ولاء عوّاد: تركيا.. حب من طرف واحد وقلق الانفصال يكدّر عيشنا

0

عندما وصلت إلى مطار إسطنبول عام 2014 لم أكن أعرف أي شيء عن تركيا سوى ما قرأته خلال عملي في الصحافة، لا أعرف من هم الأتراك، وكيف يبدون خارج مسلسل “لميس ويحيى” الذي تابعته سوريا بأكملها والذي نافس في انتشاره مسلسل “كساندرا” المكسيكي من حيث مستوى المشاهدة.

في البداية كغيري أصبت بإحباط شديد حيث الناس هنا لا يتحدثون سوى التركيّة حتى في الأماكن السياحية، وأبديت استيائي وعجزي عن شراء احتياجاتي الأساسية رغم أنهم يستخدمون آلاف الكلمات العربية إلا أنني وجدت جداراً أعاق التواصل دون أن يكون فيه فتحة واحدة يمر من خلالها خيط أمل بأن تواصلي مع الأتراك سيتحسن.

في منطقة الفاتح، بدأت علاقتي مع إسطنبول وسيول الأمطار التي لم أشهدها سابقاً، رائحة الشاي في كل حارات المدينة، يشبهوننا إلى حد كبير إذا أهملنا فارق اللغة، جاراتي التركيات يجتمعن صباحاً على إبريق شاي وكثير من النميمة، الغسيل الأبيض الذي يتباهين فيه، رائحة النظافة والاهتمام بأدق تفاصيل المنزل لم تشعرني بغربة عن النسوة اللاتي ربينني، أولئك أيضاً كانوا يغسلون كل ما تقع إيديهم عليه بمناسبة أو بدون، لم اسأل يومها لمرة واحدة لماذا أنا هنا، كنت أشعر بالتعاطف والاحتضان في كل حديث ركيك مع سائق التكسي والبقال وجارتي اللحوحة التي كانت تذكرني كل يوم أنها تريد مني أن أتعلم التركية لتنقل لي أخبار البناء، هذه التفاصيل وغيرها لم أستطع مقاومتها، خاصة وأن هجرتي من دمشق كانت الأولى لا أعرف سواها، بل وأتغنى أنني لا أضيع، أخيط دمشق شمالها وشرقها وجنوبها دون أن ألتفت أو أقرأ لافتة واحدة تدلني على الطريق، استخدمت هنا كل أنواع التكنولوجيا، وسألت كل من مر في طريقي، كنت عاجزة أن أصل من السوق الشعبي “البازار” المتداخل مرة أخرى إلى بيتي، لكن بعد أشهر قليلة سلّمتها قلبي، فمدينة جميلة كإسطنبول لا يمكن مقاومتها رغم جميع تناقضاتها.

مرّت سنوات وتعرفت في فترة حملي على نوع جديد من التعامل، كنسوة يوقفنني ليقرأوا لي “المعوذات” على بطني التي كانت تبدو وكأن مدينة كاملة في داخلها، عندما أحمل أكياساً ثقيلة، كان هناك دائماً من يساعدني من “شباب الحارة”، أو أولئك الذين ينتبهون أنني عجزت عن إكمال الحديث مع جار غاضب أو سائق تكسي يريد أن يعاملني كسائحة فيتدخلون بقوة وكأنني ولدت هنا، وسط كل الكلام المثار عن الأتراك وتركيا والتعامل العنصري وغيره والذي يحمل من الحقيقة الكثير، إلا أنني وللإنصاف لم أستطع منع نفسي من أن أعرض تجربتي والتي تتشابه مع آلاف التجارب الأخرى، كان الأتراك لنا أهلاً فيها، واليوم ابنتي الوحيدة تكوّن ذكرياتها هنا، تشارك عائلة تركية وجباتهم وكذلك أولاد الجيران، أبوابنا مفتوحة كما أحاديثنا حول الاقتصاد والسياسة والدين وملف السوريين في تركيا، استمع إلى وجهات النظر وأصوب كثيراً منها وأندهش “ما زلت” من التغييب الذي يعيشه كثير من الأتراك بسبب الأخبار الزائفة على السوشيال ميديا، أو حتى ما تبثه قنوات تعتمد في صلب ترويجها لحزب معين أو أجندة ما ملف اللاجئين كصورة عارية غير أخلاقية تُعرض مطلع كل نشرة أخبار دون إذن صاحبها أو صاحبتها.

