ولاء عواد: أن تكون كهلاً في ثلاثينيات عمرك لأنك سوري!

0

منذ أيام سافرت صديقتي إلى بيروت، وفتحت لحظات وداعها أبواباً لم تكن مغلقة صراحة، إنما حاولت أن أتركها مواربة كنوع من المرونة والتأقلم، حبست في فمي عشرات المرّات جملة “لا تروحي” إلا أنني وعندما نظرت خلفي، إلى تركيا تحديداً دفعت بمركبها إلى الأمام، إلى المجهول، علّها تجد فرصة لحياة أفضل، خاصة وأنها الوحيدة بيننا التي لم تبلغ الثلاثين بعد، أنا وأصدقائي الآخرين الذين أصبحنا مادة تنمّر لبعضنا بعضاً، بدءً من الشيب وليس انتهاءً بالحديث عن سنّ التقاعد.

في جلسات المقاهي وغيرها من الأماكن التي تجمعنا، نتحايل على القلق والخوف بالسخرية، نمارس حياتنا بشكل طبيعيّ قسراً، تنتهي أحاديثنا جميعها، عن السياسية والدين والمجتمع وماضينا وحاضرنا ومستقبلنا بجملة “الحمد لله” كنوع من أنواع المسكنّات التي تساعدنا على عدم الاعتراف بأن زهرة شبابنا أكلها “حمار” يحاول اليوم تطبيع العلاقات مع كل الدول التي نقيم بها وعلى اختلافها، وأيضاً ندّعي بأننا مؤمنون بالقانون والعدل رغم كل ما مررنا به وأثبت أن لا عدل في هذه الحياة، وأننا كسوريي المنشأ والمولد علينا أن نركض فقط، في حالات الاسترخاء نهرول خلف أحلامنا، تلك الأحلام بامتلاك أوراق رسمية وثبوتية لا تقع ضمن خانة “الاعتقال الحرّ”، وبإحصائية بسيطة لأهم وأبرز الكلمات التي نستخدمها يومياً تتأكد عزيزي القارئ / عزيزتي القارئة وإن كنت ثلاثينياً سورياً تحديداً بأن كلمات كـ “هجرة ولجوء وكمليك وإقامة وفرنسا وهولندا وبرلين وخلصت وتعبت” الأكثر تداولاً في سوق أحلامنا، نحن الذين غدنا في كلّ يوم بات يُرتجلُ.

على صعيد أبعد وأكثر عمقاً، بتنا كـ كهول نواجه أزمة في علاقاتنا، لا تناسبنا الأجواء الصاخبة ولا الهادئة المملة، لا يناسبنا شريك، نُضطر أن نطفئ الأنوار بعده بسبب غلاء الكهرباء، أو يهتم كثيراً، أو لا يهتم، لا يناسبنا أن نُسألَ عن شي، فلا نملك الإجابات، والله لا نملك إجابات عن أيّ شيء، وكل ما نقوله مجرّد تكهنّات وتوقعات، نحن نحاولُ فقط، نريد “وليفاً” أكثر من علاقات ستبدأ بـ “أحبك” وتنتهي “بطلقني” بعد شهور وفي أحسن الأحوال سنوات، لأننا أجبن من أن نعترف بأن الحِملَ بات ثقيلاً جداً، وأن مصيبة بوزن ريشةٍ على ما يحمله القلب ستسبب بانسداد في أحد الشرايين، لنموت ويستيقظ صحفيّ ما ويكتب عن موت الشباب وأسبابه وتداعياته وأثره على المجتمع.

وفي الحديث عن الأمراض، انتشرت في أيضاً في أحاديثنا كثير من المصطلحات الطبية، جسدياً ونفسياً، فمع قضمة من “البرغر” مثلاً ستسمع ثلاثيناً سورياً يقول “معي الديسك” وأخرى تعاني من قصور في الغدة الدرقية، وواحداً لا يمكنه تحديد مصدر أوجاعه الجسدية لكنّه لن يضيع وقته في الذهاب إلى الطبيب، وبالطبع أمراض مثل القولون العصبي لم تعد تحتاج إلى تشخيص، أصبحنا خبراء في رصد أعراضها ووصف الأدوية المناسبة لها، إضافة إلى القلق المعمم، والذي تحوّل إلى نكتة لطيفة نقولها عندما يصاب أحد الحاضرين بنوبة هلع أمامنا لكننا نتجاهل أنها “هلع” لأن المصطلح مخيف والقلب لا يتحمل ريشة أخرى كما ذكرت سابقاً، يا الله ثلاثينيون نحن بكيس أدوية حمله جدّي في السبعين من عمره.

صحياً نتدارك الأمر بجميع الأعضاء، نعيد تشغيلها ونمتثل لنظام غذائيّ بين الحين والآخر، إلا عضو واحد لا نستطيع في عمرنا هذا أن نقدّم له شيئاً أو نخدعه، فدماغنا للأسف لا يمكن التحايل عليه، يرى بوضوح انهيارنا، وأننا نقاتل اليوم أملاً بأن يكون هناك غد، ليس مثالياً ولا فاحش الثراء، ولا أحد منّا يسعى للسعادة المطلقة، بل نسعى لوطن نملك حقاً في شبرين منه، بيتاً صغيراً، وأصدقاء، نحلم أن يتركنا العالم وكوننا غير مستفيدين أن يخرجنا أيضاً من أزماته الاقتصادية، أن يُترك لنا المجال لاختيار القضايا التي “نريد” الدفاع عنها، نحن لسنا أبطالاً وبطلات خارقات يا الله، نعم نهتم ونسمع ولدينا أماني كثيرة أن تُحلّ أزمة المناخ، وأن تعيش النساء في عالم أفضل، وأن يكون التعليم أكثر مرونةً وتقدماً، وأن يُرفع الظلم عن المسلمين في الصين، وعن الأوكرانيين، وأن تموت الخيام دفعة واحدة، وأن يعود البحر متنفساً ومكاناً لاصطياد السمك وليس لتقفّي أثر الغارقين، لكننا لم نعد نملك الأدوات، استهلكنا ماضينا، لم نخرج من بلادنا إلّا بطاقة تكفي لنستمر أكثر منها أن تدفعنا لأن نعيش.

لا أدعو للتشاؤم أبداً، ولا أدعو للتفاؤل مطلقاً، أدعو لتشابك الأصابع، ورصّ الأكتاف، دون شروط، ودون رغبة في أن يغيّر بعضنا بعضاً كي نشعر أننا متشابهين، فـ بالتالي نشعرَ بالأمان، أدعو إلى الحب واللطافة وكثير من المشكلات السخيفة، والأحاديث العميقة، أدعو لأن نعيش لا أن نكون فقط على قيد الحياة، وكهولاً مستسلمين في الثلاثين.

*تلفزيون سوريا