أحمد العربي: قراءة في كتاب “من الأمة الى الطائفة.. سوريا في حكم البعث والعسكر” لـ ميشيل كيلو

0

عرى كتاب السياسي السوري الراحل ميشيل كيلو، نظام الأسد في عهد الأب والابن خلال عقود استيلائهم على السلطة، وحلل بقلم الخبير دورهم في تخريب المجتمع السوري على جميع المستويات.

يناقش كتاب “كيلو” المعنون: “من الأمة إلى الطائفة.. سوريا في حكم البعث والعسكر” مختلف المراحل السياسية التي مرت بها سوريا قبل حكم حزب البعث لها، وأفكاره ومعتقداته، وفترة الوحدة بين سوريا ومصر، وصولاً إلى فترة الانفصال.

كما ينقّب في كتابه الصادر عن دار “موزاييك” للنشر، فيما وراء استيلاء حزب البعث على السلطة في كل من العراق وسوريا من خلال انقلابات عسكرية، مروراً بالدور الذي مارسه حافظ الأسد في تفتيت عرى المجتمع السوري، وإلغاء الآخرين عبر حزبه “القائد للدولة والمجتمع”، إلى تأسيسه “الأسدية في السلطة” والتي قبعت في نفوس السوريين من خلال الحكم عبر طائفته للبلاد.

من مرحلة تأسيس “البعث” إلى فترة الانفصال

يناقش كيلو أفكار مؤسسي حزب البعث، ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، فيما يتعلق بـ “الرسالة الخالدة للأمة العربية” وأهدافها الثلاثة “الوحدة والحرية والاشتراكية”، من خلال ربط عظمة الأمة ودورها بتحقيق هذه الأهداف، ضمن منطق رغبوي حتمي، بالتاريخ وتجربة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، انطلاقاً من فكرة: الأمة التي أنجبت محمداً ستلد البعث الذي يدعو إليه ليوحد الأمة ويعيد مجدها.

فيما أن الكاتب اتهم عفلق بأنه ينظر لواقع العروبة بشكل غير علمي، خصوصاً بما يترتب على الحزب لتحقيق هذه الأهداف.

في مقابل ذلك لم يتحدث الكاتب عن موقف البعث وعفلق في مرحلة الاستقلال السوري بعد جلاء الفرنسيين ونشوء الدولة الوطنية السورية بتجربتها الديمقراطية الوليدة منذ 1946، والانقلابات التي حصلت بعد ذلك، على يد “حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي” ودورها في تخريب التجربة السياسية الناشئة حديثاً.

وركّز كيلو في كتابه على توحيد “البعث” مع الحزب “العربي الاشتراكي” بقيادة أكرم الحوراني ليصبح منذ ذلك الحين حزب “البعث العربي الاشتراكي”، والذي طرح ضرورة الوحدة مع مصر بزعامة جمال عبد الناصر، حيث كانوا يرون بها حلاً لمواجهة التحديات التي تحيط بسوريا؛ “إسرائيل و حلف بغداد”، وكذلك ما عدّوه مطلباً مدعوماً من نسبة كبيرة من الشعب والسياسيين والعسكر، خصوصاً بعد الرمزية التي حققها “عبد الناصر” إثر تأميمه لقناة السويس عام 1956.

كان شرط عبد الناصر لتحقيق الوحدة حل الأحزاب في سوريا بما فيها حزب البعث، وتحقق ذلك، حيث حصل الحوراني على منصب نائب الرئيس، وحاز القادة الحزبيين الآخرين العديد من الوزارات، وفق الكتاب.

لفت “كيلو” إلى أن البعثيين لم يقبلوا بمسار الوحدة بعد تحققها، وأحسوا بأنهم مستبعدون وغير حاضرين بشكل كافٍ فيها، لذلك كانوا متقبلين لفكرة الانفصال، حيث وقعوا على بيان الانفصال عام 1961 وتحولت نظرتهم لعبد الناصر من قائد وحدوي إلى رئيس مستبد ومنافس في مجال العمل القومي.

