آندي مارتن: موت المؤلف وظهور “الزبون” عوض القارئ

0

تنتمي جي كاي رولينغ إلى مدرسة قديمة، ليس لأنها اختارت مدرسة قديمة كموقع لقصصها عن الساحرات والسحرة والعبث القديم المرافق لهم. بل لأنها اختارت الطريق التقليدي في العثور على وكيل أدبي وناشر. وتقول الأسطورة، إنها أرسلت للوكيل كتابها في مغلف زهري فاقع اللون لكي يحوز انتباهه فينتشله وينقذه من مكانه في كومة المخطوطات. وحدث بعدها، كما جرت العادة، أن رُفضت مخطوطتها المرة تلو الأخرى من قِبل أغبياء ضيقي الأفق (رُبما طُلب منهم الانتحار في عالم النشر على طريقة الهارا كيري) قبل أن تقبلها في الأخير دار نشر بلومبزبيري. حاول كتّاب كُثر بعدها أن يتبعوا أسلوبها، فلجأوا كذلك إلى تقنية المغلف المبهرج، وأضافوا إليه بعض الملصقات البراقة أحياناً. لكن طراز رولينغ بات الآن قديماً وما عاد له مكان في السياق الحديث، تماماً كما المكانس الطائرة.

فكروا في مثال آندي وير، مؤلف كتاب “رجل المريخ” (The Martian) الذي تصدر لائحة مبيعات الكتب وتحول إلى فيلم من إخراج ريدلي سكوت وبطولة مات دايمون. لم يكن الرجل كاتباً حتى، بل مهندس برمجيات في وادي سيليكون. لكن راودته فكرة تأليف كتاب وقد حاول حتى سلوك الطرق التقليدية في ثمانينيات القرن الماضي: وكيل أدبي؟ كلا شكراً! ناشر؟ لا محالة! لكنه استمر بالكتابة في وقت فراغه على أي حال.

ومع انطلاق الإنترنت في تسعينيات القرن الماضي، أنشأ موقعه الخاص ونشر بعض القصص إلكترونياً. كما أرسلها للناس عبر البريد الإلكتروني. كانت إحدى قصصه تدور حول مهمة إلى المريخ. لو افترضنا أن كل الأمور ساءت، كيف ينجو المرء؟ حاول أن يكتشف ذلك ودرَج على نشر فصل من حين لآخر. وكان القراء، وهم في الغالب ممن لديهم ميول تقنية، يراسلونه فيعرضون عليه بعض التصحيحات أو البدائل في القصة.

ثم يعمل وير على تصحيح الجوانب الفيزيائية أو الكيماوية. وقد أنهى نصه لكن القراء كتبوا له مطالبينه بتحويله إلى شكل برنامج القارئ الإلكتروني. ففعل ذلك. ثم طلب أحدهم نسخة على برنامج كيندل، ففعل ذلك أيضاً. واختار أقل سعر متاح على أمازون، 99 سنتاً. لم يصدق وير عندما فاق عدد الذين اشتروا كتاب كيندل عدد الذين اختاروا النسخة المجانية التي كان يقدمها، ثم رأى كتابه يتسلق قوائم الكتب على أمازون إلى أن احتل المرتبة الأولى في قائمة كتب الخيال العلمي.

ثم تلقى رسالة عبر البريد الإلكتروني جاء فيها “أعتقد أنه يمكننا طباعة كتابك، وإن لم يكن لديك وكيل أدبي، أرغب بتمثيلك”. وصلت الرسالة من وكيل أدبي. هم من اتصلوا به وليس العكس. ويقول وير “شعرت بالذهول”. توالت الأحداث وكبر الموضوع بعد ذلك. قدمت له دار نشر راندوم هاوس عرضاً استباقياً. “لم يتطلب الأمر أي تفكير، كان المبلغ يفوق ما أجنيه في عام كامل في وظيفتي الحالية، ولم يكن سوى العربون فقط”. ولم يطل الأمر قبل أن تطرق هوليوود بابه. ما زال وير متواضعاً ومصعوقاً بصدق من سلسلة الأحداث. من مدونة إلى فيلم ناجح. من حاسوبه إلى مبيعات في 31 بلداً حول العالم. غزا “رجل المريخ” كوكب الأرض.

