وداد طه: اختطاف

0

تقدّم من السيّارة أمامي ظلّان، كلاهما مُقنَّع. أمسكا السائقَ، الذي قاوم قليلًا، ثمّ أخرجاه وهو يضع يديه وراء رأسه.

ارتعدتْ أوصالي. ظلّت نظراتي معلّقةً بالرّجل المطأطَأ الرّأس، الراكعِ على ركبتيْه. كانت نظّارتُه قد سقطتْ إلى منتصف أنفه، ولم يتمكّنْ من إعادتها إلى عينيْه لأنّ أحد الرّجُليْن كان قد كبّل يديْه وهو يرطمه بقدمه ويُجبره على الرُّكوع.

عرفتُ أنّ دوري سيحين حين يفرغان منه؛ فسيّارتي كانت خلف سيّارته. أمسكتُ هاتفي وكتبتُ رسالةً إلى زوجي. غير أنّني لم أتمكّنْ من إرسالها؛ فقد سارع أحدُهما إليّ وفتح بابَ السّيّارة، ثمّ أمسكني من بلوزتي وشدّني.

راح عقلي يردّد: “ماذا سيفعلون بي؟”

***

كان وجهُ سعدون أوّلَ ما صحوتُ عليه. وجدتُ نفسي في غرفةٍ بيضاء، بابُها مغلق، وثمّة كنبة غُطّي اهتراؤها بشرشفٍ أخضر. شعرتُ بغثيان. فتقيّأتُ.

ظلّ وجهُه متهدّلًا ببلاهة. تذكّرتُ أنّني رأيتُه ليلةَ اختطافي. كان يجلس قرب السيّارة التي أخذتني. وكان يتأمّل ما يحصل. كانت تلك هي المرّةَ الأولى التي أراه فيها جالسًا؛ فهو – منذ هروبه من بيت والديْه – يمشي ليلَ نهار في طرق المدينة.

ظلّ سعدون ينظر إليّ وكأنّه ينظر إلى الفراغ. كنتُ مشوّشةً جدًّا، وأحتاجُ إلى قهوة. وقفتُ وحاولتُ أن أفتح الباب. كان زجاجه مغطًّى بورقٍ يمنع الرّؤية. عدتُ وسألتُه عن القهوة. تفحّصتُ وجهَه وأنا أرشفُها. كان قد غاب ثمّ أتى بالقهوة من حيث لم أدرِ.

***

ما زال على حاله مذ عرفتُه في ذلك اليوم الشتويّ. كان يومَها يصرخ في الشارع جائعًا. مرّت سيّارةُ تاكسي كانت تُقِلّني، فوقف أمامها وكاد السائقُ يقتله، لو لم ألحظْ خيالًا طويلًا أسود يلوح في العتمة. نبّهتُ السّائقَ إليه، فتوقّف في اللحظة الأخيرة. هجم سعدون على الشبّاك، وأمسك السائقَ من ياقته وقال: “هات!”

لم أخف منه، ولا أعرف لماذا سألتُه “ماذا تريد؟” نظر نحوي وأشار إلى فمه وكرّر: “هات!” أخرجتُ قرصًا من التّمر من حقيبتي، وناولتُه إيّاه. التهمه بسرعة، مصدرًا أصواتَ فرحٍ وتلمُّظ.

***

مرّ نصفُ النّهار ولم يظهرْ أحد من الخاطفين. شعرتُ بالجوع. سألتُ سعدون عن طعام. قام بعد ساعة وأحضر طبقًا فيه دجاجٌ وأرزّ. فاحت رائحتُه الشّهيّة. تناوله سعدون وهو ينظر إليّ كأنّي لست موجودة.

