آرام كرابيت: المكتبة في الليل

0

يقودنا الباحث ألبرتو مانغويل، إلى عالم المكتبة بلغة أدبية ساحرة، إلى عالم الثقافة والفكر، الغنى الذي يمد الإنسان بطاقة إيجابية نحو البقاء والديمومة.
نستطيع القول إن الثقافة عالم واسع وسع وجود هذا الكون، يلجأ الكاتب والقارئ إليه ليدخل بوابات العالم من المكان النظيف، من الرقي الروحي والنفسي، من المكتبة.
المكتبة، هي الخزان الثقافي، الماء الزلال أو النهر الإنساني العظيم، روافده كانت وما زالت مستمرة في كل مكان من هذا العالم المتلاطم الأمواج، كتاب إلى جوار كتاب، مستيقظ، جالس أو واقف على الرفوف، ينتظر اليد الرقيقة الحنونة لتمسكه وتجول في أفيائه.
والمكتبة صوت صارخ، تنادي بصوتها الآخاذ لمكتبة أخرى في مدينة أخرى، إحداها في شمال الكرة الأرضية والأخرى في جنوبها وأخرى في شرقها تناغي غربها. هذا الباحث الرائع، ينقلنا ببراعته من كاتب إلى آخر، ومن مؤرخ إلى آخر، ومن فيلسوف إلى عالم الرياضيات إلى الطبيب. ومن حضارة في زمن ما إلى حضارة أخرى في زمن آخر، فيتوحد الزمن في الزمن، والمكان في المكان ليفتح طريقه في روافد العقل الإنساني. ويتناغم عصر في عصر. وننتقل ونجول في العصر الروماني، ونكمل طريقنا إلى الإغريقي إلى العربي فالإسلامي، فعصر النهضة إلى أن نصل إلى الثورة الفرنسية، ومن ثم من وإلى النت.
لا يتقيد الباحث بالزمن، فزمن الثقافة مفتوح على زمن الثقافة، والثقافة على بعضها بعضا، أحدهم يأخذ بيد الآخر كروافد يصب في النهر الشلال. كما أن الفهرس من ضرورات الثقافة والمكتبة والكتب: «إذا كانت المكتبة مرآة للكون، فإن الفهرس سيكون مرآة المرآة. والفهرست ابتكار أدبي فريد».
من النادر أن تجد شعبًا أو قومية ليس فيها مكتبة وفهرس، فقد أعطى المكتبيون العرب، الأفضلية أحيانًا للمواضيع والانضباط، أكثر من قيود الأبجدية. فابن سينا حين كان يزور مريضه، سلطان بخارى، اكتشف مكتبة مقسمة على نحو ملائم إلى مواضيع علمية من كل الأنواع، فيها عدة حجرات: «في كل حجرة هناك خزانات ذات أدراج ملأى، مكدسة الواحد فوق الآخر. في حجرة منها دواوين شعر بالعربية، في القانون، كتب إغريقية. كتب لم أرها من قبل أبدًا ولم أرها من بعد أبدًا».
إذا كانت المكتبة في الصباح توحي بصدى نظام واقعي بسيط ومعتدل للعالم، فإنها في الليل تبدو منتشية وسعيدة بفوضى العالم. المعمار الضمني لهذه المكتبة اللامتناهية ـ الغامض، المهيب، السرمدي ـ يدفعنا ليستمر حلمنا بنظام كوني.
في السابق، ربما لم تكن الكتب مفتوحة، لهذا كان الكون مصاغًا في كلمات
في اللحظات الحميمية التي يعيشها الإنسان، يفقد قدراته على التواصل في المدى الواسع بالمكان.
ويدخل الباحث ألبرتو مانغولي، في حيثيات المكتبة، وينقلنا معه بشوق المحب الرقيق، إلى المكتبات العربية، التي ازدهرت في نهاية العصور الوسطى، ثم فهرستها حسب الترتيب، فتقف على الرفوف في صفحات ابن النديم النصوص الدينية جنبًا إلى جنب مع النصوص التجديفية، ومؤلفات علمية صنفت معا كتابات علم المنطق، بينما الدراسات الإسلامية اقترنت بدراسات أديان الأمم الأخرى.
الشعوب التي تهتم بالكتب والمكتبات والثقافة هي شعوب حية، حتى إن يوليوس قيصر، على الرغم من جبروت دولته ومكانته تردد على مكتبة الإسكندرية العظيمة، إحدى أهم صروح العالم القديم، ذهوله، وربما غيرته من المصريين، دفعته لتشييد مكتبة في روما، بيد أن افتتاح أول مكتبة تم في أول سنة من حكم أغسطوس، وأقيمت في المكان الذي دعي بقاعة الحرية، وتم تزيينها بالتماثيل وبصور شخصية لمشاهير الكتاب، ومن سخريات القدر أن اسينيوس بوليو، الشاعر والكاتب المسرحي والناقد الأدبي والمؤرخ، شيد المكتبة من غنائم الحرب وبناها في القاعة المذكورة.
