ياسر الخوجة: “خيمة المعجزات” لـ جورجي أمادو.. أسطورة الأدب بين زوربا البرازيلي واليوناني

0

صراع الثقافات الأزلي يباح فيه استخدام كل أنواع الأسلحة بما في ذلك الأنثروبيولوجيا، فهناك دائماً من يحاول أن يفكك المجتمعات  ويجعل منها كانتونات بشرية، وبالمقابل هناك شعوب تُقتلَع جذورها من أراض عطشى وتهاجر بلا أجنحة بحثاً عن فردوس جديد، وما إن تحط رحالها حتى تنثر بذورها الأصيلة لتنبت منها الموسيقى التي تحكي آلاف القصص عن الحب، البؤس، روائح المأكولات الشهية، أنواع العطور السرية، الرقص الذي يغوي الحضارة بأن تنهض من جديد، إنها الأشياء التي لا توجد حقائب تتسع لها بل نحملها معنا في الذاكرة أينما ذهبنا ونمنحها بكل ألوانها الزاهية لمن نحب.

هذه الوصفة الإنسانية التي قدّمها الروائي “جورجي/خورخي أمادو في روايته (خيمة المعجزات) والتي نشرها عام 1969، مستلهماً شخصيات أبطالها وأحداثها من الواقع مع إضافة تركيبة خلّاقة ونكهة أدبية خاصة على الرواية  تقول لنا إن الإبداع ليس له حدود.  

بيدرو أرشانجو.. الحب المنقسم عن الأبيض والأسود

بيدرو أرشانجو بطل الرواية الذي يخرج عن كونه قارئاً ليصبح باحثاً و مؤلفاً وتندرج كتبه كأهمّ مراجع في مكافحة العنصرية التي تقمع الأفرو-برازيلية وشعبها الملّون بعد إلغاء العبودية. يجسد في الحقيقة شخصية الباحث الأنثروبيولوجي مانويل كويرينو الذي تتبع سلالة  الملونين في السلفادور، حين عانت في إحدى الفترات من التمييز العنصري من أولئك الذين يختزلون التاريخ لهم وحدَهم ودافع عن تمازج الأجيال وقدَّم كتابه الأهم وهو (مطبخ باهيا) الذي يحكي عن كثير من المأكولات التي تشتهر فيها رابع أكبر ولاية برازيلية والتي تقع على المحيط الأطلسي وعلاقتها الثقافية والاجتماعية بالسود.

إن بطل الرواية هذا ليس كما اعتدنا أن يكونوا أبطال الروايات، فهو شخصية جدلية ممتلئة بالتناقض الإنساني يعيش في عالمين، عالم غرائزي محبّ للخمور والنساء ولا يمكن أن تضع عليه اللوم إذا أحبته النساء، لا يمكن أن تلوم الصخرة إذا تكسّرت عليها الأمواج. وهو رجل يتناغم مع فلكلور مدينته باهيا التي يحيي سكانها الكرنفالات وقرع الطبول و الكابويرا (أحد فنون القتال). أمّا عالمه الآخر فهو يبحث فيه عن أصول بني جلدته من الملونين الذين قدموا من أفريقيا واختلطوا مع النخبة البيضاء، فيخوض من خلال أبحاثه المعرفية صراعاً مع الثقافة السائدة التي يشنها البروفيسور الأكاديمي نيلو آرغولو على المختلطين في مدينة باهيا، والذي كان يدعو للفصل بين البيض والسود.

ورغم عدم توازن قوى هذا الصراع الثقافي فإن أبحاث بيدرو أرشانجو تصبح أحد أسباب إنهاء الحرب العنصرية في مطلع القرن العشرين الذي فقد فيها صديقه الأقرب إليه ورفيق خيمة المعجزات ليديو كورو برصاص الشرطة العنصرية.

بهذا أراد خورخي أمادو أن يقول: إن المعرفة هي أهم وسيلة للتغيير والنهوض نحو حياة أفضل، المعرفة وليست المعركة  وحدها من تنتج سلالات بشرية نقية غير محقونة بمصول الكراهية وإلغاء الآخر التي تصل إلى محاولة نزع شعوب بكاملها من جذورها وتاريخها، أراد أن يقول إن هذه الأرض التي نعيش عليها تتسع للجميع وليست ملكية لأحد..

فلتكن نور شعبك، كما أرادت إحدى الأمهات من بيدرو أن يكون.

