استوقفني شريط فيديو لمجموعة ألمانية ساخرة تطلق على نفسها اسم «مرتكبي التمر»، للوهلة الأولى بدت صياغة الاسم غريبة، فما الذي يمكن أن يجمع التمر وفعل الارتكاب المرتبط بالجريمة.
محاولة استقصاء سريعة، قادتني إلى لقاء مصور مع مؤسس المجموعة يونس العمايرة، عبّر من خلاله عن رغبته في تكسير الصورة النمطية للمسلمين في أوروبا، المرتبطة عادة بالتطرف والإرهاب. فجاء الاسم، كتوليفة بين التمر الذي هو رمز لشهر رمضان، بما يمثله من مشاركة وتضامن، وفعل «الارتكاب» المرتبط بجنحة أن تكون «مهاجراً» في ألمانيا، كما هو حال عمايرة المولود في برلين لأب فلسطيني وأم سورية.
أما باقي أفراد المجموعة فهم من أديان وخلفيات مختلفة، لكنهم يتشاركون المكان واللغة، والرغبة في العيش في سلام مع الآخر، وقد اختاروا الفكاهة كأقصر الطرق إلى القلوب، ممزوجة بالقليل من السخرية، التي ترفع المرآة أمام المجتمع، من دون أن تحطمها في وجهه. ومن خلال مجموعة من الفيديوهات على يوتيوب استطاع الفريق طرح الأسئلة الصعبة بما يشبه الأحجية، كما في السؤال الذي ُطرح على عدد من الألمان، لاختبار قدرتهم على تمييز اللاجئ بين مجموعة من المتطوعين لهذا الغرض. السؤال بدا محيراً أمام الفتاة الشقراء، التي تبدو أوروبية الملامح، لكن الحزن في العينين يفضح تجربة اللجوء. وأمام الشاب المبتسم، تقف الصبية الألمانية حائرة، لكنها في النهاية تشعر بأن من يبتسم بصفاء هكذا، لا يمكن أن يكون قد عاش تجربة قاسية، لكن لمهند، اللاجئ السوري، حكاية أخرى مخبأة في القلب، يسردها للصبية مع ابتسامة خجولة:
«خلال رحلة اللجوء توقف محرك القارب عن العمل في عرض البحر، رفعت نظري إلى السماء وكان القمر وجه الله، فصليت له كي لا يفطر قلب أختي الصغيرة، بعد دقائق عاد المحرك إلى العمل، لكن القارب خلفنا لم يصل ومات ركابه جميعاً، وأنا أشعر بالخجل أنني وصلت». الصبية الألمانية لم تستطع حبس دمعتها، فهي أيضاً تشعر بالخجل، أن في بلادها من لم يكن يريد لمهند أن يصل إلى بر الأمان. وهي تخجل أيضاً من سطحية النظرة التي ترى في اللاجئ قرصاناً ببشرة سمراء، وقارب مطاطي، يريد الاستيلاء على بلادها. لا تنتظر الصبية طويلاً حتى يأتيها الجواب من «هورست»، الرجل السبعيني الذي عاش تجربتي لجوء، الأولى بعد الحرب العالمية الثانية هارباً إلى ألمانيا، والثانية من ألمانيا الشرقية إلى الغربية. ومع أن هورست ألماني أباً عن جد، لكنه لا يشعر بألمانيته، فقد تكون غريباً في بلد تتكلم لغته وتحمل جنسيته.
القارب يحضر أيضاً في حكاية المرأة ذات الملامح الآسيوية رغم جفنيها المرفوعين، فهي مازالت تذكر تفاصيل رحلة الهروب بالقارب من فيتنام قبل عقود، ومازالت تذكر الثقب في أسفل القارب، والمياه التي كانت ترشح منه، وكأنها ساعة رملية لنهاية الحياة. وعلى الرغم من نجاتها في النهاية، لكنها لم تنج كطفلة من التنمر في المدارس الألمانية، ما دفعها إلى مسح العلامة الآسيوية عن عينيها، من دون أن تستطيع حقاً مسح الجروح عن الروح.
ومن هنا تبدو محاولة «مرتكبي التمر» نكء الجروح، مفيدة رغم ألمها، لأن الكلام يفتح النوافذ على الآخر، ويكسر أقفال الصناديق المغلقة على الصور النمطية. من جهته يحلم مؤسس المجموعة عمايرة، بأن يصبح هو، بإسلامه المنفتح ولونه الأسمر واسمه العربي، النسخة الجديدة لألماني المستقبل.