قابل عالم الاجتماع جون طومسون وير، وهو يوثق قصته في الفصل الافتتاحي لكتابه المهم الجديد حروب الكتب: الثورة الرقمية في عالم النشر. ويستخلص أن “التغييرات نفسها التي مكنت وير من تحقيق حلم طفولته هي التي تدمر قطاعاً سار بنفس الطريقة إجمالاً منذ الأزل”.

بدأ وير (في عمر التاسعة) بكتابة “روايات المعجبين”، وباختراع قصص بالاستناد إلى أعمال يحبها. وكذلك فعلت إل جيمس (أو إريكا ليونارد)، كاتبة (خمسون ظلاً لغراي) (Fifty Shades of Grey). كانت معجبة بسلسلة مصاصي الدماء توايلايت (Twilight) للمؤلفة ستيفاني مايرز، لذلك بدأت بنشر مغامرات إضافية للشخصيتين إدوارد كالين وبيلا سوان على موقع روايات المعجبين FanFiction.net تحت اسم القلم “التنين الجليدي لملكة الثلج” (Snowqueen”s Icedragon).

لكن القصص كانت إباحية جداً بمقاييس موقع  FanFiction.net، لذلك بدأت بنشرها على موقعها الخاص 50Shades.com، حيث عززت المحتوى السادي والمازوخي وأعادت تسمية شخصيتيها كريستيان غراي أناستازيا ستيل. خرجت النسخة الأولى من الثلاثية في العام 2011 عبر دار نشر أسترالية صغيرة، إلى أن أخذتها دار راندوم هاوس (مرة جديدة)، بعد الاهتمام الهائل الذي حازته على وسائل التواصل الاجتماعي وأعيد نشرها في عام 2012. وبيعت أكثر من 125 مليون نسخة من الكتاب حول العالم. وإن كان فيلم هوليوود المصاحب لها يُكسبكم أكثر من مليار دولار في دور السينما عالمياً، فمن يهتم بعد ذلك فعلياً بمراجعات الكتاب؟

هاري بوتر، ورجل المريخ، وخمسون ظلاً: كلها حققت نجاحات باهرة، وجميعها من كتب الخيال الشعبية وجميعها نشرت عبر وسائط إعلامية متعددة. ولا شك أن رولينغ تظل الشخصية الأبرز من حيث حجم إنتاجها وأرقام مبيعاتها، والآن هوياتها المتعددة كذلك (بعد انكشف كونها المرأة وراء سلسلة سترايك تيك بقلم “روبرت غالبرايث”)، لكنها الأقدم من حيث طريقة النشر كذلك، وهي التي تشذ عن القاعدة هنا، فيما يمثل وير وجيمس (بشكل هائل) تطوراً كبيراً في المشهد المعاصر.

ما عادت الروايات تُقرأ فحسب، بل أصبحت خاضعة لقيادة القراء الذين يحددون مسارها ويستعمرونها ويقوضونها قبل أن تنشر. في السابق، كان الكتّاب الذين يختارهم الوكلاء الأدبيون ودور النشر، (ما يُسمى بـ”حراس بوابات” القطاع) من يقررون عنا ما سنقرأه. وما عادوا يفعلون ذلك: بل بات القرار بيد القراء الآن. 

“هذا أمر فهمته شركة أمازون في وقت مبكر،” كما قال لي طومسون حين تحدثت إليه أخيراً، “ولكنهم ما عادوا يسمونهم قراء، بل زبائن”. تعلم أمازون، أو خوارزميتها، ما الذي يعجبكم، وهي عازمة على أن تحصلوا على المزيد فالمزيد منه.