خيمة المعجزات.. غرفة الرغبة والاعتراف

ليديو كورو الرسام والمناضل ضد التمييز العنصري، وهو شخصية صاحب خيمة المعجزات في الرواية والتي كانت المكان المفضل لبيدرو أرشانجو ليتعاطى مع ثقافة شعب واسع الشغف للحياة ويدافع عنهم من بوليس العنصرية، هذه الخيمة  لم تكن تصنع المعجزات بهذا المعنى، ليديو كورو كان يرسم المعجزات للآخرين ويحدد مصائرهم بريشته، إنها نوع المعجزات التي نبحث عنها في أعماقنا، إنها معجزة الحياة التي وهبها الإله للإنسان، إنها معجزة الحب حين يتخطى حدود العرق واللون ويكسر التمايز والنمطية بين البشر،  إنها معجزة القوة التي تجعل الآخرين لا يستسلمون أمام الكراهية والطبقية، وحدث هذا كله في خيمة المعجزات المكان الفقير الذي استقطب حتى أولئك الذين مزقوا ميراثهم وانصهروا مع فئة الناس البسطاء.

 بهذا جمع أمادو بين الحقيقي والخيالي في روايته  كنوع من التحيز للقارئ الذي يريد منه إقامة علاقة وطيدة مع أحداث الرواية، الخيال وحده يحدد جمالية النص الأدبي حين يقدم نفسه على أنه مكان لإعادة صياغة العالم، إضافة إلى اللغة النثرية الجميلة التي استخدمها على لسان أبطال روايته والتي اعتادَ أمادو استخدامها في أعماله الأدبية ما يضفي عليها نكهتها الأدبية الخاصة.

خيمة المعجزات مكان يحسد عليه، فتجد فيها ناساً فيهم من الحياة والبهجة رغم بدائيّتهم الاجتماعية أكثر من غيرهم، يحيط بهم خصوم شرسون خلقتهم المنظومات السياسية  التي ميّزت العرق وجعلت من الملونين دونيين عن غيرهم البيض، إنها مكان اجتماع يتردد عليه الفنانون والحرفيون ومعتنقو الدين والرقص الأفريقيون وجميع السود والمولاتو وحتى البيض الذين تنبذهم النخب الحاكمة ويشتركون جميعاً في الرغبة بالاعتراف بأكثر مكامن الجمال في هذا العالم.. الحب.

زوربا البرازيلي

من الجدير بالذكر أن رواية “خيمة المعجزات” ترجمها ونقلها إلى اللغة العربية الكاتب والشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان، وأضاف على عنوانها جملة “زوربا البرازيلي”،؛ لأنه رأى في بطل الرواية بيدرو أرشانجو نسخة برازيلية عن زوربا اليوناني، شخصية المحب للحياة والنساء وأنواع الخمور والمغامرات كما وصفه عدوان.

لكن قارئ زوربا اليوناني سيجد اختلافات كثيرة بين الشخصيتين، فزوربا اليوناني رجل أميّ غير متعلم ولا يعترف بالكتب، خلقها كاتب الرواية (نيكوس كازانتزاكس) من شخصية حقيقية لرجل قابله من خلال تجواله في القارة الأوروبية، أمّا زوربا البرازيلي فهو رجل ذو تعليم ذاتي وأصبح فيما بعد مرجعية فكرية ولديه عدة مؤلفات.

زوربا اليوناني لديه رقصته الشهيرة التي بقيت حتى الآن واحدة من أروع الفنون الأدبية، أما زوربا البرازيلي فينقل إلى العالم ثقافة كرنفالات ورقصات الشعب الأفروبرازيلي ويدافع عنها كأحد أبرز أنواع الفلكلور الشعبي الخام، ومع ذلك نرى أن الشخصيتين اليونانية والبرازيلية يستطيعان أن يصنعا الفرح لمن حولهما وهما في أشد مراحل الحزن أو السعادة، كلتا الشخصيتين اليوناني والبرازيلي هما لرجلين حقيقيين كانا إلهاماً  للروائيين كازانتزاكيس وأمادو وربما كل إنسان خاض في هذا العالم وثقافاته قد تعرف إلى شخصية تشبه زوربا لكن من نوع آخر زوربا لا نعرفه وليس له روائي أو مفكر يكتب عنه.

إن ترجمة عمل أدبي تعدُّ نقل ثقافة بلد إلى بلد آخر، ورواية خيمة المعجزات لم تكن بهذا الحمل الهيّن، لكن ممدوح عدوان استطاع أن ينقل لنا هذه الثقافة بكل أمانة ودقة، فالترجمة الأدبية ليست فقط ترجمة كلمات من لغة إلى لغة، بل هي أيضاً ترجمة مشاعر وأحاسيس وحالات إنسانية وأي ثغرة في الترجمة ستنحرف معها الرواية ويضيع فيها النص.