لا أمر على أخبار الترحيل على أنها انتهاكات “إنسانية” فقط، لكنني أفكر كثيراً فيما يفكر المُرّحل وهو في باص يشبه ذاك الذي بات يسبب لنا صدمة حينما يمر بجانبا، ملايين السوريين تم ترحيلهم داخل سوريا، المقصد أننا نعرف ذاك الشعور تماماً، إذاً ماذا يا ترى لو أن ذاك المُرحل قسراً لديه ذكريات في بيته المُستأجر في إسطنبول، أو أنه يحب فتاة من حيّه، ماذا لو اعتاد شرب الشاي مع البقال مساءً متحدثين بالسياسة والدين والحياة والاقتصاد والآن يفقد صديقه!.

شخصياً لا أتخيل أنني سأخرج من تركيا وأنا ناقمة أو حاقدة، لا أتخيل أن فراقها الحتمي لن يكون مراً، كبُرت عشر سنوات هنا، تغيرّت وكوّنت أفكاراً جديدة عن الحياة، مثلاً علمتني تركيا أن البيت المستأجر أمر طبيعي وأن الأثاث يجب أن يكون رخيصاً بل وأصبحت استخدم كل أدواتي المنزلية ( الصحون والملاعق والكؤوس) هنا لا مجال لأن تترك شيئاً للضيوف لأنك لن تضمن عمّال النقل في كل مرة، أصبحت خسارات الذكريات أخف وطأة وأحياناً تصيب إسطنبول سكانها بشره تكوين ذكريات جديدة كل فترة، مدينة مليئة بالأعراق والأجناس ولا أحد يدوم، تخبرك كل صباح أنها مؤقتة وأنّك غريب.

يعيش معظم السوريين والعرب بشكل عام اليوم هذا التخبط، يتابعون الأخبار أكثر من أي وقت مضى، منهم من يؤجل طلاء منزله إلى بعد الانتخابات المقبلة وآخر اتخذ قراراً أعمق بأن يؤجل فكرة الإنجاب وحتى الارتباط إلى حين وضوح توجه تركيا في الأيام القادمة، خاصة مع الخطوات الرسمية التي تلمّح حيناً وتكون واضحة في أحيان أخرى حول عودة العلاقات مع نظام الأسد، أي أن مستقبلنا جميعاً سيسلّم مرة أخرى لديكتاتور دمشق، أو أننا سنعود “قسراً” إلى إدلب، لتكون هجرة أخرى وليست أخيرة في ظل التخبطات السياسية والعسكرية التي تشهدها المنطقة.

ربما تكون هذه المشاعر تحت السيطرة بالنسبة لنا، نحن الذين حزمنا حقائبنا عدة مرات ووصلنا إلى يقين بأنه لا وطن لنا، نحن الأوطان حيثما تحلّ رحالنا، لكن المولودين في تركيا، ربما سيكون أصعب مئات المرات أن يواجهوا هجرتهم الأولى، دون تذكرة طيران أو تحضير لتغيير المجتمع، فجأة ربما يتخذ أي سوريّ هنا قرار الهجرة شمالاً نحو أوروبا، أو ربما إلى مصر، أو حتى العودة إلى إدلب فهناك على الأقل لن ترحّل أو تهدد بالترحيل إذا ارتفع صوت الأطفال قليلاً أو أبديت رأيك في شؤون بلدك فالأمر سيّان.

أتشارك اليوم واقع السوريين هنا في تركيا ربما لتفريغ خوف دفين من الفقد، وتغريبة أخرى تطرق باب العقل يومياً، فلا منطق من حب البلاد من طرف واحد، نحن الذين اُقتلعنا من أسرّتنا وشوارعنا ومقاهينا وأصحابنا على عجل، لا نريد تكرار المأساة.

*تلفزيون سوريا