ياسر الأحمد: مدارس الفن شجعت على بعث “نادي الوجه القبيح”

0

عام 1979 أحرق الكاتب رجاء عليش مسكنه ثم جلس في سيارته وأطلق على نفسه النار. لكنه قبل ذلك أصدر رواية يتيمة بعنوان لافت “لا تولد قبيحاً” وعلى غير المألوف وضع مقدمة لروايته يستفيض فيها شارحاً مشكلته الجوهرية: لقد ولد قبيحاً بشكلٍ لا يمكن تغييره.

مع أن عمليات التجميل تستهلك في أميركا لوحدها مالا يقل عن 13 مليار دولار وهو ما يقارب الناتج المحلي لأكثر من مئة بلد في عالمنا. لكن رجاء عليش لم يفعل ذلك ولم ينجُ مما سماه في مقدمته “الحاجز الشفاف الذي يحول بينه وبين الاندماج في الحياة والباستيل الإنساني الغريب الذي يعيش فيه الإنسان حتى نهاية حياته”.

انتحر عليش لأنه لم يلقَ قبولاً اجتماعياً وأدبياً بسبب شكله المختلف وترك رسالة يشير فيها إلى رغبته بالانتقام ممن جعله يكفر بكل شيء. وهذا يشابه سلوك الوحش في رواية فرانكشتاين الشهيرة، فكل ما كان يريده الاعتراف والقبول رغم اختلاف شكله الواضح وعندما أخفق بدأ ينتقم من صانعه أولا.

لكن القبح يمكن أن يكون مصدراً للشهرة الإيجابية وأسلوباً للتسويق وجلب المال مثلما صدرت لنا السينما دميتها القبيحة “تشاكي”، وفي الفيلم عن “الرجل الفيل” سيتمّ استثماره في السيرك ويكون له جمهوره الباحث عن القباحة التي نخافها ونخشاها وفي ذات الوقت يجذبنا باختلافه عن نمطية الوجوه والأذواق المعتادة فيما يشبه “الفيتشية الجنسية المنحرفة” ليصير القبح في مداورته مع الجمال وجهه الآخر فعلاً لا مجازاً، ويؤكد الكلام الثقافي عن نسبية رؤيتنا للقبح حين يمكن أن يكون من مصادر البهجة أن نسمح للأطفال باحتضان الدمى القبيحة، أو أن نقرأ شعر الحطيئة وهو يهجو نفسه:

“أبت شفتاي اليوم إلا تكلماً/ بسوءٍ فما أدري لمن أنا قائله/ أرى لي وجهاً قبّحَ الله خلقه/ فقُبح من وجهٍ وقُبح حامله”.

وإمعاناً في مسخ الحدود بين المفهومين أقام النازيون ما سموه “معرض الفن المنحط” وقدموا فيه مزيجاً من الأعمال الفنية –السريالية مثلاً – قرروا بكل بساطة أنها قبيحة ويجب إحراقها أو إخفاؤها على الأقل.

لذلك سنوافق على تعريف القباحة بأنها “مادةٌ في غير مكانها” لكن أين مكانها أولاً ومن يصنع الحدود في إدراكنا حين نقرر أن هذا الوجه جميل وهذا المبنى تحفةٌ معماريةُ فعلاً وأن القدم البالغة الصغر نموذجٌ جماليٌ خالص ٌكما كان يعتقد الصينيون.

أليس الجمال مملاً وملتزماً بالقواعد ومحدوداً بينما يمكننا أن نلتقي باللانهاية في احتمالات القباحة كما يقترح أمبرتو إيكو. فالقباحة هي ما ليس جميلاً وهذا النفي واسع الطيف ومستحيل الحصر. والضدّ يظهر حسنه الضدّ كما يقول البيت الشهير.

حين أراد وحش الدكتور فرانكشتاين أن يصير إنساناً صار قبيحاً وهذا تناغم مع الرعب الدائم من تجاوز الفصل الواضح بين البشر والحيوانات. فالتشبه بالحيوان يعني دخول نطاق القباحة مع أن فولتير يخبرنا أنه “عندما نسأل ضفدعاً ما هو الجمال فسيجيبك بأنه أنثاه، بعينيها المدورتين الكبيرتين الجاحظتين من رأسها الصغير”.

بشكلٍ تدريجي ساهم الفن في تطبيع نظرتنا للقبيح ونقلها من إطار الحد الواضح إلى مجال الالتباس والاحتمال والشكّ ففي العصور القديمة اقترح أرسطو أن يمنع الأهل من تربية أولادهم المشوهين وفي طقسٍ قديم كانت المدينة تبحث عن أقبح شخصٍ لتتم التضحية به منعاً لحدوث الكوارث، بينما تكون التضحية بالجميل استجلاباً للمطر والخير.

لم يعد هذا مقبولاً اليوم فمدارس الفن صالحتنا مع القباحة والمضحك والمشوه. في الرسم قامت بالتلاعب بالأحجام والألوان وابتعدت عن متطلبات التناسق المعتادة. وفي الشعر بات الاحتفاء بالقبح ملمحاً شعرياً فبودلير يحتفي بندبات الجدري في جسد محبوبته ويرى الجمال في الرائحة في قصيدته “جيفة” ويسمي ديوانه “أزهار الشر”، وفي السينما سنجد الجميلة مع وحشها الطيب والرجل الأخضر القبيح شكلاً فاعلاً للخير مضموناً.

وبعد أن كانت التعاويذ تأخذ أشكالاً بشرية مشوهة لدرء العين الشريرة حصل “استحواذٌ ثقافي” للمفهوم وصار التهكم وتخفيف حدة التصادم مع القبح ممكناً، ففي عدة بلدان أوروبية يتم تأسيس “نادي الوجه القبيح” كنوع من نقابة ذوي العاهات الذين يقيمون حفلاتهم الخاصة ويكتبون في الصحف مطالبين بتمييز إيجابي لصالحهم بعد قرون من التحيز ضدهم.

نستطيع ملاحظة جانب ديني في القبح “فالمسيح عندما علق على الصليب كان قبيحاً ومشوهاً، لكن قباحته كانت جمالنا” والقباحة النمطية التي صورت بها الساحرات والعفاريت تمتلك قوة غيبية تستطيع تغيير أقدارنا وتحويل مجرى حياتنا، السحر القبيح يأسر الأميرة في جسد ضفدعة والأمير في قرون ثور بشع، وتلك سلطة القباحة الدفاعية ربما.

لكن أطرف ما يمكن أن نقرأه في اللعب بالكلمات في وصف القباحة بشكلٍ ضاحك بيتي ابن الرومي الشهيرين:

قصرت أخادعه وغاب قذاله/ فكأنه متربصٌ أن يصفعا/ وكأنما صفعت قفاه مرةً/ فأحس ثانيةً لها فتجمعا.

في المحصلة القباحة تكمن في إدراكنا للأشياء قبل أن تكون في ماهيتها فاليوم يعتبر الأنف الصغير علامة الجمال بينما كانت شعوب أميركا الجنوبية تعتبر الأنوف الكبيرة دليل جمال بما توحيه من أناقة وقوة ولو انتصرت هذه الحضارات لكان مقياسها اليوم هو السائد بالطبع.


*العرب