لكن هناك مواقع إلكترونية أخرى، غير أمازون وFanFiction.net، حيث يتقرر حالياً مستقبل الروايات الخيالية. في المملكة المتحدة، توفر منصة  Unbound نوعاً من التمويل الجماعي للمشاريع، أسوةً بموقع Inkshares في الولايات المتحدة. وفي تورونتو، تقول صوفي المسؤولة عن “إنتاج المحتوى” في Wattpad (وفقاً لما نقله طومسون) “نضع القرار بيد الجموع”. في عام 2019 بلغ عدد مستخدمي Wattpad ثمانين مليون شخص عالمياً، فيما نشر الموقع أكثر من 565 مليون قصة (وتحول إلى Wattpad Books  وWattpad Presents). هذا ليس تمريناً على “النشر الذاتي”. بل فعلياً، ما عادت “الذات” موجودة أصلاً في Wattpad .

في العالم الافتراضي، انتهى زمن التجول وحيداً مثل الغيمة. في السابق، كان الكتّاب يكتبون والقراء يقرأون: والكاتب يقول للقارئ حرفياً ما عليه أن يقرأه. لكن ليس بعد اليوم. في Wattpad  يتجاور الكتاب والقراء في مساحة من التفاعل والتبادل الحميم.

كما في التفاصيل المتشابكة في”خمسون ظلاً”، من الصعب أن تعرف من يفعل ماذا بمن. فمفهوم “التأليف” نفسه تهيمن عليه الشبكة أو المجتمع وحراس البوابات القديمين يُقصَون من المعادلة. ويجري الدخول إلى موقع Wattpad إجمالاً عبر الهواتف الجوالة، ومن الآن فصاعداً، سوف يُتاح (حرفياً) “الاتصال لإملاء” القصص “ونشرها من خلال الدردشة”. ويقول طومسون، “إن عنصر وسائل التواصل الاجتماعي ليس إضافة بل هو عنصر أساسي في عملية الكتابة”.

باستخدام هاتفي، اضطررت إلى إعطاء بعض المعلومات الشخصية لكي أدخل الموقع. قلت إنني “أكتب إجمالاً لدواعي التسلية” (وهو أمر صحيح بشكل عام). وتهمني “المغامرات” و”الروايات المعاصرة” و”روايات المعجبين”، وبدأت الآن بقراءة Break Open  للكاتبة ليزا هـ. تقول نبذة الكتاب “منذ سنوات، فُطر قلباهما. الآن هو مستعد لإصلاحه. وهي مخطوبة”. ثم كُتب تحذير أنني على وشك الاطلاع على “محتوى فيه جنس وعنف ولغة بذيئة”. علي الاعتراف بأنني انجذبت بالفعل مع أنني لا أطابق الفئة الديمغرافية لمستخدمي Wattpad وهي تتألف إجمالاً (ولكن ليس حصرياً) من المراهقات.

لكن بما أنني تسجلت على الموقع، يحق لي “التصويت” على القصص والتعليق عليها، حتى أثناء كتابتها (لدى ليزا هـ. 69.8 ألف قراءة و3 آلاف تصويتاً، ولقصتها 25 “جزءاً” بالفعل). وأجد أن بعض القراء الآخرين منهم “ilikeemrealnasty” و“cluelesslyobsessed” و“sexybookwormlover” يكتبون التعليقات أو يعلقون بصور الإيموجي في الحواشي. 

ومن دواعي السخرية أن (أحد جوانب) القصة يتعلق بشخصية تحارب من أجل نشر إصدار معين “في بيئة باتت  معادية لأي شيء منشور ورقياً، ولا ترحب سوى بالوسائط الرقمية التي يمكن استهلاكها بسهولة”. لم أفهم هذا الجزء كلياً بعد، ولكن إن ضغطت على “قصص مدفوعة” يمكنني “تقديم الشكر للكتّاب لتأليفهم قصصاً تحبونها عبر دعمهم مادياً”. ويمكنني بالتالي أن أدفع لهم (باستخدام عملية “Wattcoins” الرقمية) والتصويت لهم كذلك إن أعجبني أسلوبهم.

