وسام حسين العبيدي: لماذا نريد الناس على مقاساتنا؟

0

لا أعلم، هل أحدٌ منا يدعي أنه الإله مُطلق القدرة؟ فلماذا نعبُد ذواتنا وتصوراتنا الثابتة عنها وعن الآخرين؟ وكأننا نريد من الآخرين أنْ يكونوا إما أصناما نعكف لها ساجدين، وإما نريد من الآخرين أنْ يخروا على ما لدينا ساجدين.
إن القولَ بالكمال المُطلق متعذرٌ عند الجميع، وقد لا يُنكر ذلك أحد. لكن المأساة كل المأساة، أنه ما زال الكثير منا إلى هذه اللحظة، وإلى ما شاء الله، يعمل وفق تصور أنه الكامل المطلق، والمأساة الكبرى حين لا يعذرُ كل واحدٍ منا الآخر حين لا يتفق معنا في قضيةٍ ما، يرى رأيا آخر، أو يقف منها موقفا لا ينسجم وموقفنا.
بمعنى أن الكثير منا لا يُتيح فُرصة لاختلاف وجهات النظر في قضايا تخص الدين أو السياسة أو الاجتماع أو الفلسفة أو الأدب أو الفكر، فلو كان كل واحدٍ منا يرى نفسه غير معصومٍ في رأيه أو موقفه، لكان له بكل أريحيةٍ وهدوء تقبل اختلاف وجهات النظر عند الآخرين، لكن الواقع المرير الذي نعيش تفاصيل أحداثه، يُنبئنا بخلاف هذه النتيجة، فما نجده من إقصاءٍ، وتهميشٍ، واستخفافٍ بالمُختلفِ عنا، وتصفيةٍ جسدية، وغيرها من تمثيلاتٍ تتنوع حسب الفضاء المُتاح له، لعل أخفها وطأ ما نجده في العالم الافتراضي من حظر المختلف والتبليغ على صفحته، وتعطيل حسابه، كل تلك المعاني لا تعني في حقيقة أمرها إلا شيئا واحدا، أننا نضيق ذرعا بالمُختلف عنا، وأننا دوما ما نُنزه أنفسنا عن كل خطأ، فمواقفنا هي الصحيحة، وكل من يُخالفها لا يُحالفه غير الباطل وغير القُبح والشذوذ وغيرها من معاني الشيطنة.

الاختلافَ الذي نعيشه في مجتمعنا العربي المعاصر، ليس كما قيل: (لا يفسد في الود قضية) بل أفسد وأفسدَ، فهل يعني ذلك الإفساد ترك الاختلاف؟ وإذا تركنا الاختلاف، كيف لنا أنْ نتوحد؟ وعلى وفقِ أي مذهبٍ ـ ديني أم أدبي أم فكري أم.. أم، إلخ – يقر الجميع بصوابه؛ ليخرجَ بعدها كل واحدٍ من أبناء هذا المجتمع العربي الممتد من الخليج حتى المحيط، برأيٍ واحدٍ ومذهبٍ واحدٍ وموقفٍ واحد، هل مثلُ هذا الافتراض صحيحٌ في أساس افتراضه، حتى نقبل بنتيجته الافتراضية؟
لا يمكن بحال أنْ نقبل بافتراض كهذا وإنْ نتشبث بالمقولة ذائعة الصيت: «فرضُ المُحال ليس بمُحال» فما قيمة الافتراض إن لم تتحقق واحدةٌ من مقدماته الكثيرة، وليكن ثبات المستوى الثقافي والعلمي عند الجميع، الذي يعمل على دفع كل هذه الجموع البشرية المكونة لهذا المجتمع في اتجاه النتيجة المشار إليها آنفا. هذا في ما لو فرضنا الإيمان بهذه المقولة، لكن الواقع المعيش لا ينبني على اقتناعنا بمقولة لا تصلح في ما تقدمه لنا من نتيجة، وهل الواقع غير الاختلاف بيني وبين الناس في هذه القضية أو تلك، بل أكثر من ذلك أننا لو تفحصنا بما بيننا من مشتركات موجودة على أرض الواقع، تجمعنا في كثير من المواقف والآراء، فهنا أيضا نجد ثمة اختلافات في وجهة نظر بعضنا عن الآخر في هذه المشتركات، تمثل في كل واحدةٍ مبلغ كل واحدٍ منا من العلم وحصته من الثقافة التي استقى بعضها من السلف، وبعضها عبر تجربته وخبرته في الحياة..

وبهذا الافتراض أيضا لا يمكن أنْ نتخلص من الاختلاف، إذن علينا مواجهة أنفُسنا وكسر الأصنام الثابتة في تصوراتنا التي نريد لها أنْ تكون محل قبولٍ وتسليمٍ عند الآخر، لا يحق له أنْ يتحفظَ من بعضها فضلا عن الاعتراض عليها. وكسر الأصنام عند الآخرين أيضا، بأنْ نهدمَ تصوراتنا المثالية عند كل من يُخالفنا الرأي أو الموقف أو التفكير، بأنْ نضعَ مسافة بيننا وبين كل من حولنا، تُتيح لنا التواصل معه، في الوقت نفسه، بأخذنا منه أو أخذه منا، ما نراه أو ما يراه مناسبا لنا في ذلك الظرف، وفي تلك الجزئية من الحياة، ونرفضُ منه بموجب ما لدينا من اختيارٍ، أو يرفض الآخر بما لديه من اختيار وقناعات، كل ما يُخالف تلك الرؤية والقناعة، دون إشاعة لمبدأ التعميم، الذي يعمل على إسقاط الآخر بقضه وقضيضه، ولا يُتيح لصاحبه فرصة التعاطي مع ما للآخر من رأي أو موقفٍ أو منجز، هذا المبدأ الذي لا يصدر إلا من فكرٍ صَدِئ يؤمن بالمطلقية، ويرى في حقيقة نفسه أنه الأوحد في هذا العالم، فما عنده يمثل الحق والمصلحة في كل شيء، وما لدى الآخر ليس إلا الباطل والمفسدة في كل شيء، وبهذا تكون النسبية موقفا ينتشلنا من هذا السلوك الإقصائي الذي لم نُخلق لأجله، بل خُلِقنا حسب ما أشارت إليه الشرائع ودل عليه العقل الفطري السليم، لأجل التواصل الخلاق، وإدامة روح التعاون في صنع حاضرٍ لنا أفضل من أمسِنا، يتكفل بازدهارنا عقليا قبل ازدهارنا عمرانيا؛ لتكون الحياةُ أجملَ وأدعى للسلم والأمان، من أنْ نعيش مثل ما هو عليه الوضع المزري حاليا، نخافُ أنْ يتخطفنا كل مختلفٍ عنا، بما يجعلنا نعيش في دوامةٍ من القلق والخوف لا نهاية له إلا بنهاية أعمارنا، ولأي شيءٍ يستحق هذا الصنم الوهمي الرابض في عقولنا، أنْ نُذعنَ له كل حياتنا، ولا يحق لنا أن ننبس ببنت شفةٍ تُخالف هواه؟

*القدس العربي