“العنف الطبي في سوريا ليس استثناء إنما عمل ممنهج، يعود إلى فترة الثمانينات خلال الأحداث الأمنية التي عصفت بسوريا حينها، إذ كان الأطباء يشرفون على عمليات التعذيب ويصدرون شهادات وفاة”.
يدخل المتهم علاء موسى قاعة المحكمة متخفياً بقبعة الجاكيت الزيتي الجديد، واضعاً على فمه القناع الطبي حانياً رقبته، حتى إنه بالكاد يرى الطريق أمامه. يتعثر بخطاه أمام حاجز بلاستيك وضع للتباعد بين الناس من أجل الوقاية من فايروس “كورونا”. يتدخل المحامي الذي يسير خلفه فوراً، يسنده ويوصله إلى كرسيه. ترتفع أصوات النقاش، وضجيج العدسات التي انهالت على الرجل. يغوص المتهم بكرسيه وينقبض على نفسه، يجلس ساكناً من دون حراك. يقطع الضجيج دخول القضاة قاعة المحكمة، ينسحب المصورون الى خارج القاعة حاملين معهم كاميراتهم.
يطلب القاضي من المتهم الكشف عن وجهه، يخلع علاء الجاكيت الزيتي الغامق، ويجلس بطريقة متزنة، بلباسه الأنيق، بدلة كحلية رسمية، قميص أبيض، حذاء أسود ملمع بعناية، شعر محلوق بطريقة عصرية…
علاء لم يركب البحر ولم يغامر بحياته مثل اللاجئين للوصول إلى أوروبا، إنما سافر بتأشيرة عمل في شهر أيار/ مايو 2015 إلى ألمانيا. وما سهل عليه الحصول على تأشيرة العمل، هو نقص الأطباء في ألمانيا. أما موافقة العمل التي على الطبيب إبرازها لكي يحصل على التأشيرة، فرتبها له خاله الذي يعيش في مدينة كيمنتس في ألمانيا منذ نحو 20 سنة.
استطاع المتهم الحصول على شهادات اللغة المطلوبة بعد وقت قصير من وصوله إلى ألمانيا، لأنه بدأ دراسة اللغة منذ عام 2009 عندما كان في سوريا، بهدف الهجرة. في شباط/ فبراير 2016 حصل الرجل على أول عقد عمل محدد المدة في مستشفى الجامعة في غوتنغن. في أب/ أغسطس 2019، منحته نقابة الأطباء في ساكسونيا السفلى لقب “مختص في جراحة العظام والكسور”. ومع ذلك، لم يتم تمديد العقد في غوتنغن. كما يتذكر زميل سابق. تنقل بعدها بين مستشفيات عدة كان آخرها عيادة إعادة التأهيل في باد فيلدونغن، حيث اعتقله مكتب الشرطة الجنائية الفيدرالية من عمله في الثامنة مساء في 19 حزيران/ يونيو 2020. يقول المتهم خلال الجلسة الأولى إنه كان يحب عمله، لدرجة أنه كان يعمل من 200 إلى 300 ساعة في الشهر ويحصل على أجر بين 7 إلى 12 ألف يورو.
استطاع الرجل البالغ من العمر 37 سنة إخفاء ماضيه الطبي في المستشفيات العسكرية، حتى زميله الذي كان معه في الجامعة في غوتنغن صدم حين شاهد صور علاء في الأخبار، وقال إنه “ادعى في سيرته الذاتية أنه كان يعمل في أحد مستشفيات دمشق، ولم يذكر حمص في أي مرحلة في حياته”، لكن بحسب ما نقلت مجلة “شبيغل” فإن الشرطة وجدت في منزل علاء أوراقاً يعتقد أنها مزورة، جلبها علاء فترة عمله في مستشفى “الشهيد عبد القادر شقفة”. وهو الاسم الرسمي للمستشفى العسكري رقم 608 في حمص.
تفتتح الجلسة الاولى بقراءة بعض الجمل الروتينية ثم تقف ممثلة النيابة العامة، تقول بصوت عالٍ، “أنا أدعي على المتهم علاء. م بسبب ارتكابه 18 جريمة خلال عمله طبيباً في سوريا، منها حالات تعذيب، إساءة وإهانة، حرمان من القدرة على الإنجاب، حرمان من الدواء، واعطاء ادوية تتسبب بالألم أو حتى القتل”. قرأت النيابة قصة رجل مريض في الزنزانة قال له علاء سوف ترى الحوريات اليوم فوق وأعطاه حقنة، وبعد نصف ساعة، تدهورت حالة الشاب حتى مات. إضافة الى ذلك، يتهم علاء بالتحرش الجنسي واحراق قضيب صبي يبلغ من العمر 14 سنة وشاب آخر، وتفاخر علاء بين زملائه بأنه اكتشف بذلك أسلوباً جديداً للتعذيب، بحسب ما ذكرت النيابة العامة.
يجلس علاء على الجهة المقابلة لممثلي النيابة العامة، ينظر إلى ممثلتها. جلوسه يختلف تماماً عما كان عليه بحضور المصورين، يجلس بظهر مشدود، رافعاً رأسه بكل ثقة. يتدخل في ما بعد ويعلق باللغة الألمانية، من دون أن يستعين بالمترجم الذي يجلس بجانبه، يضيف بعض المعلومات ويشرح بعض المواقف بعد عرض القضاة ملفه الشخصي.