يشد رومان فكّه (في رواية Break Open.) فتكتب KaylaMVibes “أحب عندما يضغط الرجال على عضلات فكّهم، أجد ذلك مثيراً”. لكن لا يحب الجميع ازدراءه لجايد. ويقول المستخدم Redstories “يا للأسف”. بينما المستخدم mbalientle24 يعلق فقط بـ”لا” ويضع إلى جانبها صورة جمجمة. وفي المقابل، يقول asdfghjkl123455553 عندما تلتقي نينا برومان صدفةً في البار ويحدث بينهما انجذاب كبير “أحببت طريقة كتابتك لهذا”.

وبالنسبة إلى استديوهات التلفزيون أو السينما التي تأخذ محتوى من Wattpad، فيمكنها “التخلي عن جايد (أو أي شخص)، لا أحد يحبها!”. والحذف تدعمه البيانات. وقاعدة المعجبين حاضرة بالفعل لمتابعة النسخ المصورة منه. يوضح طومسون أن هذا هو مستقبل “النشر”، فالقراء يعملون فعلياً على تنسيق عمل الكتّاب، وهم يمسكون بزمام الأمور ويقررون شكل الكتب تبعاً لأذواقهم، ولا يُقرر عنهم بعد اليوم. ويصبح الكاتب مجرد مورّد ما يقرر عمله ويصادق عليه هو الطلب وليس المهارة والبراعة فحسب. نترك القرار بيد الجموع.

لكن ذلك لا يقتصر على المستقبل فحسب، بل قد حدث في الماضي السحيق. فلنأخذ مثال هوميروس، “مؤلف” ملحمتيّ الأوديسة والإلياذة. لم يكن هوميروس حقيقياً. بل هو صورة مناسبة لأجيال من المؤدين الشفويين الذين تلوا مراراً وتكراراً قصص أبطال الإغريق المذهلين الذين كانت أصولهم بعيدة ومفقودة مع الزمن.

قام الشعر الملحمي على مجموعة من المؤلفات الشفوية بطبيعتها التي تربطها صلة خفيفة ببعضها بعضاً. وكان يشترط بقراءة النص الأساسي الذي استندت إليه النصوص اللاحقة أن تتم إما حول نار المخيم أو في مساحة عامة أو خاصة محددة، حيث يمكن للحشد أن يستمع إلى صوت متحدث واحد. وكان المسرح، الذي يقوم إجمالاً على نص محدد مسبقاً، امتداداً طبيعياً لهذا النوع. لكنه في شكله الأصلي، كان “النص” أو القصة عرضة للتغييرات والارتجال وفقاً لمتطلبات الحشد “أخبرنا قصة أخرى عن أوديسيوس/أخيل/هيلانة”.  

وبات مؤدي هذه القصص يُعرف باسم “هومير” أو “هوميروس” بمعنى “الرهينة”، لأن هذا اللقاء القريب لم يدُر حول جمهور مأسور، بل كاتب مأسور لا يملك حرية التصرف والتخيل بل هو ماهر في تلبية متطلبات الحشد الذي يُحتمل أن يكون دائماً عنيفاً. اقترح أفلاطون نفي هوميروس (وغيره من الشعراء) من المدينة، لكنني لا أشك في أن أولئك الأفراد الهوميريين المبكرين، بعد معارضتهم لروح العصر (مثل التروتسكيين في روسيا الخاضعة لستالين) ومحاولتهم أن يكونوا أقرب إلى “مؤلفين” كانوا ليلاقوا نهاية دموية. كان ذلك “موت المؤلّف” البدائي (كما في جملة رولاند بارت الرنانة). 

ويحاجج إيو ويلسون، أب التنوع البيولوجي وعلم الأحياء الاجتماعي، (في كتابه أصول الإبداع) أن رواية القصص الشفوية لا بد انطلقت مع قصص الصيد التي أخبرها رجال جماعات جو هوانسي (Ju/”hoansi) الأصلية في كالاهاري. في هذه المغامرات الملحمية السابقة لحقبة هوميروس المسماة كذلك “أحاديث على ضوء النار”، يسلي الصيادون بعضهم بعضاً بقصص حول الصيد.