انقلاب البعث

أكّد “كيلو” على أن تجربة الوحدة ومن ثم الانفصال حملت تداعيات كبيرة على البعث وقياداته وقواعده، وعلى اللجنة العسكرية التي تشكلت من ضباط بعثيين سوريين، حيث قرروا الاستيلاء على الحكم في سوريا، وكذلك الحال في العراق.

وفي خضم ذلك، لم يعد عفلق والقادة التاريخيين هم من يتحكم بالحزب، فقد بدأ العسكريون يتصرفون بشكل منفرد، وخططوا مع الضباط الناصريين لإسقاط حكم الانفصال، مستغلين قضية إعادة الوحدة مع عبد الناصر، كما فكر قادة اللجنة العسكرية في استلام السلطة في سوريا رغم قلتهم وصغر رتبهم العسكرية.

وأشار الكاتب إلى أنه بالفعل بعد سيطرتهم على الحكم دخلوا في مباحثات الوحدة مجدداً مع عبد الناصر عام 1963، والتي تمخض عنها مشروع وحدة ثلاثي (يضم مصر وسوريا والعراق) لم يرَ النور، حيث عمل البعث السوري على التخلص من الضباط الناصريين في الجيش، وتبين أن اللجنة العسكرية – يقودها محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد وأحمد المير وآخرون، أغلبهم علويون-  هي الحاكم الفعلي وقد حيدت قادة البعث التاريخيين عفلق والبيطار بين عامي 1963-1966.

وبحسب الكاتب، في عام 1966 سيطرت حركة شباط على الحكم في سوريا، وهرب قادة البعث التاريخيون إلى العراق. عين صلاح جديد قائداً للحزب، وحافظ الأسد وزيراً للدفاع، وبعد فترة حصلت حرب 1967، وأمر حافظ الأسد بالانسحاب من الجولان، ما حمله مسؤولية تاريخية جراء هذه الهزيمة غير المتوقعة، الأمر الذي فتح الكثير من أسئلة الاستفهام حول كيفية حصول ذلك؟

وعرج كيلو على الخلاف بين الأسد وجديد، حيث لم يتوافقا على قيادة الدولة السورية، فحافظ الأسد يفكر بفتح القنوات مع أميركا والغرب ويقبل بقرارات مجلس الأمن 242 وغيرها حول الجولان المحتل. أما جديد فهو حليف للسوفييت، ويرى الحرب الشعبية هي طريق تحرير الجولان. كما سمح جديد للعمليات الفدائية على الحدود مع “اسرائيل”.

وبيّن الكاتب أن المنافسة بين جديد والأسد على من يكون هو القائد الأول استعرت إلى درجة عالية جداً، رغم اتفاقهم المضمر بتقوية نفوذهم الطائفي في الجيش والأمن ومراكز الدولة اعتماداً على “العلويين”.

وفي عام 1970 أصبح الصراع علنياً بين الجانبين فقد استصدر جديد قراراً باعتقال الأسد ومحاكمته عن دوره بهزيمة 1967، لكن حافظ الأسد استبق ذلك باعتقال جديد وأركان الدولة المدنية وزجهم جميعاً بالسجن، وصار قائداً للدولة والجيش والحزب.

“قائد الدولة والمجتمع”

يرى الكاتب كيلو أن سياسة حافظ الأسد اعتمدت في إدارته للحكم على عدة محاور جعلته حاكماً مطلقاً لها مدى الحياة، ليأتي ابنه من بعده حاكماً مطلقاً حتى الآن.

وقال في الكتاب إن أول ما فعله الأسد الأب هو “خلق بنية طائفية علوية في الجيش والأمن وبعد ذلك أخذ يتغلغل في كل مفاصل الدولة”، مضيفاً أن نسبة العلويين بين ضباط الجيش تصل إلى تسعين بالمئة من عدد الضباط بينما النسبة المجتمعية لهم نحو العشرة بالمئة.

