة له فهو قد لا يكون سوى منطقِ استحبابٍ من جانب المحلّل أو المخمّن. وقد يكون في الإصغاء إلى ما يبدُرُ، على الفور، من المقيمين في دائرة الحدثِ أو الخاضعينِ لمفاعيله، على اختلاف المفاعيل ودرجاتِ الخضوع، بدايةُ استهداءٍ إلى بعضِ وجوه التغيير التي يفتَرض أن يكون الحدثُ منطوياً عليها أو منبئاً بها في المواقف الأساسيّةِ والتوجّهات الكبرى. ولكن يبقى واجباً انتظارُ أن تنقضي الوهلة الأولى وأن يتّخذ التعبيرُ عن المواقف والتوجّهات المشار إليها صيغاً تتّسم بقدرٍ من الثبات والانتظام بعدَ أن تكون هزّات الأرض نفسها قد هدأت وباتت محاولاتُ الإحاطة بالصورة (أو الصور) العامّة للحدث أوفرَ حظّاً في الإفضاء إلى ثمرة.
يفترَضُ أيضاً أن يؤونَ أوانٌ للدرس المنظّم أي، أوّلاً، لاستنطاق البشرِ الممتحَنين بالحدث ولاستطلاعِ المحيطِ الذي يحفّ بهم، عن قربٍ أو عن بُعْدٍ، وذلك على نهجٍ يتعدّى مجرّدَ الإحصاء (إحصاءِ الضحايا، إحصاءِ الأضرار، إحصاء الموارد والمعوناتِ، إلخ.) لينفذَ إلى المواقف والتوجّهات، على اختلاف مستوياتِها والمجالات. سيحصلُ شيءٌ من هذا كلّه، لا ريبَ، ولكن لا يُعرفُ الآن مداهُ ولا درجةُ وفائه بالغرض العامّ الذي نقول ههُنا بوجاهته القصوى.
من الأسئلة التي يتوجّب اتخاذها موضوعاتِ بحث تعليلُ الحدث: هل يغلب الثباتُ على التفسير بالمشيئةِ الربّانيّة، وهي لا تُرَدُّ تعريفاً، أم يزدادُ التركيزُ على العوامل الطبيعيّة في تفسير الزلزال-الحَدَثِ، باعتباره نكبةً حصلت، بطبيعة الحال، ولكن أيضاً في تفسيرٍ محنٍ أخرى محتملةٍ: الفيضان أو الجفاف، الأوبئةُ على اختلافها، إلخ. وهو (أي التركيزُ الأخير) يحملُ على التفكير في سُبُلٍ (مفتوحةٍ أو مسدودةٍ) لمداراة المحنةِ والحدّ من نطاقها وشدّتها. فإذا كانت السُبُلُ المشارُ إليها قابلةً للفتحِ لولا أوضاعٌ اجتماعيّةٌ أو سياسيّةٌ تحولُ دون فتحها جاز التساؤلُ عمّا يجبُ فعله سعياً إلى إصلاح هذه الأوضاع، ما دامت تعريفاً قابلةً للتعديل بما هي ترجمةٌ لمصالح بشريّةٍ يهدّدها الإصلاح فتأباه.
هذا وقد ينطوي العزوف عن التفسير بالمشيئةِ الربّانيّة على استبعادٍ منطقيّ لتحقّق هذه المشيئة في حالة الزلزال، أو أيضاً على رفضٍ لتقبّلها إن لم يوجد بدٌّ من التسليم بالتحقّق. وذاك أن صورَ الضحايا، في النكبةِ الحاضرةِ، تكرّرُ آلافَ المرّات مشهدَ الطفل المصابِ بالطاعون الذي يحملُ الطبيبَ، في روايةِ ألبير كامو المشهورة، على الصياح في وجه الكاهن: “هذا، على الأقلّ، كان بريئاً!”. على أنّ التوجّه نحو هذه الأقاصي الماورائيّة لا حتميّةَ له ولا صعوبةَ في استحضار اجتهاداتٍ جاهزة تتيحُ تجنّب التلبّث عنده. فقد يتوقّف المنكوبُ أو المتأمّل في النكبةِ عند أسئلةِ الأرض المباشرة: ما كان يمكن فعله لتقليص الأضرار وصون الأعمار وحالَ دونه الفسادُ أو إعراضُ ذوي السلطةِ عن مشكلاتٍ بعينها، وثيقةِ المحالفةِ للفقر عادةً وشديدةِ الملازمةِ للفقراء، وانصرافُهم إلى أخرى يجدون في معالجتها صالحاً لهم ولذوي الحظوة عندهم. بل إنّ المنكوب قد لا يحتاج إلى استذكار ما فاتَ من وجوه وقايةٍ بقي تحصيلها رهناً بإراداتٍ مفتقدة. قد تكفي المنكوبَ معاينةُ التمييزِ في سياسةِ الإغاثة، بل السرقة والتبديد في موادّها ومواردها أيضاً، وهو ما بدأت تظهر طلائعه. قد تكفيه هذه المعاينة مشقّةَ الأسئلةِ المصيريّة فيتخذ لنفسه موقعاً وموقفاً مغايرَيْنِ لما كان فيه وعليه قبل النكبة.
ستحصلُ أشياءُ تشي بالتغيير: أشياءُ من هذا القبيل وأخرى من ذاك وثالثةٌ من ذلك. لا يعرف أحدٌ المقادير، الآنَ، ولا يملكُ أحدٌ مقاليدَ التنبّؤ بما سيَرْجح. التسليمُ والخنوعُ احتمالٌ قائمٌ أيضاً مهما يكن مقدارُ ما قد يثيره من أسف. ثمّ إنّ تمخّضَ النكبةِ التي أمعنت تمزيقاً في أطر التضامن الاجتماعيّ القائمةِ عن تيّاراتٍ سياسيّة (أو “وجوديّة” أيضاً) ذواتِ وقْعٍ وتنظيمٍ وديمومةٍ أمرٌ لا تعزّزُ أنواعُ التمزّقِ الحاصلةُ حدوثه. فحيثُ تبدو العقول وبَعْدَها الإراداتُ معنيّةً بالزلزال (وهي معنيّةٌ في دائرةِ النكبةِ أوّلاً ولكن أيضاً في المحيطِ الأوسعِ لهذه الدائرة) تبرزُ الدعوة إلى التغيير في العقول والإرادات. ولكنّ النكبةَ، وإن انطوَت على الدعوةِ المذكورةِ، ليست، بحدِّ ذاتِها، ضامنةً للتلبية. وإنّما يحتاج زلزالُ العقولِ إلى تعزيزٍ لزلزالِ الأرضِ بعواملَ حاسمةٍ أخرى.
*المدن