مللتُ وأنا أروح وأجيء في المكان، فسألتُ سعدون عن والديه: “هل مازال والداك على قيد الحياة؟”

لم ينظر نحوي. ظلّ جالسًا كأنّه لم يسمعني. قلت له:” أتعلم؟ في هذا الاختطاف شيءٌ حماسيّ. أشعرُ أنّني مهمّة. قد يجعل ذلك زوجي يقلق عليّ مثلًا، أو قد أحصل على علاوةٍ في عملي كتعويضٍ معنويّ. أتعلم يا سعدون ما أشدَّ رتابةَ حياةٍ لا اهتمام فيها من أحد؟ أحيانًا، أشعر أنّ الآخرين وحوشٌ صغيرة، بأحلام صغيرة في القلوب، وتشوّهاتٍ كبيرة في الأرواح. الآن أشعر بعبثِ تعريض نفسي للخطر من أجل الآخرين، الذين لم ينتبهوا – إلى هذه اللحظة – أنّني قد تغيّبت. أنظرْ يا سعدون! هاتفي معي، ولم يتّصل أيٌّ منهم كي يتفقّدَني. ماذا لو كنت ميتةً الآن؟ سيبكون، سيبكون كثيرًا وطويلًا. ولن يكون موتي سببَ بكائهم. سيبكون تعويضًا وحرمانًا وتماهيًا في طقس البكاء الجماعيّ. وسينسونني كما ينسونني الآن. أرأيتَ ما أجمل حظّك يا سعدون؟ وحدك في هذا العالم، بإرادتك الحرّة، خرجتَ من بيتك ومشيتَ وحيدًا. قالت المدينة كلّها إنّك مجنون. أتعلم كم يحتاج المرْءُ إلى شجاعة كي يختار الوحدةَ، فيغدو حرًّا من كلّ شيء: من نفسه ومن الآخرين، من زمنٍ أو انتماءٍ أو حلمٍ أو خوفٍ أو رأيٍ أو شكل؟ لعلّ أهلك ظلموك فثرتَ ولم ترضَ بغير الحبّ. لذلك خرجتَ ومشيتَ وحدك.

***

ابتسم سعدون لمرّةٍ أولى. بدا طفلًا بوجهٍ مدوّر، وعينين تلمعان، وامتنانٍ عميقٍ فيهما. قام نحوها. أمسك بيدها. راقصها كما لم يفعل أحد من قبل. أغلقتْ عينيها وتمايلتْ. خفّ جسمُها مع تسارع الخطوات، فراحت تتقافز وتضحك، تتماوج يمينًا ويسارًا، وتبتسم. شعرتْ أنّ أحمالًا تتساقط عن كتفيها: إهمالَ زوجها، عتابَها الطّويل، صبرَها الذي بات حزنًا مع عناده وأخطائه، قهرَها وخياناته، سكوتَها وتكبّره، تلك النّسوة اللواتي تخيّلتْه معهنّ، ثوبَ أمّها الأسود، صراخَ المتظاهرين في الشوارع، وجهَ مديرتها المتجهّم، قلّةَ الحيلة والخوف من الآتي، أوهامَ الحبّ والاستقرار المادّيّ، شعاراتِ الأحزاب المتصارعة، المستعجلين في الطّرقات، ديونَ الدّكّان، مشاكلَ الجيران على ركن السّيّارة، الزّمامير الغاضبة، الفقر، الجوع، الموسيقى، الحروب، الموتى …

***

فتحتْ عينيها. ابنتُها إلى جانبها تمسك يدَها وتمسح دموعَها. صوتٌ يهدر في أذنيها يشبه الصاعقة. انفجار قريب يدوّي. يصرخ الجميع. يرتجّ جسمُها. يرتطم رأسُها بعربة نقل المرضى. تغيب وتصحو. أصواتٌ ودخانٌ بعيد. مذيعةُ النَّشرة المسائيّة تعلن حالةَ طوارئ واقتتالًا في المدينة. باب ينفتح، ومسعفون يتدافعون نحوها. يرتجّ جسمُها. يُحمل ويُرمى بسرعة. ممرّ طويل مشعٌّ بنور قويّ. باب ينفتح. رجلان يقفان إلى جانب سريرٍ مغطّى بشرشفٍ أخضر. يمسك أحدُهما بيده مشرطًا، ويسألها: “هل تعرفين كيف ترقصين… واحد إثنان ثلاثة.”

*مجلة الآداب

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here