لعلنا نحتاج إلى تأنيث العالم، من أجل مواجهة كم العنف والقتل الذي نعيشه اليوم. ومع أن تعريف الأنوثة ليس بالأمر السهل، حتى أن شاعر المرأة نزار قباني استسلم، قائلاً: تريدين أو لا تريدين، إن الأنوثة من علم ربي.
لكن يمكنني القول إن الأنوثة بالنسبة لي هي فلسفة وجود، ورغم ضبابية المعنى فأنا أرى في الأنوثة رقة بلا ادعاء، وغواية بلا إسفاف. وفيها تجتمع الفتنة والفطنة في آن واحد، فالسحر في العينين لا يكتمل إلا بالتماع الذكاء في المقلتين.
والأنوثة مغرقة بالمشاعر والأحاسيس، وكل تفصيل أنثوي أشبه بقصيدة تستحق الاحتفاء، ابتداءً من أخمص القدم حتى أعلى الجبين، مروراً بتضاريس الجسد وخطوطه التي تبدأ ولا تنتهي، بل تلف وتدور في تجليات الأنوثة حول خط الاستواء، حيث القد موسيقى يعزفها الكمان. ومن أجل هذا تقرأ النساء من خصورهن كما يقرأ الغيب من الكف والفنجان. أما الثوب الذي يضيق عند الخصر تكريماً للأنوثة، فهو يجعل الجسد بخفة فراشة لا ينقصها سوى جناحين كي تطير.
وربما هي بضع سنتيمترات تلك التي يضيفها الكعب العالي، ولكن من ذا الذي يحتمل النظر من علٍ، من دون أن يصاب بدوار المكان.
ورغم فطرية الأنوثة، لكنها مشقة، حيث يحتاج جسد المرأة إلى كثير من التهذيب كي يبتعد عن جسد الرجل وخشونته، من دون أن يكون سعيه التقرب من الرجل ونيل إعجابه. صحيح أن المرء يهتم بمظهره، احتراماً لعين الرائي بالدرجة الأولى، ولكن وراء اهتمام المرأة بمظهرها علاقة مركبة مع مرآتها.
فقد علمتني امرأة خمسينية درساً لن أنساه، وذلك عندما وضعت أحمر الشفاه قبل بداية حصة الرقص، في قاعة لا وجود للرجال فيها. لكن عندما انتهى الدرس مسحت أحمر الشفاه، وكأنها لم تكن تتجمل إلا لصورتها في المرآة. قد يكون هذا السهل الممتنع، أو ربما هي الأنثى بكل احتمالات جمالها، الذي لا حدود له. ومن هنا تبدو كل محاولة لتحويل النساء إلى نسخ مكررة، تبسيطا لمفهوم عميق كالأنوثة. ولا وجود لوحدة قياس للأنوثة ولا أوزان، كما أن الرشاقة ليست مقياساً تفرضه الموضة على أجسادنا، ولا وجود لوزن مثالي يصلح للجميع. أما الهوس الحالي بالنحافة فخلفه صناعة وشركات حميات غذائية، بالإضافة إلى الجراحة التجميلية التي تستثمر في شفط الدهون وإعادة تكريرها. ربما يصلح الجسد النحيل لعروض الأزياء، حيث الثوب يمنح القيمة للجسد، أما المرأة المكتنزة فهي تجعل الثوب ثانوياً أمام أنوثتها. وبعيداً عن كليشة الجمال الداخلي، فإن الأنوثة تتجاوز الجسد إلى المزاج والسلوك، كما أن إشعاع الروح يمنح الوجه جمالاً، يعجز عنه مشرط الجراح.
قد يبدو تعريفي للأنوثة متحيزاً، فهو بالنهاية تعريف شخصي ويحتمل الخطأ والصواب، ولن يكتمل التعريف من دون ذكر غريزة الأمومة، التي تمتلكها أغلب النساء وإن لم يصبحن أمهات. وحنان الأمومة يخفف من قسوة الحياة، فلو كان للحنان والرحمة مثقال ذرة، لكانت الأم الكفة المقابلة.
الأنوثة لا تنتهي صلاحيتها
الأنوثة كيان متكامل يتجاوز السنين التي تتساقط كالأوراق اليابسة من شجرة الحياة، وتتجاوز الدهون التي تبدأ بالتكدس، مع الخيانات الأولى للهرمونات.
ومع الزمن ينكمش الجسد، ولكن الروح تفيض، فالجسد هو الواجهة، أما الروح فهي كل الحقيقة. وللأسف يتم تشويه تلك الحقيقة في عالم استهلاكي يسلع حتى المرأة ويحصرها بجسد، وكما كل سلعة تنتهي الصلاحية مع مرور الزمن، ويتوجب حينها رفع البضاعة عن رفوف العرض. لكن الأنوثة الحقة لا تسلع ولا تنتهي صلاحيتها، بل تزداد عمقاً مع مرور الزمن رغم آثاره السلبية والتجاعيد.
