تحتفي رواية “خربة الشيخ أحمد” للروائي والشاعر السوري عيسى الشيخ حسن بالمكان إلى درجة تصل إلى إمكانية وسمه بالبطل الرئيسي للعمل، رغم غنى الرواية بالشخصيات الرئيسة والثانوية. وتأتي أهمية المكان من خلال إبراز البيئة الريفية كحامل لحيوات أهل المنطقة الممتدة من ريف الحسكة إلى دير الزور ثم إدلب إلى تخوم البلعاس في البادية السورية.
تدور أحداث الرواية انطلاقًا من قريتي الصفرة وخربة الشيخ أحمد المتجاورتين، والتي اختلف رئيساها أحمد الرجب وعبد اللطيف الخلف في أواخر العهد العثماني على شراء فرس أصيلة، ما لبث أن تحول إلى تنافس يحمل موروث الأجداد في الحروب والغزوات، والصراع على المراعي، رغم أنهما ينحدران من أرومة واحدة، تنقلت عبر سنوات طويلة باحثة عن مساقط المياه، ومع حلول مواسم القحط والجفاف حطّ بهم الترحال في هذه البقعة القصية من البلاد؛ “يسميهم أهل المدن (الشوايا) لأنهم بقايا تلك القبائل الناجية من مذابح هولاكو وتيمورلنك، ومنهم من يسميهم العربان، ولم تبقَ من كل هذا غير سُمرة حلوة، ولغة أضمرت في كلماتها مفردات الأولين” (ص 30).
تتوالى أحداث الرواية وهي تنقل تفاصيل الحياة اليومية لأهالي الصفرة وخربة الشيخ أحمد المتنازعتين في كل شيء إلا من وجود مدرسة وحيدة في الخربة يتعلم بها أبناء القريتين، لكن الشيخ عبداللطيف يسعى إلى بناء مدرسة ليفصل مرة ثانية هذه العرى بين أبناء العمومة، وبافتتاح المدرسة المحدثة يلتحق معلمها الوحيد عبد العليم ياسين القادم من ريف إدلب لتعليم أبنائها، لكن هذا الانفصال سيعود إلى التوحد مرة ثانية مع ذهاب ابني أحمد الرجب وعبداللطيف لمتابعة دراستهما في المدينة، والتي تعزز صداقة أبناء العمومة منصور الرجب وعبد الله العبد اللطيف، وتتجاوز خلاف الأبوين.
المعلم عبد العليم ياسين إثر مكوثه في القرية لأربع سنوات متتالية أفضى للحاج عبد اللطيف بأنه لن يترك القرية، وهو يعتبر نفسه ابنًا له، وهو ما يدفع الحاج إلى تزويجه من صالحة ابنة موفق البيطار “أبو نظمي” موظف الصحة، الذي يتقصى الأمراض السارية والمعدية في المنطقة، بعد حياة هانئة لسنتين تخللها زيارة الأطباء والمشايخ أنجبا ولدًا سمّياه ياسين، وفي يوم عطلة ذهب المعلم إلى المدينة لإجراء فحوصات طبية برفقة زوجته، وفي أثناء عودتهما تعرضا لحادث سير أودى بحياتهما، ثم توفيت أم نظمي حزنًا على ابنتها صالحة وزوجها، واحتضن الجد حفيده لمدة سنة ثم ما لبث أن فارق الحياة، فكفل الحاج عبد اللطيف الطفل ياسين، واعتبره ولدًا من أولاده.
يكبر ياسين في كنف الشيخ الذي يمنحه الحب والأمان، وفي أثناء دراسته الجامعية يتعرف إلى حسنة ابنة فواز المشعل الموتور الذي استجار بالشيخ أحمد إثر حادثة قتل غير متعمدة ارتكبها ابنه في قريتهم على ضفاف الفرات، وخلال محاكمة ابنه عاصي في محكمة دير الزور، يرافق ياسين أم القتيل وابنتها حسنة، وفي أثناء دخول الجاني إلى قاعة المحاكمة يتعرض لإطلاق نار من قبل أهل القتيل، يُصاب إثرها ياسين بطلقة نارية بالكتف، وتؤسس هذه الحادثة لخطوات إيجابية لحل الخلاف بين الموتور وأولاد عمومته، وتؤكد على عمق علاقة الحب بين ياسين وحسنة، لكنها تصدم بسؤال حول أصله، فينطلق ياسين برحلة للبحث عن أهله، المعلم عبد العليم ياسين ابن الجارمية إحدى القرى التابعة لريف حارم في إدلب، ومن هناك يكتشف بأن أهله أيضًا جلوا من منطقتهم بعد صراع مع عائلة أخرى امتد طويلًا وأسفر عن مقتل العديد من الطرفين، واستقروا في منطقة السعن على تخوم البلعاس، وتنتهي القصة بعودته ظافرًا إلى الصفرة مع أعمامه وأخواله لخطبة حسنة والزواج منها.
