حسين جرود
شاعر سوري
مجلة أوراق العدد 12
الملف
إلى أي درجة يستطيع الإنسان الفرد أن يؤثّر في هذا المجتمع؟ لا شيء.
بينما كانت أحلامنا العلمية والفنية كبيرة كان اقتناعنا بعدم قدرتنا على إحداث تغيير في السياسة أو المجتمع مسيطراً، السفر أو التفوّق العلمي أو الملّذات الفردية من أحلام اليقظة التي نعيشها، وتحقيق تلك الأشياء يخضع أيضاً للظروف والحظ.
لم يتوقّع أحد أن هذا الركود الكبير يمكن أن ينفجر، الطاغية كان إلهاً إلى الأبد، وكل شيء في مكانه، وهناك نكتة يتم تداولها أن المواطن إن اشتكى سيقول أن عدد الخوازيق في الشوارع قليل.
بل وصل الأمر إلى حدّ التماهي مع النظام وإقناع أنفسنا أن قصائد أحمد مطر ونزار قباني السياسية تتحدث عن حكّام دول الخليج وليس عن القذّافي وحافظ وصدّام. ويقال أن عادل إمام طمأن القذّافي عندما شاهد مسرحية الزعيم أنها تتحدث عن ديكتاتور من أمريكا اللاتينية أما نحن لدينا قادة ثورات.
11 شباط، يوم سقوط مبارك، بدأت أسئلة التغيير بشكل جدي: هل يمكن أن يحدث ذلك هنا؟
الثورة السورية مغدورة مثل ولادتها، تخلّى عنها الجميع. وبغض النظر عن قول النظام أنها مؤامرة فإن القول إنها مؤامرة على الشعب يستحقّ النظر، فئة هائلة من الناس -قد لا يكونون مؤيدين أو معارضين- وجدوا أنفسهم في هذا المأزق والمنعطف التاريخي.
الثورة السورية فاجأت العالم بأسره فمن الطبيعي أن تفاجئ السوريين وإذا كان النظام العالمي الذي سعى إلى تخريبها ظلّ مرتبكاً لسنوات فما حال شباب ونشطاء يخطون أولى خطواتهم في السياسة دون أن يروا أي ممارسة ديمقراطية بأعينهم خلال عمرهم القصير.
النظام العالمي لا يسمح بقيام ديمقراطية بجانب إسرائيل وتم استغلال تطورات الأمور وتجييرها لإضعاف النظام وإضعاف المعارضة وتدمير البلاد.
فإيجاد حل سياسي وإيقاف حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل شيء ليس له علاقة بالثورة بل هو واجب إنساني على سبعة مليار إنسان.
ما الذي تعنيه الثورة بالنسبة لنا؟
في آذار 2011، قال رأس النظام أنه استلم الحكم منذ عشر سنوات أي أن من كان عمره عشر سنوات أصبح عمره عشرين، كنتُ من ضمن من يتحدّث عنهم.
قبل الثورة بيومين، 13 آذار، كنت عائداً من حلب لأرى ملاكاً من الذين يظهرون في قصص هاروكي موراكامي وبانانا يوشيموتو.
أتى صوت من خلفي متسائلاً: أتقرأ جريدة تشرين؟ مشيراً إلى ما في يدي، تمّ تعارفنا بسرعة وجلسنا بجانب السائق ننتظر الانطلاق.
ولا أعرف هل منظر الجريدة الشاذ أم شَعري الخفيف -الذي يُظهِرني أكبر من عمري- أم أحلام اليقظة هي التي دفعت الملاك إلى التحدث معي.
“اليوم عيد ميلادي”، قلت له بينما أقرأ مواصفات مواليد ذلك اليوم.
“أنا كل يوم عيد ميلادي”، أجاب.
جبران خليل جبران، أشعار خفيفة، كلمات متقاطعة، برامج تلفزيونية في الفضائيات العربية، دراما سورية، أفلام خفيفة، أقصى ما تتحمّله أيامنا.
مما يجعل بدء حديث مع شخص ما يدور حول الأغنيات الشبابية أو المسلسلات.
كان يرتدي معطفاً أسود طويلاً ونظارات شمسية ويشبه أحد الممثلين الكومبارس مع أن لباسه ليس بعيداً عن فيلم الماتريكس.
حدّثته عن الحب فقال لي: “لا تعرفون شيئاً عن الحب, ما زلتم على الضفاف”، وكرر كلمة الضفاف بنبرات صوتية مختلفة كأنه فرح بها.
لم أعرف اسمه ولا أي معلومة مفيدة عنه، هل هو ممثل أم رجل أعمال أم معيد في جامعة. في تلك الأيام، كنا كلنا أناساً عاديين.
قال لي إن له في قريتي أصدقاء وأحباب وأنه يزورها باستمرار.
/
عندما يسألني أصدقائي عما فعلته منذ 2012 حتى الآن أقول: “كنت أشاهد فيلماً”. من قال أني أريد أن أفعل شيئاً عمر العشرين للتجريب.
نعم، تركنا أشياء كثيرة لا نحبها وحاولنا فعل ما نحب، وكنا نعاقب على هذا دائماً.
وأستطيع أن أبدأ جلسة ردح قبل إنهاء الموضوع مثلاً:
– ما تكتبه بشغف وحب ينشر بصعوبة وما تكتبه بشكل مكرّس تفتح له الأبواب.
– المتسلقون والمرتزقة يحصدون الوظائف والأمجاد ويعاقب أي شخص يملك رأياً أو موقف أو شخصية في بلاد تعيش الاستبداد في عقليات الإدارة وتعيش الدعشنة والتشبيح في المحادثات والعلاقات والأعمال.
– لا يختلف فساد المعارضة عن فساد النظام في شيء، ولا تغيب عقلية الديكتاتور. لو حظي أي رئيس مجلس محلي أو قائد فصيل بقوة ما، ماذا سيفعل؟.
– كل ما يحدث غريب عنا ولا علاقة له بفكرة الثورة البسيطة وفي بداية ظهور الفصائل المتنوعة كان الأمر كوميديا جداً. ماذا يحدث؟ وماذا يريد هؤلاء؟ ومن هم؟ طبعاً النظام صنع الدواعش من قبل الثورة، فالعسكر والإرهاب لا يعيشان دون بعضهما.
– يسخر حتى المثقفون من نيتشه وماركس وأفلاطون… ويريدون ثقافة على مقاسهم ومقاس جهلهم.
– في بلادنا حتى الشخص المعتدل يريد من الناس أن يكونوا معتدلين بدرجة اعتداله نفسها، هل نعرف شيئاً عن الحرية والحضارة؟ هل نعرف شيئاً؟ أي شيء.
يكفي هذا، فلم يغب عن أذهاننا يوماً أننا مبتدؤون في الحياة ونجرب من أجل إيجاد طريق وامتلكنا ميزة رمي كل شيء بلحظة واحدة هذه الميزة التي تعني الثورة. لكننا نراوح في المكان، من بقي منا في سوريا يراوح بين البطالة وأعمال بسيطة وأكثر من أتحدث عنهم سافر.
ما زلنا نطارد السراب، ولا أظن أن أحلام اليقظة كانت أقرب أو أصبحت أبعد.