صحيح أن الطب اليوم قد توصل إلى إعادة الشباب إلى الوجه عبر الشد والحقن، لكن من المحال استعادة نضارة العشرين، وكما قال الفيلسوف نيتشه: هناك الكثير من التفاح الحامض، المحكوم عليه بالانتظار حتى آخر الخريف.. سيصبح حينها أصفر ناضجاً، لكنه سيكون مليئاً بالتجاعيد.
أنوثة ورجولة
ليس جسد المرأة أكثر تعرجاً من جسد الرجل وحسب، بل هرمونات النساء أكثر تعقيداً أيضاً، ويمكن تشبيه الهرمونات الأنثوية بالساعة البيولوجية، التي تتحكم بمزاج المرأة ورغباتها. ولعل المرأة تتهم بالمكر، لأن المتعة الجنسية لديها غامضة، وأكثر عمقاً من مجرد اثارة جسدية. فالمرأة تسهب في كل شيء ابتداءً بالغرام وانتهاءً بالكلام.
يقال إن الرجل صياد، ولعل الكتلة العضلية الضخمة عند الرجل أهلته في ما مضى لاصطياد الحيوانات المفترسة، أما اليوم فيمارس بعض الرجال هواية صيد النساء. وهذا يجعل المرأة فريسة لأهواء الرجل ورغباته. وغني عن القول إن الحديث عن عدوانية الرجال، فيه الكثير من التجني والتعميم، لكن هذا لا ينفي أيضاً أن وراء حوادث الاغتصاب غالباً ذكر معتد. في المقابل تلجأ الكثير من النساء إلى كتم أنوثتهن والتشبه بالرجال، كنوع من الحماية، أو كي يؤخذن على محمل الجد في الحياة المهنية والأكاديمية، وكأن هناك تضادا بين الأنوثة والنجاح المهني، أو تعارضا بين الجمال والتفوق الأكاديمي. ورغم كل التباسات العلاقة بين الجنسين، تبقى العلاقة الأجمل بينهما هي الحب، والحب أوله غزل. والغزل هو تعبير مهذب عن الاعجاب، بينما التحرش هو تعد وتهجم على جسد المرأة.
ورغم أن الحب كالحرب فيه كر وفر، لكن العلاقة الناجحة بين الجنسين تحتاج إلى التكامل والانسجام، ولعل مرادف الأنوثة هو الرجولة، وليس الذكورة.
فالرجولة لا ترتبط بالكتلة العضلية ولا بالقوة الجسمانية، بل بالموقف الأخلاقي والشهامة، وتقاس بسعة القلب وكرمه، وبالقدرة على الاحتواء والتفهم.
يقال الرجال من المريخ والنساء من زهرة، وما زلت أقرأها بمعنى الزهور وليس بمعنى الكواكب، فالنساء من فصيلة الزهور، بكل ما فيها من أزهار وأشواك وصبار. وكما الأزهار تحتاج النساء إلى الكثير من العناية كي تزهر، ويصيبها اليباس من قلة الاهتمام والحنان. وليست تجاعيد العمر سوى فراغات وثقوب في الروح، من قلة الحب. كتب الشاعر سعدي يوسف:
حين تنعم بامرأة، فلتكن ناعماً معها
إن جلدك، جلد التماسيح وعر
وتاريخ جسدك شر
إذاً فلتكن ناعماً معها في الأقل.
أنوثة ونسوية
على الرغم من انحيازي للأنوثة، لكنني لا أميل إلى تعريف نفسي وفق هويتي الجندرية، ولا أشعر بالحاجة مطلقاً إلى الاحتماء تحت مظلة حزب سياسي أو تنظيم نسوي، بل تنتابني أحياناً الرغبة في تكسير جميع القوالب الضيقة. والحقيقة أنني أشعر بانتمائي للإنسانية بالدرجة الأولى، ورغم أني أتفق مع الكثير من الأفكار التي تنادي بتمكين المرأة ورفع الظلم عنها، لكنني أدرك تماماً أن الظلم ليس مقصوراً على النساء وحدهن، وليست المرأة وحدها موصومة بالاضطهاد، بل يطال الاضطهاد العرق والدين، أو الانتماء السياسي والخلفية الاجتماعية.