بدءًا من صفحات الرواية الأولى، تكتشف بأن شاعرًا مرهف الأحاسيس يقف وراء هذا العمل الماتع، لغة السرد في الرواية تقترب من الشعر في مواضع عدّة بما تحمله من صور فنية، تُظهر جمالية البيئة، وتنقل ببراعة تصل إلى حد الدهشة تفاصيل الحياة اليومية لأناس يختزلون ماضيهم الرعوي وحاضرهم الزراعي في بعقة جغرافية مهمشة ومهملة ما بين نهري الفرات والخابور، “كانت شمس أيلول تمشي على قدمين من قلق وانكسار، تدفعها إلى عشها الأبدي غيوم رمادية كابية، مزقتها الريح مزقًا صغيرة، وحولتها أشعة الشمس الواهنة إلى حطام مرآة كبيرة، يغالب ماء الفضة اللألاء طلاء الرصاص الكتيم، وعند التلة الصغيرة تناثرت أغنام القريتين في الأراضي البور” (ص 35).
ويقول في موقع آخر: “تشابكت الغيوم فوق لوحة الغروب، وشاغبت صاعدة هابطة تخفي قرص الشمس ثم تبديه، وهي تتواثب وتلهو حوله، فتتجمع وتتبدد، وتنتفض، مكونة لوحات غريبة مدهشة، ثم تتجمع السحب الشهباء والبيضاء والسوداء والرمادية، وتشتبك، تنفذ من خلالها أشعة الشمس الهاربة فتترك حصائر ملونة سرعان ما تذوب…” (ص 66).
ومثلما يحتفي الروائي عيسى الشيخ حسن بلغة السرد، تبرز أهمية استخدام اللغة المحكية في متن الرواية، وجاء واضحًا وعميقًا ومؤثرًا في الحوار، يستمد جذوره من أصله العربي الفصيح، بحيث شكل إضافة فنية لحبكة الحكاية، وما تحمله من تفاصيل، كما استخدم الكاتب مقاطع من الشعر والأمثال وأغاني أهل الفرات وأدعيتهم، “ريت الـ حرمني عشيري ينحرم دنياه ويموت يوم الثلج الكفن ما يلقاه” (ص 114).
وأيضًا، إضافة أخرى برزت في تجليات الملا سعيد الكردي، رجل الدين الذي يعيش مع أهل القريتين، وهو يتلو نصًا شعريًا صوفيًا للملا الجزيري باللغة الكردية، والذي يدلل على التنوع المجتمعي لسكان الجزيرة السورية.
في رواية “خربة الشيخ أحمد”، يُبرز الصراع بين الشخصيات ثراء البيئة بموروثها المتواتر وعاداتها وتقاليدها كالثأر وزواج البدائل والحيار والأفراح والحب والموت، وطقوس الرعي، والزراعة وتطورها مع دخول زراعة الخضار، وثورة القطن التي أكملت دورتها مع زراعة القمح والشعير والعدس، وهي تؤكد على عمق تأثيرها في أحداث الرواية على نحو خلّاق، وقيمة فنية عالية، رغم غياب السياسة عن عوالم الرواية، لكنها تحضر في خلفية الأحداث أيام “العصملي” و”الفرنساوي”، وأحداث الثمانينيات، والحرب العراقية الإيرانية، وفي حوارات أهل دير الزور حول الأحداث الأخيرة تبدو أكثر وضوحًا وتجليًا في انقسامات المجتمع السوري بين القومي والإسلامي واليساري.
رواية “خربة الشيخ أحمد” للأديب عيسى الشيخ حسن أقرب إلى العمل الملحمي، الذي يؤكد على أهمية المكان وغناه، وبأنه قادر ببيئته الريفية البسيطة على مزاحمة صخب وضجيج المدن الكبرى، وصراع المال والسياسة والسلطة، وأن الفضاء المفتوح إلى حدود السماء، ورائحة الأرض وخبز الصاج والتنور تشكل مجتمعة إضافة جديّة ومؤثرة في المشهد الروائي العربي.
*تلفزيون سوريا