وأيضاً وضع ممدوح عدوان مع نهاية الرواية ترجمة كاملة للمصطلحات البرازيلية التي أسهب فيها خورخي أرمادو في رواية خيمة المعجزات، الأمر الذي يسهل للقارئ معرفة معاني كثير من المفردات الأفرو-برازيلية والتعرّف أكثر إلى عادات وتقاليد الشعب البرازيلي الممتزجة مع الثقافة الأفريقية.    

“خيمة المعجزات” في السينما

رواية خيمة المعجزات هي من نوع الأدب الذي لا يمكن تجاهله؛ لهذا تم إنتاج فيلم درامي يحمل نفس اسم الرواية سنة 1977 في البرازيل من إخراج نيلسون بيريرا دوس سانتوس ومن بطولة هيوغو كارفانا وسونيا دياس، أراد المخرج في هذا الفيلم أن يكشف العنصرية في المجتمع البرازيلي وأن يسخر منها حين استعمل في أحد مقاطع الفيلم أسلوب (الفلاش باك)، حيث يظهر فيه البرازيليون وهم يستمعون ويوافقون على خطابات العرقية والفصل العنصري، حاز العمل جائزةَ أفضل فيلم وأفضل إخراج في المهرجانات السينمائية في بلاد جنوب القارة الأميركية وفي مهرجان برلين، وفي حفل جائزة الأوسكار  الـ50 تم اختيار الفيلم كأفضل مدخل برازيلي سينمائي باللغة الأجنبية لكن لم يتم ترشيحه للجائزة.

كانت للرواية والفيلم دور محوري كبير في التغيير الثقافي الذي شهدته البرازيل خصوصاً في مسألة الأعراق والجدل حولها، بعد معاناة لسنوات طويلة من استغلال الحزب اليميني في البرازيل للفصل العنصري وعمليات التطهير التي طالت حتى المثقفين الذين عادوا واتحدوا ثم شاركوا في انقلاب عام 1964 المدني والعسكري على سياسة التمييز العنصري.

جورجي أمادو لاعب أدبي محترف

جورجي/ خورخي أمادو، روائي برازيلي من مواليد باهيا سنة 1912 وتوفي عام 2001 عن عمر يناهز 89 عاماً أنتج فيها أكثر من سبعة وعشرين عملاً روائياً وتُرجمت أعماله إلى قرابة 49 لغة حول العالم، ومن أشهر أعماله إضافة إلى روايته خيمة المعجزات، رواية (كاكاو) عام 1933 و رواية (بحارة الرمال) عام 1937، وأيضاً رواية (وطن من الحروب) عام 1972.

 يعدّ أمادو أحد أهم روائيي المدرسة الحداثية في الأدب، وفي معظم رواياته نجد أنه كان يعكس صورة لبلد مبتهج ومتفائل في ظل المعاناة من الفجوات الاجتماعية والاختناق الاقتصادي. كان يحلم بمدينته الخاصة التي ليس فيها عنصرية؛ ولأنه وُلد في مزرعة فقد أسقط في رواياته الأولى كثيراً من الصراعات التي يتعرض لها أولئك الذين يعملون في الأرض والزراعة ويتعرضون للعبودية .

نشر أمادوا روايته الأولى (بلد الكرنفال) وهو في الثامنة عشرة من عمره وكان ما يزال طالباً مبتدئاً في كلية الحقوق، وأصبح حينئذ أحد أصغر الروائيين في العالم، وفي العام نفسه نشر روايته الثانية (كاكاو) التي زادت من شعبيته.

تعرض أمادو للاعتقال السياسي وحُرقت كتبه أمام العامة، ثم مُنعت كتبه من التداول في البرازيل ونفي إلى الأرجنتين بينما تزداد شهرته في معظم دول أوروبا، وحين عاد إلى البرازيل تخلّى جورجي أمادوا عن نشاطه السياسي ووقفَ نفسَه للأدب، إذ بدأ مرحلة إبداعية جديدة أتت ثمارها مع أعماله الغنية بالإبداع الأدبي.

في عام 2014 وبعد وفاته حصل أمادو على لقب القائد والمدافع عن المواطن وهو أحد أرفع الألقاب الجديرة بالدفاع عن الحرية والعدالة الاجتماعية في مدينة باهيا.

*تلفزيون سوريا