وجدان ناصيف: قبل أن أنزع شريحة الذاكرة

0

في أيار 2014، عندما كنت أعبر الحدود السورية اللبنانية مع عائلتي الصغيرة لاستلام تأشيرات سفرنا إلى فرنسا، ولنصعد بعدها على متن طائرةٍ متوجهة إلى باريس حاملين بأيدينا بطاقات ذهابٍ بلا عودة، استحوذت على تفكيري قصيدةٌ للشاعر اليوناني كفافيس تقول: 

لا أرض جديدة يا صديقي هناك 

ولا بحر جديد، فالمدينة ستتبعك 

وفي الشوارع نفسها سوف تهيم للأبد 

وضواحي الروح نفسها ستنزلق 

من الشباب الى الشيخوخة 

وفي البيت نفسه سوف تشيخ وتموت 

المدينة قفص، ولا أمكنة أخرى هناك، 

بل هذه دائما، 

ميناؤك الأرضيّ، ولا سفن أخرى تجليك عن نفسك

آآآه : ألا ترى؟ 

إنك يوم دمّرت حياتك في هذا المكان 

قد دمّرت قيمة حياتك في كلّ مكان

منذ ذلك التاريخ وحتى هذه اللحظة التي أجلس فيها لأكتب هذا النص في زاوية مطبخي في ميتز، وأنا أحاول اكتشاف قيمةٍ لحياتي في هذا المكان، وأعمل على إيجاد سبلٍ للخلاص من ظلّ البلاد التي تتبعني، كي لا تبقى روحي هائمةً في شوارعها للأبد، معلّقةً في الفراغ بين الـ«هنا» و«هناك». وسيلتي الوحيدة للمقاومة هي الكتابة.. الصفحة هي سفينةٌ «تجليني» عن ذاتي التي تركتها، عن ذاكرة الطفولة والشباب المليئة بالحسرات والأسف على الأحلام المهدورة. ولكي أبدأ سأحتاج مثل لوزي ماير؛ أن أُمنح صفحة أخرى، ومعها أحتاج لمأوى، لرشفة ماء، لطعام، لحبّ، لأمان، وللكثير الكثير من الحريّة. 

من غير الممكن أن أتحدث عن الضحيّة وفق تعبير روزا آيلو ثم أصل إلى المكان الذي سأصف به الصورة التي ضاعت مني، في تنقلاتي العديدة في السنوات الأخيرة، كما تطلب مني مورغان بريتشر  في لوحتها  Donner à Voir (جعله مرئياً)، قبل أن أمضي معكم في جولة صغيرة في ذاكرتي، وأصف خلفيّة الصور التي ضاعت مني، أو تلك التي لم أحملها معي إلى هنا.

بدايةً، ستحتاج معرفة السياق منكم خارطةً وسبابةً وبعض المخيلة. تنتقلون بالسبابة على الخارطة من حيث أجلس الآن في زاوية مطبخي المطلّ على الشرق، في مدينة ميتز في إقليم شرق فرنسا، وتتوجّهون بالسبابة شرقاً فشرقاً إلى الشرق الأوسط، ثم شرقاً قليلاً نحو سورية، ثم جنوباً إلى بقعةٍ سوداء جبليّة، ثم إلى شرقها مجدداً، وتتوقفون عند حدود الصحراء السوريّة، حيث البلدة التي ولدت فيها وشكّلت بدايات وعيي ومخاوفي وتجاربي وخيالاتي. وستقدّرون أنه ليس من مهمة الرواة رسم الواقع كما هو، بل استخدام الواقع كجذرٍ للحكاية التي ستنمو أغصانها وتتلوّن أوراقها وتزهر ثمارها وفقاً لخيالهم الخاص. فهذه ليست وثيقةً للتاريخ أو بحثاً علمياً يتطلب مني إدراج الشواهد، إنما هي فقط محاولةٌ للتخفّف من عبء الذاكرة الثقيل، وفي نهايتها لا أتوقع أن تحاولوا تصوّرها تماماً. فلا يمكن لأحدنا مهما كان ماهراً أن يرسم قصة الآخر كما هي، ولا هو ذاته يستطيع حتى تكرار حكايته الشخصية بالكلمات والعواطف والشغف ذاتهم مرتين، خاصةً إن كانت قصصاً شفويّةً لم تُسجل سابقاً في كتاب، وكلّنا يعلم أن ذاكرة الرواة هي -غالباً- ذاكرةٌ ماكرةٌ وانتقائيّة.  