يخيم الصمت على القاعة، يبدو على وجوه الناس من مستمعين وصحافيين الذهول، بعد سماع التهم الموجهة لعلاء، تهم تدل على القسوة والجحيم في مستشفيات النظام السوري. ممثلة النيابة العامة تكمل قراءة التهم، التي نفاها علاء كاملة، واعتبرها عبارة عن تشهير ضده من المتطرفين الإسلاميين الذين يكرهونه لأنه مسيحي. لكنه سيواجه بسبب هذه التهم السجن مدى الحياة في حال تم إثبات تورطه.
تعتبر الباحثة الأكاديمية أنصار شحود أن “العنف الطبي في سوريا ليس استثناء إنما عمل ممنهج، يعود إلى فترة الثمانينات خلال الأحداث الأمنية التي عصفت بسوريا حينها، إذ كان الأطباء يشرفون على عمليات التعذيب ويصدرون شهادات وفاة”.
تطور النظام الصحي الموالي حتى انطلاق الثورة السورية، وترى شحود أن “ما يميز عمل الاطباء بعد عام 2011 أنه أصبح لهم دور سياسي، وعملوا على انتهاج العنف بتعذيب الناس وقتلهم بطريقة ممنهجة في السجون أو في المستشفيات، إذ أشرف الأطباء على عمليات إعدام المدنيين وخصوصاً المساركين من التظاهرات أو المدنيين غير المسيسين وإنما حسبوا على المعارضة لانتمائهم إلى مناطق تعتبر معارضة”. وكانت شحود أجرت بحثاً، تضمن لقاءات مع أطباء وممرضين وممرضات وعاملين في مستشفيات سورية، إضافة إلى ضحايا. وتوضح أنه “بعد عام 2012 تطور العنف ليتخذ شكلاً جديداً يهدف الى الابادة، فبعض الاطباء صمموا لانفسهم نظام تعذيب، من حرمان المساجين المرضى من الطعام أو الدواء، وعمدوا أحياناً إلى إعطائهم جرعات ادوية غير مناسبة أو قاتلة، فيما واصلوا إصدار شهادات وفيات غير صادقة من اجل اخفاء الادلة على القتل الطبي الممنهج”. لهذا السبب كان المعتقلون في السجون يخشون الذهاب الى المستشفيات، وبحسب الدراسة التي أجرتها شحود فإن نسبة النجاة من سجون الأفرع الأمنية هي أعلى بكثير من نسبة النجاة من المستشفيات، والأسوأ أن الطبيب كان أحياناً يختار ضحيته بنفسه إلى الزنزانة ويقودها إلى المستشفى الذي يطلق عليه السوريون اسم “مسلخ”. قدمت شحود أبحاثها إلى جامعة امستردام وأكدت من خلال البيانات أن هذا العنف ليس مجرد حالات فردية.
قبل اعتقال علاء وبعدما انتشر اسمه في تقارير إعلامية، حاول مع أحد أصدقائه تهكير حساب “فايسبوك” لأحدهم، لأنه تكلم عن جرائمه في لقاءات صحافية واتهمه بارتكاب جرائم التعذيب، بحسب ما نقلت “شبيغل”. وبعد فشل الهجوم الالكتروني طلب علاء ان ترسل صفحة الشخص الى الجيش السوري الالكتروني. اضافة الى ذلك وجدت الشرطة رسائل “واتساب” بين علاء والسفارة السورية، بحسب مجلة “شبيغل”، إذ طلب علاء مساعدة السفارة السورية في برلين، بعد انتشار الاخبار عنه، واقترح موظف السفارة عليه مغادرة ألمانيا فوراً، لكن الشرطة اعتقلته قبل ذلك.
يعتبر المحامي أنور البني أن تصرف علاء ليس غريباً، وهو لا يزال ينتمي للنظام وعقليته. وقد قام عناصر من المخابرات السورية بتهديد اقرباء أحد الشهود الرئيسيين في محاكمة علاء، بأنهم سيقتلون أخته المقيمة في سوريا في حال لم يتراجع عن شهادته أمام المحكمة ضد علاء في ألمانيا.
يأمل كثيرون بأن تعمل المحكمة على كشف دور النظام الصحي في التعذيب، من خلال التحقيق في دور بعض العاملين في المجال الطبي ومشاركتهم المباشرة في التعذيب في المستشفيات والمعتقلات في سوريا. فقد نوهت محكمة كوبلنز (محكمة الخطيب) التي انتهت راهناً، إلى دور الأطباء ومرافق الرعاية الصحية الموازي لرجال الأمن. وقد تحدث شهود عن نقص الرعاية الطبية وعن دور الأطباء في التعذيب كجزء من ظروف الاعتقال التي يعاني منها الناس عموماً في الأفرع الأمنية في سوريا.
معظم ضحايا التعذيب الطبي، هم ممن خرجوا في تظاهرات بعد عام 2011 من أجل المطالبة بالحرية وحقوق الإنسان. وأولئك الذين اعتبرهم النظام السوري خونة وإرهابيين، لهذا اعتقلوا واختفوا من دون محاكمة في أحد معتقلات الأجهزة السرية، وتعرضوا للتعذيب في السجون أو في المستشفيات.
(درج)