وفي أحيان كثيرة تزيد المواقف المتطرفة من حدة الخلاف بين النساء والرجال، وتتغاضى عن المشترك بينهما. ولا يعني الدفاع عن حقوق المرأة معاداة الرجل، لأن المشكلة في الأساس تكمن في المنظومة الذكورية التي قد تظلم الرجل في أحيان كثيرة أيضاً. كتبت الفيلسوفة النسوية سيمون دو بوفوار: ليس المطلوب أن تأخذ المرأة السلطة من الرجل، فهذا لن يغير العالم، بل المطلوب هو خلخلة فكرة السلطة من أساسها. وهذا القول صحيح إلى حد بعيد، لأن السلطة الذكورية تشبه أي سلطة اقصائية أخرى تقوم على مبدأ «السيد والعبد»، وتمارس الاضطهاد والتمييز. ويتعذر اليوم أيضاً على حركة واحدة أن تمثل كل النساء، إذ لا يمكن بحال مقارنة وضع النساء الغربيات بمثلاتهن في العالم الثالث، ولا يمكن في أي حال تشبيه وضع المرأة في دول يسود فيها القانون وحقوق الإنسان، بوضع النساء في الأنظمة الديكتاتورية.
كتبت يوماً فرانسو جيرو أول سكرتيرة دولة فرنسية لشؤون النساء: ستتحقق المساواة بين الرجال والنساء، عندما تكون هناك نساء غير مؤهلات في مناصب مهمة. ولكن هل هذه هي العدالة التي نحلم بها اليوم؟ هل تعنينا حقاً الكوتا، أم الأهلية الوظيفية. تعرّف ابنتي اليوم نفسها كنسوية، وهي تبدو لي معنية بالدرجة الأولى بالاحتباس الحراري، وبالاستغلال السيئ للموارد الطبيعية. سيقول قائل، ربما هذه نسوية بيئية، ولن يفاجئني أيضاً الحديث عن وجود نسوية إسلامية أيضاً، ولكنني في النهاية سأجد نفسي غير قادرة على ركوب أي موجة نسوية، وقد تعددت الأمواج وتداخلت الاتجاهات. وسأعترف في آخر الأمر بأنني في شبابي قرأت الكثير من الكتب النسوية، التي شكلت وعيي في مرحلة ما في حياتي.
لكن لا شيء حررني كالرقص، فقد ساعدني تعلم الرقص على فهم نفسي بشكل أفضل، ومنحني جناحي فراشة كي أحلق بعيداً عن كل ما يكبل روحي التواقة إلى الحرية. وبفضل الرقص تصالحت مع مفهوم الأنوثة، وأصبحت أحب صورتي الراقصة أمام المرآة، ما دامت تميل، تحلق ولا تستكين. صورة تهز ولا تهتز، والنفس تعرف كل مرة من جديد.
أنجيلا ميركل وزوجها
المستشارة في محل لبيع الملابس الداخلية
«أنا لسست نسوية»، قالتها يوماً أنجيلا ميركل، المرأة الأقوى في تاريخ ألمانيا، وتعرضت حينها لهجوم عنيف. لكن العبرة في الفعل وليس في القول، ولا معنى لتصريح المستشارة أمام كل إنجازاتها في عالم السياسة، الذي يسيطر عليه الرجال. أتذكر يوماً أنني دخلت في ألمانيا، محلاً لبيع الملابس الداخلية النسائية، ووجدت على الحائط صوراً لنساء فاتنات. يشكلن قدوة لصاحبة المكان. كانت لعارضات أزياء، فنانات مشهورات وبطلات رياضة، وكذلك صورة للمستشارة ميركل. نعم ميركل، المرأة الحديدية هي أنثى أيضاً وتحتاج إلى حمالة صدر، وقد ترغب بها مثيرة أيضاً. وقد لفت نظري حينها أن النساء كن بكامل هندامهن وأناقتهن. وكأن غاية الصور لم تكن في تسويق الملابس الداخلية النسائية وحسب، بل في الإشارة أيضاً إلى أن حمالة الصدر ليست مجرد قطعة إكسسوار، بل هي تمنح المرأة مساحة حرية، كي تعمل براحة أكبر، وتمارس الرياضة أيضاً. هذا، على عكس الصورة السلبية عن حمالة الصدر، التي يسوقها بعض غلاة النسوية، على أنها اعتداء وتكبيل لأنوثة المرأة.
في نهاية المطاف حرية المرأة متكاملة، ولا يوجد تناقض بين حرية المرأة في اختيار أدق تفاصيل أنوثتها، وحريتها في إثبات ذاتها وتقرير مصيرها. لهذا، عزيزتي المرأة كوني بالدرجة الأولى أنثى حرة وسيدة قرارك، كوني أماً وسيدة لبيتك، املئي العالم حناناً ورقة، وبعدها كوني ما تشائين.
فكل ما لا يؤنث، لا يعول عليه.
*القدس العربي
