أحمد المأمون: الدولة المتخيلة في سورية: كيف صوّرَتها الدراما السياسية؟

0

تُعتبر أشكال التعبير والتمثلات الفنية، من الرسومات والغرافيتي والسينما والأعمال الدرامية وغيرها، أحدَ الأجزاء المُكوّنة لثقافة مجتمع ما، وتعبّر عن مستويات الحرية السياسية والاجتماعية للفضاء العام الذي صدرت عنه، وتعكس عمليات بناء الهويات القومية كما تساهم في صناعتها، عبر التشديد على الرموز السياسية والتاريخية والاجتماعية، التي قد تصل إلى حد الأسطرة في هذه الأعمال. 

وتمثّل كذلك أحد أشكال المقاومة والنضال في السياق الاستعماري، كما يشير إلى ذلك تشارلز تريب في كتاب “السلطة والشعب: مسارات المقاومة في الشرق الأوسط” (ترجمة ربيع وهبه – الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2016)، فيما تمثّل مساحة للصراع بين الخطابات السياسية في الدول السلطوية، فتارةً تعبّر عن الاحتجاج السياسي، وتارةً أُخرى تغدو أداة توظفها أجهزة الدولة السلطوية لتوجيه الجمهور وضبطه، بترسيخ مفاهيم أيديولوجية، أو تكريس أوضاع سياسية واجتماعية معيّنة، إلى مساحةٍ للتنفيس السياسي.

وقد ذهبت الباحثة ليزا وادين إلى إظهار وتحليل مستوى انشغال واهتمام نظام حافظ الأسد السلطوي بهذه الأعمال الفنية، والبلاغة الإنشائية السياسية الرسمية، والعروض العامة، سعيًا من النظام لتكريس صورة القائد الأب، وتقديس الحاكم الفرد في محاولة لإضفاء الشرعية السياسية، وتُظهر مدى حيوية وفاعلية هذه الأدوات داخل المجتمع السوري. وقدّمت أدواتٍ تحليليةً جديدةً لفهم طبيعة النظام الذي نشأ في سورية. 

وقد نَظَرَ باحثون في السياق السلطوي والشمولي للحالة السورية إلى اعتبار الفضاء السينمائي والدرامي وعدد من التعبيرات الثقافية الأخرى، انعكاساً للثقافة السياسية للمجتمع السوري، وأن هذا المجتمع ليس إلا صورةً مطابقةً لدولته السلطوية، وأن الشعب السوري لا يختلف عن حكومته وحاكمه. بينما نفت ميريام كوك هذه الأوهام والأحكام المسبقة عن الثقافة السورية، في محاولة لرد الاعتبار للثقافة السورية، وإلى وضع تلك الأعمال التي ينتجها النظام في سياقها الدقيق، عبر إبراز الأعمال الثقافية المعارضة في زمن الأسد الأب.


الدراما والدولة
باستعراض سريع لعدد من الأعمال الدرامية السورية التي تناولت الدولة السورية ومؤسساتها وخطابها، فإنَّنا نلاحظ أنَّها لا تمثّل خطاب السلطة دائماً، كما أنّ عدداً منها لا يمكن اعتباره تعبيراً عن مجتمع “مماثلٍ لدولته السلطوية” كما ذهب بعض الباحثين. فمثلًا، عام 2015 عُرِضَ مسلسل “العرّاب” بجزأيه (نادي الشرق، وتحت الحزام)، وهو عمل من إخراج حاتم علي، تم تصوير مشاهده داخل سورية، لكنه يحمل سيلاً من الرسائل السياسية الجادة، فهو من المشاهد الأولى ينتقل إلى أجواء المافيا الإيطالية المستوحاة من فيلم “The Godfather” في تقديم “دولة” البعث العسكرية في سورية، ويستفيد فيه حاتم علي من كثافة المعرفة السوسيولوجية والسياسية والاقتصادية للسنوات العشر الأخيرة السابقة للثورة، إذ تمثلت صورة “الدولة ضد الأمة” بلغة برهان غليون في أعلى صورها الدرامية في هذا العمل. 