وأردف أن الأسد الأب أسس بنية أمنية كبيرة قادتها كلهم من العلويين، وبنى أفرع مخابراتية كثيرة ومتنوعة متغلغلة في المجتمع، وموزعة في كل مدينة وبلدة وقرية سورية، وبالمحصلة أصبحت القوى الأمنية حاضرة في كل شيء.

وشدد على أن الأسد أفرغ العمل السياسي من أي حضور وفاعلية، وأصبح البعث واجهة لسلطة الرئيس الأوحد، أما الأحزاب الوطنية الأخرى وضعت بين خيارين إما الإفناء أو الولاء.

ويعتقد كيلو أن صنع الجبهة الوطنية التقدمية المحكومة بميثاق جعلها أداة بيد الأسد، في الوقت الذي مُنع النشاط الحزبي في الجيش، واحتكر البعث الأنشطة الطلابية الجامعية، والمدرسية أيضاً عبر اتحاد الشبيبة وطلائع البعث، ما أدخل القوى السياسية في حالة موت بطيء.

تغيير توجهات “البعث” عربياً

وكما شتت حافظ الأسد المجتمع السوري، شتت شمل حزب البعث نفسه، وغير من أدبياته، فأجج الخلاف الصراعي مع البعث في العراق كل الوقت، بحسب “كيلو” حيث دعم الأسد الإيرانيين في الحرب ضد العراق، ودعم القوى السياسية المناوئة لحكم البعث هناك، في مقابل دعم بعث العراق للإخوان المسلمين والطليعة المقاتلة في سوريا.

وعلى هذا المنوال استمر التعاون مع أعداء العراق من قبل نظام حافظ الأسد (ومن بعده نظام بشار الأسد) حتى  الغزو الأميركي للعراق عام 2003.

وذهب الكاتب إلى أن حافظ الأسد بدأ بعد ترتيب البيت الداخلي بصناعة دور عربي وإقليمي له، حيث تقارب مع دول الخليج، وعقد اتفاق هدنة مع إسرائيل في الجولان عام 1974، ومنع أي عمل مسلح ضدها.

ودخل الجيش السوري إلى لبنان بالاتفاق الضمني مع أميركا وإسرائيل عام 1975، وحارب منظمة التحرير الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية، ودعم حزب الله ليكون أداة لتنفيذ مصلحة النظامين السوري والإيراني، وكوّن علاقة مصالح استراتيجية مع طهران.

ويرى كيلو أن نظام الأسد استعمل ملفات الإرهاب الدولي مثل حزب العمال الكردستاني، والسلفية الجهادية في أفغانستان والعراق عبر الاستخدام أو الاختراق أو التعاون لتنفيذ مآربه محلياً أو دولياً.

“الأسدية في السلطة”

وأطلق ميشيل كيلو على بنية السلطة السورية مسمى “الأسدية” نسبة لحافظ الأسد، الذي صنع سلطة طائفية “علوية” مستترة بحزب البعث والجبهة الوطنية التقدمية وأجهزة المخابرات؛ هي السلطة المطلقة، ترتبط مع بعضها وفق آليات خاصة سريّة، وتتحكم في كل مفاصل الدولة والمجتمع، أدواتها الأساسية الجيش والقوى الأمنية بقيادات “علوية”.

وقدم كيلو نموذجاً يختصر فيه واقع سوريا في ظل حكم حافظ الأسد، وهو أخوه الشقيق رفعت الأسد قائد “سرايا الدفاع” الذي كان الذراع الباطشة عند النظام، من خلال دوره في أحداث حماة وقتل عشرات آلاف الضحايا.

ويرى الكاتب أن بشار الأسد كرر تجربة أبيه، فقد اعتمد شكل تكوينات طائفية “علوية” عسكرية بقيادة أخيه ماهر مارست نفس الأدوار.