عشق الثقافة قديم قدم الإنسان. فهذا الإنسان حاول أن يبدد القلق الوجودي في داخله عبر الكتابة. فكانت الكتابة والفن بكل أشكالهما، ورموزهما هي التعبير الأصدق عن المكنونات الإنسانية. خط الإنسان حرفه، في السابق، كتبه على الطين المشوي. شغفه في الحياة والحب والتألق والارتقاء دفعه في البحث عن الآلهة في السماوات السبع، للخروج من إسار السجن الأرضي، والعيش في الفضاء البعيد عن ثقل المكان وصغره بالنسبة للكاتب أو الفنان أو الموسيقي، أي المثقف بعمومه.
كان السومريون أول من رفع شأن الثقافة العالمية، فأبدعوا في ملحمة جلجامش، ورقوا البشرية معهم في هذا الكتاب الطيني الجميل. فخلدوا الخلود في الطوفان والتكوين، وشغف الإنسان القلق في البحث عن وجوده، فاكتشفوا العوالم البعيدة عنّا والكواكب السيارة، والموسيقى والكتابة والنحت والرسم، ودونوها على الحجارة والطين وبنوا المدن وقسموا السنة والأسبوع واليوم والساعة والدقيقة.
وبعد ذلك، جاءت الكتابة على ورق البردي والجلد، لإملاء العطش الثقافي القابع في النفس الإنسانية العطشى للمعرفة، ووضعت الكتب في لفائف، على الرفوف في المكتبات لتبقى للأجيال القادمة، وكأن كل كاتب أو فنان كان يرغب في الخلود من خلال الكلمة، في السعي لملء الفراغات بين المجموعات المترابطة، وكأننا كنّا وما زلنا أمام جدول مندلييف، يسكننا هاجس تكملة الأنواع والأشياء التي لم تكتشف.
ثم التجأ الإنسان في محاولة الحفاظ على ترتيب الفهارس إلى الأرقام كبديل عن الأحروف، لأن جماح التأليف لم يتوقف عبر التاريخ، وكان فارضًا نفسه على المتابع، فبرع: «سامويل بيبيس لاستيعاب هذه التخمة الكونية اللانهائية للمؤلفات ووضعها في الأرقام لأنها الأكثر فاعلية وقدرة على التبويب، إلى أن وصلنا إلى نظام ديوي لتصنيف الكتب».
يعتبر النص السومري كما ذكرنا هو أقدم أشكال الكتابة في العالم، يضغط المرقم:
«في طين ناعم وينتج عنه أسلوب كتابي على شكل إسفين، تمثل هذه التجربة كعلامات للكلمات، استخدموها للاحتفاظ بسجل لكل شيء، بدأت بالصور، ووصلت إلى مفاهيم كلمة». لقد احتفظت مكتبة أشور بانيبال التي تأسست في القرن السابع قبل الميلاد بأكثر من ألف رُقم طيني، ويقال إن الملك أشور المثقف، جمع آلاف الألواح الطينية التي تمثل تراث الحضارات التي سبقته، سواء المكتوبة باللغة السومرية والأكادية أو غيرها، ومنها ملحمة جلجامش.
سعت الثقافة منذ زمن وجودها لإطلاق العنان للخيال والبحث في ثنايا وزوايا الوجود عما هو مخفي، لهذا شيدت المكتبات التي هي في جوهرها كيان دائم النمو، بعصارة العقل والروح، والدم الحار الذي سفك على الورق ليعطي البشرية خلاصة الجمال الكائن وراء المحجوب والمتواري. المكتبة هي المكان الأليف، في داخلها كائنات عظيمة نائمة على صفحات الورق، تعيش دافئة بين الكلمات الرقيقة الحنونة: «وعلى الرغم من أن الكتب مخلوقات فوضوية، تبقى أكثر أسرار معانيها بعيدة عن فهم القارئ، فالترتيب الذي يحفظ بها عبر الفهرس، يمنحها تعريفًا معينًا يعطينا سببًا للتفاؤل، والمكتبات، إنها مثل الطبيعة، تمقت الفراغ بشدة، ومشكلة المكان متأصلة في طبيعة أي مجموعة من الكتب». وإن توسيع المكتبة لا يمكن أن يتم: «إلا إذا أصبحت مرجعًا شاملًا بأكبر قدر ممكن، ولا يمكن أن تصل إلى الشمول إلا في حالة وصول حدودها إلى حدود العالم نفسه».
إن هذا البحث، الدراسة أكثر من مهم وضروري قدمه لنا ألبرتو مانغويل على طبق من ذهب، اختصر لنا تاريخ المكتبة وتطورها وفاعليتها منذ نشوئها إلى حين وصولها إلينا اليوم.

المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here