ومثَّلَ المسلسل انعكاساً للتحوّلات الاقتصادية في سورية قبل الثورة، والتي شكّلت طبقة جديدة من أبناء رجال الأعمال القدامى، وأبرز فيها حاتم علي الصراع بين “قيم” الآباء وبين جشع وتوحّش الأبناء، في تصويرٍ يعكس قول عزمي بشارة عن العقد الأخير: صعود فئة “الذئاب الشابة” ونظام “التشبيح والتشليح”. إنَّ هذه الصورة للدولة وعجزها عن ضبط المتنفذين وفرض هيبة القانون، لا تعبّر بالتأكيد عن خطاب السلطة بشكل مباشر، لكنها في الوقت ذاته قد أُنتجت وصُوّرت داخل سورية، وقد سمحت الرقابة بتنفيذه هناك، وهو ما يدفع للتساؤل حول أسباب السماح بذلك، ومدى ارتباط تصاعد الخطاب النقدي في الدراما للسلطة بالواقع السياسي للبلاد.

يظهر من هذا العمل، وكذلك أعمال أُخرى، أن ثمة أعمالاً درامية سياسية جادة جدًا تم تمريرها، وأن الدراما السورية ليست كلها صنيعة الدولة وتحمل رسائلها ورموزها السياسية فقط، بل يمكن تلمّس الرموز والرسائل السياسية الهامة الكامنة في البنية الدرامية، كانت قد مرت، سواء بوعي أو بغير وعي، على الرقابة السياسية لأجهزة الدولة، وعلى صنّاع العمل ذاته. 

إذا ما افترضنا أنَّ هذه الأنواع المختلفة من الخطاب التي تتمثل في الدراما تعبّر عن “خطابات” سياسية مختلفة، تتراوح بين خطاب السلطة، وخطاب المثقفين أو المعارضين، فإنّ البحث عن صورة الدولة في الثقافة السورية من خلال تمثّلاتها في الدراما يصبح بحثاً مشروعًا.

السؤال هو: ما مدى ترسخ مفهوم الدولة في الوعي السياسي للسوريين، وهل بالفعل يمتلك السوريون مخيالاً دولتياً، يمايز بين مفاهيم “الدولة” و”السلطة” و”النظام”؟ وإذا كان بالفعل هناك مخيال دولتيّ، فهل يتخيل السوريون الدولة كدولة سلطوية فحسب، كما يظهر في العمل سالف الذكر، وكما ذهبت بعض الأدبيات؟ أي هل الدولة في المخيال السياسي السوري لها تخيل نمطيّ ذهنيّ استاتيكي أم أن تصوّر الدولة في المخيال الثقافي السياسي السوري متحرك وديناميكي وفق انزياحات الدولة ذاتها وتمثلاتها في الواقع السياسي والتاريخي؟ أم أنَّ المخيال السياسي للثقافة السورية هو مخيال سلطة، ولا دولتي بالمعنى الدقيق؟


دولة، نظام، غابة 

ما نلاحظه أنّ الدولة شبه غائبة عن الدراما السياسية، فيما تختزل الدولة في النظام السياسي وأدواته السلطوية، ولا يظهر هذا النظام بوصفه كياناً معادياً وسلبياً في حياتهم، بل إن صورته المخيالية تطابق واقع النظام ذاته في الفترة التي يتناولها كل عمل، منذ الاستقلال (1946) حتى يومنا هذا. 

بهذا المعنى، يمكن القول إن السلطة هي من تصنع وتعيد تشكيل الثقافة السياسية للمجتمع، وأنه ليس هناك ثقافة سياسية استاتيكية للمجتمع. وهو ما يمكن الاستناد عليه من خلال مجموعة من الملاحظات، يمكن تلخيصها بأن الدراما التي سعت إلى معالجة مراحل الأربعينيات والخمسينيات في القرن العشرين من تاريخ سورية، مختلفة جذرياً عن المراحل التي حاولت معالجة قضايا سياسية، وصورة الدولة من خلفها، في مراحل بعد الثمانينيات حتى نهاية العقد الأول من القرن العشرين، كما اختلفت لاحقاً في المرحلة الثالثة التي تزامنت مع تطوّرات الثورة وانكساراتها. 

إذ نلاحظ أن الدولة في الدراما السورية منذ الاستقلال وحتى نهاية الستينيات، كانت دولة غير مستقرة، وتميّزت بنظام الانقلابات والتحولات، والصراعات السياسية غير المحسومة (مسلسل: “حمام القيشاني” بأجزائه الخمسة، “خان الحرير” بجزئيه)، أي أنّها دولة اللااستقرار، والانقلاب والتحوّل، وهو مماثل لمعنى “الدولة” في اللغة العربية، فهي متأتية من الفعل “دال” أي التداول والتغير والانقلاب. ولكنها في نهاية المطاف، مخيال دولة. فسورية في هذه الأعمال حاضرة كهوية وطنية جامعة، ولا تأتي في سياق السخرية والاستهزاء، كما جاء في الأعمال اللاحقة، ويظهر شكل الدولة عبر المؤسسات وحضورها والإيمان بها، رغم اضطرابها.