ما معنى أن تكون ألمانياً؟
هل تكفي اللغة الأم التي تنطق ببساطة طفل ورحابة قلب أم، كي تصنع وطناً، هل يكفي أن تحلم وتغني وتخاطب نفسك بالألمانية، لتشعر بانتمائك للأمة الجرمانية؟
حنة آرنت الفيلسوفة الألمانية التي لجأت إلى أمريكا هرباً من النازية، ظلت تقرأ الشعر باللغة الأم، فالشعر بقي في لاوعيها ألماني الهوية، أما وحشية النازية فاللغة منها براء، وظلت اللغة بالنسبة لها الجسر الذي تسلكه كلما أصابها الحنين إلى البلاد، التي عرفت تشكل وعيها كيهودية سمراء في ألمانيا النازية البيضاء. اليوم يعيش كثير من أبناء الجيل الثاني بقلب واحد ولسانين، ويتنقلون بخفة بين لغتين.. كما كتب درويش:
لي اسمان يلتقيان ويفترقان
ولي لغتان نسيت بأيهما كنت أحلم
واليوم على الرغم من ظهور الكثير من النازيين الجدد، تظل العنصرية مستترة في ألمانيا، وعلينا ربما لفهم جذورها أن نسأل عن تعريف الألماني؟ وهذا ما طرحه فريق «مرتكبي التمر» على مجموعة من الشبان، الذين رغم امتلاكهم لملكة اللغة الألمانية، لكن مظهرهم الخارجي يبدو مختلفاً، ما يترك الإنسان في حيرة من أمره حول جذورهم. كذلك الأجوبة جاءت مختلفة متنوعة، فالفتاة المحجبة تشعر بانتمائها إلى ألمانيا، فهناك ولدت وعاشت، رغم أن والديها من أصول عراقية، وحده الطعام الألماني يشعرها بالغربة. ولكن ماذا عن الشاورما التركية «دونر كباب» التي أصبحت تسوق في العالم كطبق ألماني، فللطعام هوية أيضاً وهي منفتحة وعابرة للأعراق والأذواق. أما «حسيب» الشاب الأشقر فهو تركي الهوى والانتماء، رغم الاسم العربي والهيئة الألمانية، فالعين تخطئ أحياناً في قراءة البشر، والشمس لا تمنح لونها وسرها للشرق حصراً، فها هو دافيد يبدو كأبناء الجنوب، رغم أنه ألماني أباً عن جد، حتى أن سمرته تعرضه لعبارات استفزازية أحياناً في مترو الأنفاق من قبيل «ألمانيا لم تكن هكذا في السابق، بلادنا لم تعد لنا». دافيد لا يشبه الألمان لكنه ألماني، فلا قوالب جاهزة للألماني، إلا في عقول يضيق أفقها عن استيعاب اتساع الكون وتنوع مخلوقاته.
العنصرية وباء أخطر من كورونا
لعل ألمانيا كسبت معركتها مع فيروس كورونا، بسبب نظامها الصحي المتماسك من جهة، وبسبب التضامن بين السياسة والناس من جهة أخرى، فالمساس بالحرية الشخصية هو خط أحمر في السياسة الألمانية، ومن المحال أن تمنع الألماني من الطيران، وهو المسافر الأول في العالم، ومحال أن تمنع عنه الغابة، رئته ومتنفسه، من دون أن تمتلك مبررات قوية لتهدئة روع شعب عرف حكمين ديكتاتورين في تاريخه الحديث، وعليه اليوم أن يعيش من جديد ديكتاتورية كورونا.