وتتحدث هذه القصة عن القضاء على ظبي بسهمِ مسمم: 

“إنه آمن، كما يعتقد. يلتفت إلى الوراء. أقف خلفه. أتسلّل إلى الأمام، نعم! أتسلل وأتقدّم، وأصبح على مسافة مناسبة، نعم! مسافة مناسبة كي أكون في المكان الصحيح، بهدوء، بهدوء، لا أصدر صوتاً، أتقدم ببطء وأحمل قوسي، وأضع السهم فيه. آي! أطلق السهم. وااااه! أصبته! يقفز! ها ها! إنه يقفز! ثم يركض. لقد اختفى! أصبته. هناك، في هذا المكان دخل السهم. وقفز وركض في ذلك الاتجاه، إنه يتجه إلى تلك الناحية ولكنني أصبته”.

هذا المقابل الشفوي لرسومات جدران الكهوف في العصر الحجري الحديث. وفي الحقيقة، المسافة معدومة بين “الكاتب” و”القارئ”: فمؤلفو ومستهلكو هذه الروايات الأساسية وحدة واحدة، يتبادلون المواقع ويمررون القصة من شخص إلى الثاني في شبكة عفوية ليس فيها سوى عقد واستعادة لروايات الآخرين، واستذكاراً لأداء سابق من دون أي أصل واضح للرواية المنقولة. في المساء (كما تشير إليزابث مارشال توماس في الطريقة القديمة: قصة الشعب الأول) تأخذ القصص التي تُروى ليلاً حول النار طابعاً خيالياً أكثر من “أحاديث النهار” العملية أكثر.

ولم يكن الشعراء المتجولون ليقدروا أن يشتوا كثيراً عن نص موجود أساساً، ما لم يرغبوا في إثارة حنق مستمعيهم النافذين. وكانت فكرة ربط اسم الشخص بأي من هذه الملاحم الأولية لتبدو عبثية وغير مبررة حتى بالنسبة إلى أمهر الرواة. فلم يكن “هوميروس” أعمىً فقط (كما قال التقليد الأول وهو بالتالي عاجز عن القراءة والكتابة) بل لا هوية له. 

لطالما كان المؤلف مجهولاً. فكروا مثلاً بتلك الأعمال “العابرة للزمن” فعلياً لأنه لا يمكن تحديد أصلها بدقة، مثل جلجامش- الملحمة البابلية والطرس الذي يضم مجموعة الأشعار السومرية ويحمل آثار أياد كثيرة ولغات متعددة، وليس عليه سوى عنوان، وليس اسم شخصية مؤلف يفرض نفسه (حتى أن جلجامش نفسه كان”بلجامش” في إحدى النسخ). 

وتنسحب هذه الحال على بيوولف كذلك، الذي تم تناقله بالإنجليزية القديمة، وهو من الأعمال الأساسية لما يمكن تسميته بشكل فضفاض (بطريقة متباهية ونرجسية وربما قد عفا عليها الزمن) “الأدب الإنجليزي”، مع أنه يُعنى حصرياً بالطرائف القديمة للمحاربين الاسكندنافيين. أطالع حالياً الترجمة الجديدة المكتوبة بلغة عامية جداً (هاشتاغ: أنا مبارك) بقلم ماريا دافانا هيدلي التي لا يبدأ مطلعها بـ”وهكذا…” كما ترجمها شيماس هيني، بل بـ”يا صاح…”، في إشارة إلى حلقة الرواة ومتفرجين أغلبهم من الرجال.

والنص الذي بين أيدينا الآن عبارة عن نسيج (أو “خليط”) من قصص منفصلة تتداخل، مثل “المجموعة الموسيقية” التي يقدمها منسق الأغاني (DJ) في عصرنا، تتألف عادة (كما شرح لي أحد الموسيقيين) من “أغان رائجة” يُضاف إليها “لحن” أو اثنان ربما جلبه المنسق الموسيقي لكي تتماسك المجموعة. وهذا ما يذكرني بأصل  مفترض آخر لكلمة “هوميروس” وهو “من يربط الأغنية ببعضها بعضاً”.