إذا ما نظرنا إلى مسلسل “حمام القيشاني” بأجزائه، نرصد حالة مقارنة مع الدراما اللاحقة في مستوى تمثيل الواقع والتاريخ السياسي. ورغم حضور رواية “البعث” عن تلك المرحلة فيه، إلا أنها تمثل تماماً الحقائق التاريخية لسورية الخمسينيات. فالشخصيات العسكرية: حسني الزعيم، سامي الحناوي، أديب الشيشكلي، أنور البنود، شوكت شقير، عدنان المالكي، عبد الحميد السراج، مصطفى حمدون، والسياسية: شكري القوتلي، هاشم الأتاسي، خالد العظم، وغيرهم الكثير، حاضرون في كل تفاصيل العمل، وصراعات الأحزاب، من الحزب القومي الاجتماعي السوري، والبعث، والاشتراكي، والإخوان المسلمين، والشيوعيين، تجد مكاناً بارزاً لها داخل العمل، ومدى انعكاس هذه الصراعات على حياة الناس اليومية، وداخل منازلهم. 

وعدا هذا وذلك، نجد كيف يتم الترتيب لكل عمل انقلابي داخل سورية، بالتفصيل الممل والدقيق. مع إظهار واضح لأثر العوامل الخارجية (صراع الاستقطابات الإقليمية والدولية) على سورية، ومجريات ذلك على السياسة السورية المحلية.

في المقابل ظهر انعكاس حقيقي لحالة التماهي وذوبان الدولة في النظام، وقد بدا أن النظام مستقر وثابت بعد السبعينيات حتى 2010 على الواقع، وانعكس في الدراما كذلك عنف وبطش النظام، في تقارب مع واقع الدولة المتوحشة، بلغة ميشيل سورا (مسلسل: “غزلان في غابة الذئاب”، “لعنة الطين”، “العراب” بجزئيه، “المفتاح”)، فمسلسل “المفتاح”، مثلاً، بيّن حجم وضخامة الفساد في “مؤسسات” النظام، وكيف يمكن الصعود على سلم المال ومن ثم السلطة، وكيف يمكن إنتاج الفاسدين. فشحصية مسعود، المُعدم والقادم من إحدى عشوائيات مدينة دمشق، أحد التمثلات الصريحة لصعود الفاسدين والذئاب داخل النظام، فيما تمثل شخصية قاسم إمكانية إعادة إنتاج الفساد وسلسلة الفاسدين. 

في حين تحيل المرحلة الزمنية الثالثة (2010 – 2021)، إلى غياب حضور الدولة في حياة المواطنين اليومية، وتأمين احتياجاتهم المعيشية وإدارة شؤونهم، وكأن الناس تعيش في غابة، تدير شؤونها عبر “العالم السفلي”: المخدرات، السلاح، الاتجار بالنساء وغيره (مسلسل: “على صفيح ساخن”، “قلم حمرة”)، في توافق مع تغيّر آليات تعاطي النظام مع المجتمع بعد الثورة في مناطقه.

ويمثّل مسلسل “ولادة من الخاصرة” نموذجاً واضحاً لتطوّر تمثّل الدولة في الدراما باختلاف مراحلها التاريخية، إذ كانت السلطة مستقرة ومترسّخة في الجزء الأول، بينما بدأت تخوض صراعاً متوحشاً ضد الثورة وتنسحب من الجوانب الخدمية والاجتماعية في الجزئين الثاني والثالث.

إن مدى وعي السوريين بالفرق بين الدولة من جهة، والنظام والسلطة من جهة أخرى، يمكن رصده من خلال تناول الأعمال الدرامية لمظاهر الدولة، أو إهمالها لهذه المظاهر، واقتصارها على أدوات السلطة ومؤسسات النظام المتصلة بشكل مباشر مع المواطنين، بعيداً عن رمزيات الدولة ومفاهيمها المتسامية على الانقسامات المجتمعية والاختلافات بين الأنظمة السياسية المتعاقبة، بوصفها “سورية” المجرّدة ذهنياً.

(العربي الجديد)