“الأمر الأساس، الذي تشترك فيه البشرية كلها، هو قدرتها على احتمال الألم” – ويليام ديفيز.
قصة الخلق
ما تشاهد شريط سينمائي، لكنه شريط تجريدي واقعي، وحتى سريالي. لا بد أن هذا الإحساس راودها كفنانة تشكيلية، وهي تجلس بحديقة الفيلا الفخمة التي تسكن، بسورها العالي، الذي يُخفي أكثر مما يُظهر. شاهدتْ في البدء شريطاً متكرراً، لمجمدات كهربائية، واحدة تلو الأخرى، كأن الشريط ثابت على الرغم من الحركة، أعقبها ظهور صناديق متكدسة فوق بعضها، العلامات التي عليها تشير إلى مواد غذائية. لم تستغرق وقتاً، ليس أكثر من يومين حتى مرّ خلف السور، حشد من مولدات كهربائية، يتبعها خزانات وقود “بنزين”. ما شاهدت من خلف السور، كانت تحمله سيارات يخفيها عنها السور العالي. تتالى المشهد بشكل مزدحم متدفق، ثم أخذ في البطء حتى سكن أو مات.
عاشت في فيلا ضخمة، كما قصر قديم، ازدحمت فيها كل العائلة، التي تسكن فيلا مجاورة، أو جاءت تسعى، من أحياء بعيدة، ظانة أن هذا الحي الثري، الذي في أطراف “بغداد”، لن تطاله كارثة. في الفيلا الممتلئة بالمعتزلين غصباً، وضعت العديد من “المجمدات/ الفريزرات”، ثم ملئت بما لذ وطاب، أو بما يمكن تخزينه، من لحوم وأسماك وخضروات وفواكه. عند اقتراب الكارثة، تم تزويد الفيلا، بعدد من المولدات الكهربائية، حيث قطعت الكهرباء عن بغداد، بعد أن اندلعت الحرب، لم تنته الاستطرادات، حتى ملئت الفيلا بخزانات من الوقود، لقد ضربت محطات الوقود أيضاً، لذا بعد أيام ثقيلة قصيرة، نفد الوقود.
لما نفد الوقود لم ينفد الصبر، لكن ما بالمجمدات بدأ بالفساد، المحتشدون المعزولون بالفيلا، اقترح الحكماء فيهم، أن يأخذوا برأي العواجيز: فساد بطني ولا فساد رزقي. من هذا اقترح الحُذاق مسابقة أكل، عند الفطور والغداء والعشاء، ثم ترويقات بينهم، فأُعدتْ طاولة كما طاولة روليت، الكاسب الأخير، سيجمع ما في جيوب الرجال، وما على أعناق النساء.
ذاكرتي مشوشة، وكما كلمات متقاطعة مليئة بالأخطاء، تذكرت هذه الأمثولة، التي طالعت منذ أمد، كيوميات فنانة تشكيلية عراقية، عاشت حروب العراق في مدينتها بغداد، كنت قرأتها بصخب ضاحك، فشر البلية ما يضحك، وقد كانت كاتبة بارعة بدليل، أن تجتاحني الكتابة صحبة هذه الجائحة، مستنيراً بالقول المأثور: أن البلاء يأتي مجتمعاً، لكن مستعيناً عليه، بما يُضحك، فهنا الوردة… هنا الرقص، كما فعل البشر، من يقاتلون حشود الفيروسات في المقدمة، من ممرضات وأطباء وفنيين، وأعمال نظافة ودفن.
قصة القيامة
لما عجز آل الفيلا البغدادية، أمام الأسباب الجارفة، سيول الكارثة، ذهبوا لمعالجة النتائج، فتعاظمت الأسباب. كذا حال هذا العالم، في ما يعيش من أزمات متتالية منذ عقود. الآن وجد أين يعلق عجزه، فالجائحة لا مثيل لها تاريخياً، كي نقيس عليه. لهذا جاء انهيار أسعار “أوكسجين الحياة الحديثة”/ النفط، لا مثيل تاريخياً له أيضاً، و”عاجل” مفردته المفضلة: للمرة الأولى في التاريخ.
لقد تفطنت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، أن الجائحة الحالية لا شبيه لها، منذ الحرب الكبرى الثانية، لكن ما لم تذكره أن تلكم الحرب كانت ثانية، وما بين الثانية والأولى أخذت كرة ثلج تكبر، في تفاصيل عدة عاشتها الكرة الأرضية، بخاصة في مركزها حينها، القارة الأوروبية. كذلك حال هذا الشبيه، عبارة عن تتويج لأزمات متتابعة، أو فتيل قنبلة هيدروجينية، التي لم تجرب على البشر بعد.
فالنفط كما قنبلة، محمولة في حجر العالم منذ أمد، رفقة الحروب التي لا تنتهي، وأخواتها من حروب تجارية، واحتكار صارخ لعالم سبراني مدلهم، والأساس السوق، الذي يلتقط الملايين من رغبات الأفراد وآرائهم وقيمهم، ويحولها إلى أسعار. فالعجل الذهبي النيوليبرالي، رب أميركا المطلق الأيدي المالية العابث، جعل العالم عالماً من ورق “حيث كلما زاد تجريد القضية، زاد احتمال اعتبارها محض سفسطة”، كما يقول المفكر الإنجليزي بنتام.
الجائحة الآن وهنا، كما قنبلة هيدروجينية تفجرت، لعلها نهاية لحرب لم تعلن، نخوضها منذ انتهاء الحرب الباردة، فلقد أنهتْ الحرب الكبرى الثانية الذرةُ، فيما أعلنت نهاية التاريخ (الحرب الباردة)، بفوز النيوليبرالية، لكن حاملة في كترها المسألة الدينية، وعلى أثرها دخلنا في حرب دولية، ضد ما سمي بالإرهاب الدولي. واليوم تدعي المسألة الصحية، المرض الذي اجتاح الأرض، بالحرب الكورونية. إذاً المسألة أننا نخرج من حرب إلى أخرى، رب الحروب العجل الذهبي، الذي أكل الأخضر واليابس، ما يعد موت البشر، ليس المسألة، فالمسألة، التي لا مثيل لها في التاريخ، انهيار الأسعار.
تصدع رأس البشر بانهيار أسعار النفط الصخري، الأميركي، وما شاهدناه لم يكن أعراض قوة عظيمة، بقدر ما هو أعراض ضعف شديد. فالحقيقة أن أميركا، التي انفردت بنهاية التاريخ، لم تعد زعيمة العالم، الذي لم يعد له قائد البتة. لذا الجائحة دقت الباب بكل يد مضرجة، باب عالم يتحرر من القبضة الأميركية، لكن من دون سبيل إلى هذه الحرية، التي ليس بالمستطاع إليها سبيلاً. وكورونا شرعت الأبواب، أبواب عالم يأتي ولا يأتي، ولم تفتح الأبواب، فمنذ أمد نعالج النتائج ونبعُدُ عن الأسباب، لذا فما بعد كورونا كان على الطاولة قبلها، ننتبه له ونغض البصر، لكنه يفعل فعله، بخاصة في العقدين الأولين من الألفية الثالثة، وعلى الأخص هذا العقد الذي ختامه السنة الضارية: 2020.
*المصدر: انديبندنت