تجتمع الحقبتين ما قبل الكتابة وما بعدها. أنا أعود إلى بييولف لأنني سئمت تشديدنا الزائد على مفهوم المؤلف، وتمجيدنا أسطورة. فالنموذج “التقليدي” للعلاقة بين المؤلف والقارئ اختراع حديث في الحقيقة، وأرجو أن يكون محكوماً بالزوال. فجاي كاي رولينغ هي الشذوذ وليس أمثال وير وجيمس في هذا العالم. وكيف بدأت “وظيفة المؤلف” أساساً؟ أفترض أنها بدأت جزئياً بسبب أسئلة مثل: كيف بدأ كل شيء؟  

تقول بيريشيت، أو الكلمة الأولى في سفر التكوين “في البدء…” (وربما من الأفضل ترجمتها إلى “في بداية…”). نتوقع أن يكون لكل شيء نقطة انطلاق. “في يوم من الأيام”، أو بالإنجليزية Once upon a time أو الفرنسية  Il était une fois، ولا شك في لغات كثيرة أخرى: نفترض وجود نقطة منفردة. ولكن، كما يكتب خورخي لويس بروخيس الحكيم “كانت الليلة الأولى، إنما سبقتها قرون عديدة…”. قد ابتدأ ذلك على الأرجح بالإنسان الصانع (homo faber). ومن هنا مفهوم الصانع. وسرعان ما أصبح النسب غير كاف (فلان بن فلان…بن فلان… بن فلان) كان من المطلوب وضع قصة تكوين كذلك، كان علينا ملء الفراغ في البداية كذلك، أن نستنتج ما حصل سابقاً.

وفور حصولنا على بطل إله، بات الأبطال أكثر ميلاً لأن يشبهوا الآلهة. وإلى جانبهم “المؤلفين”، الذين حصلوا بعض الفضل والمجد الذي نسبوه إلى شخصياتهم. وانتقلنا من الإله إلى الخالق- الروايات البابلية التي تتداخل مع أساطير جلجامش- إلى الإنجيليين الذين ذُكروا بأسمائهم. 

فالتأليف لا ينفصل عن تحقيق المعجزات والسير على الماء والقيامة. لا تأتي النسخة الأولى من إنجيل مرقس، وهو أقدم إنجيل، على ذكر ولادة العذراء، ولكنها تشهد على القيامة. لا أحد يرى يسوع بعد صلبه. والقيامة من الموت، كما حال شيرلوك هولمز الذي يتعافى بشكل غير منطقي بعد حلقة  شلالات ريشنباخ، هي رد الكاتب الكلاسيكي على المطلب الشعبي: لا يمكنك أن تدعه يموت ببساطة! حسناً إذاً، ماذا لو انبعث من الموت، وعاد؟ وبهذه الطريقة نفتح الاحتمال أمام جزء ثان من القصة.

تتحول القصة النهارية العملية (مات على الصليب) إلى حديث حول النار (ولكنه عاد للحياة). أو، إن قدمنا الزمن إلى جي كاي رولينغ، ماذا لو كان لدينا ساحرات وسحرة وعصاً سحرية؟ كل الأبطال الخارقين الحديثين أشكال متحولة من الأساطير أو الديانات، وشكل معاصر لأفيون الشعوب.

من المؤسف أن نكون قد أضفنا على الكتّاب قوى إبداع وخلق شبه إلهية، فليسوا سوى منتجي محتوى. رولينغ ووير وجيمس: مثل الشعراء المتجولين في العصر القديم، والمساهمين في Wattpad اليوم، لم يعطوا جمهورهم سوى ما أراد سماعه.

وأكثر الكتّاب نجاحاً، مثل جيمس باترسون ولي تشايلد، ما عادوا يكتبون حتى، فهم يوكلون أكثر قرائهم تفانياً مهمة أداء العمل نيابة عنهم ويكتفون بصرف الشيك. لقد أصبحوا علامة تجارية. من الخطأ اعتبار الكتّاب أفراداً موهوبين، هل نتخيل أبداً أن شخصاً اسمه ماك دونالد هو من صنع شطيرة البرغر تلك، أو أن بين أو جيري صنعا تلك البوظة؟ 

*اندبندنت