ومن هنا كان ضرورياً أن يقدم معهد روبرت كوخ تقريراً يومياً مفصلاً عن الجائحة وحيثياتها، ومن هنا كان على المستشارة ميركل أيضاً أن تشكر الشعب على تعاونه، وتقدم الاعتذار عن اضطرار الحكومة لإصدار قرارات صارمة، من دون العودة إلى ممثليه في البرلمان. ومع ذلك لم يخل الأمر من مظاهرات ضد سياسة الإغلاق رافقها تخوف عام من سيناريو مشابه لتظاهرات 2015، التي أدى تجاهلها في البداية، إلى ظهور الحزب المتطرف «البديل من أجل ألمانيا» في النهاية. ولكن الملاحظ أن تواجد اليمين المتطرف ضئيل في تظاهرات 2020، فالمتظاهرون هم خليط من الخائفين على الديمقراطية، التي بدأ قناع الوباء يغطي وجهها، والخائفين على وظائفهم، وصولاً إلى أصحاب نظرية المؤامرة، الذين يجدون فيها جواباً لكل ما يعجزون عن فهمه من ظواهر، فيطلبون من الناس الامتناع عن غسل أيديهم، ولكنهم لا يتورعون عن غسل الأدمغة، بمؤامرات تبدأ من خفض عدد سكان الأرض، وصولاً إلى انبعاثات مشبوهة للجيل الخامس للهاتف، وانتهاء بمؤسسة بيل غيتس التي تقدم الملايين لإيجاد لقاح أو شريحة تتجسس بها على البشر. ولا يخلو الأمر طبعاً من نجوم تروج للمؤامرة، وتعزز شعور الارتياب، وربما أكثرهم إثارة للجدل المطرب الأسمر كزافية نايدو، الذي على الرغم من جذوره الافريقية، لكنه لم يعرف عنه يوماً مناصرته للمهاجرين، بل على العكس أثارت أغنيته الأخيرة استياء عارماً بسبب نسبها «للضيف قتل المضيف». ومع أن نايدو لا ينتمي لأي حزب سياسي، لكن تصريحاته تنسجم تماماً مع خطاب اليمين المتطرف، وكأن الضحية عندما تتشبه بالجلاد تصبح أكثر شراسة وفتكاً.
من جهته لم يفوت اليمين المتطرف أي فرصة لاستحضار الرقم السحري 2015 والربط بين فيروس قاتل وبشر فروا من القتل، والحقيقة أنه لا يوجد رابط بين الجائحة واللاجئين، سوى في مساهمة عدد منهم في خياطة الكمامات، ولسان حالهم يقول نحن شعب عاش كارثة الحرب، ونريد المساهمة في ألا تصيب كارثة أخرى البلد، الذي منحنا الأمان. كذلك لم يفوت اليمين المتطرف فرصة استثمار التظاهرات الأخيرة لتقديم نفسه كناطق رسمي باسم الخائفين، ومهاجمة السلطة الحاكمة وعلى رأسها المستشارة ميركل، التي اتهمت بأنها ابنة للحزب الثوري الألماني الشرقي، رغم أنها كانت من أبرز المعارضين لديكتاتورية الحزب في ألمانيا الشرقية.
ولكن المرأة الحديدية، التي كاد استقبالها للاجئين أن يكلفها مستقبلها السياسي، حافظت على مواقفها الداعمة للهجرة، وكان لافتاً تصريحها الأخير، خلال قمة عن الاندماج، عقدت بداية 2020، حيث قالت إنها ابنة الجيل الرابع لمهاجر قادم من بولندا، ولم يعد أحد يسألها اليوم عن مدى اندماجها، في حين أن ألمانياً من أصول افريقية، سيظل سؤال الهوية يلاحقه جيلاً بعد جيل. لعل الطريق مازال طويلاً ليصبح ألماني من أصول افريقية مستشاراً، لكن تبدو أحلام ممثل ألماني أسود محقة، عندما أعرب للمستشارة الألمانية عن رغبته في أن يلعب يوماً دور رئيس البلدية على الشاشة، وليس كما جرت عليه العادة دور مجرم فار من العدالة.
قد يكون تغيير الدور على الشاشة مقدمة لتغيير الدور الذي يلعبه داكنو البشرة على أرض الواقع، وهذا لا شك سيحيلنا إلى ما يجري في أمريكا اليوم، الذي هو بمثابة صورة مكبرة لما يعيشه السود في كل مكان في العالم، والسود هنا مصطلح مجازي، لأننا كلنا سود في ظرف ما، ومكان ما، وإن لم نكن داكني البشرة. ولعل تغيير صورة العالم يبدأ من صورتنا في المرآة، ومحاكمة لغتنا وأفكارنا المسبقة عن الآخر، فالغريب لا يولد غريباً ولكن الآخر يجعله غريباً.
في النهاية، ورغم كمامات كورونا على الأفواه وركبة العنصرية التي تجثم على الرقاب، هناك صرخة «نريد أن نتنفس» تصدح في كل مكان، وتماثيل العنصرية تتهاوى، معلنة أن زمن السادة والعبيد ولى إلى غير رجعة. فالعنصرية وإن قتلت أحياناً بلا دماء، لكنها لا تستطيع أن تحجب حقيقة أن لون دم البشر واحد، مهما اختلفت ألوانهم وأجناسهم. فمتى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
*القدس العربي