وأدت سياسات النظام الطائفية في توليد رابط مباشر عن مختلف السوريين بين النظام المستبد والطائفة، ما تسبب بحالة من الإساءة للكثير من المعارضين العلويين لنهج النظام، خصوصاً أنهم مرفوضون من طائفتهم، ومضطهدون من النظام، ومشكوك بصدقهم من الشعب السوري.

المجتمع السوري بين التدمير والتدجين

وبحكم تجربة الكاتب السياسية فقد توصل إلى أن “الأسدية” عملت على تدمير السياسة في المجتمع، وتدجين البعض من خلال عمليات البطش واعتقال المعارضين لفترات تمتد لعشرات السنين، حتى أصبح العمل السياسي المعارض نادراً ومخيفاً ومنبوذاً.

وأكمل أن “عبادة الأسد” عُممت في كل مجال مجتمعي مهما صغر أو كبر، وأقنع الناس بأن المصلحة والأمان يعني الولاء للسلطة والالتحاق بالحزب وأدوات السلطة الأخرى.

وصنع الأسد طبقة المنتفعين من السلطة على شكل “حيتان ثراء” مثل رامي مخلوف وغيره من الذين سيطروا على الاقتصاد السوري لعقود.

وبخصوص الأقليات أكّد كيلو أن النظام احتضن بعض رجالاتهم وأقنعهم بضرورة الولاء له لحمايتهم من الأغلبية المجتمعية “السنية”. في المقابل صنع النظام شبكة زبائنية من رجالات الدين ووجهاء هذه الأقليات، فأصبح يعمل بين يديه رجال دين مسلمين تابعين للأوقاف وملتزمين بالنظام نموذجهم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي الذي نافق النظام حتى قتل بيده.

كما يرى كيلو أن البنية الدينية المشيخية “الأوقافية” التي كانت تابعة بالمطلق للنظام، ولكنها تختزن موقفاً معارضاً سيظهر بالتحاق الكثير من هؤلاء المشايخ ورموزهم بثورة الشعب السوري عام 2011.

ترييف السوريين

ويركز كتاب كيلو كذلك على ترييف النظام للمجتمع السوري حيث دفع ببنيته الريفية- الطائفية للالتحاق بالجيش والأمن ووظائف الدولة على كل المستويات، وأسكنها على أطراف المدن، لتصنع واقعاً جديداً.

كما دفع أبناء طائفته لمزيد من الإخصاب والتكاثر في محاولة لتعديل تعدادهم السكاني في المجتمع السوري، حيث سيظهر ذلك بعد أن هجّر النظام أكثر من نصف سكان سوريا بعد اندلاع الثورة هروباً من الموت والاعتقال والظلم المجتمعي، باستثناء أبناء طائفته الذين استخدمهم وقوداً لحربه لينتهي بهم الحال رهينة بيد نظام الأسد.

واستخلص الكاتب أن ارتباط الناس بحزب البعث كان شكلياً وهشاً، فقد سقط القناع عند امتحان الثورة وخروج الملايين من السوريين مطالبين بالحرية والعدالة والديمقراطية وإسقاط نظام “الاستبداد الطائفي المجرم”.

وتطرق إلى “أكراد سوريا” واستخدام نظام الأسد لهم كورقة سياسية، دون أي اعتراف بحقوق مجتمعية لهم، ودفعهم ليلتحقوا بحزب العمال الكردستاني بهدف استخدامهم ضد تركيا، وساعد أكراد العراق ضد النظام العراقي، وبعد اندلاع الثورة سلم حزب الاتحاد الديمقراطي التابع لحزب العمال الكردستاني مناطق في شمال شرقي سوريا بهدف خلط الأوراق.

ولعل الكاتب الراحل ميشيل كيلو الذي اجتهد في كتابه اجتهاداً ملحوظاً، لم يتطرق بما فيه الكفاية لفترة الثورة السورية، ولربما كان ينوي لو امتد به العمر تأليف كتاب خاص عن أبرز حدث سياسي واجتماعي عاشته البلاد بعد آذار 2011، ولكن قدر الله وما شاء فعل.

*تلفزيون سوريا