صورة 1: نظام التأديب والعقوبات

يُقال إنّ المكان الذي نولد فيه يَصمُ شخصياتنا، و«الشخصيّ سياسيّ» وفق صياغة نسويّات الموجة النسوية الثانية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. فما يشكّل شخصياتنا وأدوارنا ومخاوفنا وصدماتنا (التروما) هو البيئات التي نولد فيها، هي الأشياء التي نراها ما أن نفتح أهدابنا للضوء أول مرّة؛ ابتساماتهم أو تكشيراتهم ما أن يتعرفوا على جنسنا. هذا الاستقبال سيحكمنا، ويشكّل قائمة مخاوفنا التي سنقاومها طوال حياتنا. 

في المجتمع الذي ولدت فيه، تُستقبل ولادة الأنثى غالباً بتكشيرة، ثم بابتسامةٍ تخرج حال سماع جمل المواساة مثل: «البيت الذي لا توجد فيه بنات هو بيت بلا روح»، أو «البنت هي زينة البيت»، وغيرها…  وعندما تكبر البنت قليلاً ويتفتّح جسدها الأنثوي يتضاعف قلقهم، فما أن يظهر انتفاخ ثدييها وتصبح قابلةً للإلقاح حتى يبدؤون بالدعاء: «الله يستر عليها»، «الله يبعد عنها أولاد الحرام». البنت هي مصدر قلق دائمٍ لعائلتها، لقبيلتها، لطائفتها، ولكلّ رجلٍ في مجتمعها، لذلك من المهم تعريفها بـ«لائحة التأديب»، وهي قائمةٌ طويلةٌ بالممنوعات والمُحرّمات.  فهذا الكائن الضعيف والهشّ كما يصفونه سيحمل أثقل الأعباء؛ شرف العائلة والمجتمع. ثم سيحتاج الشرف – الجسد إلى الحماية والوصاية والانتباه والمراقبة الدائمة، فيتعهّدون بسترها والدفاع عن شرفها (شرفهم) إلى الأبد، وعندما ستفكّر بالخروج عن المنظومة قليلاً أو كثيراً، وهو أمرٌ محتملٌ في عمرٍ كامل، ستكون عقوبتها شديدة. فقائمة العقوبات طويلة جداً، تبدأ بالعزل والوصم والحرمان من التعلّم أو العمل، وقد تنتهي بالقتل على مذبح «الشرف». إذ لا يمكن إحصاء أعداد النساء اللواتي قتلن بسبب خرقهن منظومة التأديب تلك، واللواتي سمعت عنهنّ أو كنّ قريباتٍ من عالمي. لكن كلّ التهديدات والعقوبات لم تمنع الكثيرات من نساء مجتمعي من المقاومة والخروج على المنظومة، كما فعلت حواء حين خالفت تعاليم الإله، فأي عالم مملٍّ كنّا سنعيش فيه لولا أنها استجابت لغواية السقوط من الجنة؟  

صورة 2: ذاكرة القميص 

في القرن التاسع عشر استوطن أجدادي أرضاً على حدود الصحراء شرق الجبل. بنوا بيوتهم من حجارة البازلت وزرعوا العنب والقمح وصنعوا النبيذ. أطلق العثمانيون على الجبل اسم «جبل الدروز»، ثم تغيّر الاسم عندما استولى القوميون العرب على السلطة، ليصبح اسمه «جبل العرب». خلط القوميون كلّ المكوّنات السوريّة المنوّعة في طنجرة واحدة، ثم قدّموها طبقاً شهياً للطاغية، ففُرض على أجدادي أن يخبّئوا رموزهم الدينية بحجة أنّ الانتماء للطائفة يضعف الشعور القومي. كذلك فعلت بقيّة الطوائف، ومثلهم الأقليّات القوميّة، التي مُنعت من التعبير عن ذاتها وتعلّم لغتها، وحتى التحدّث بها في الفضاء العام. 

تناقلت الطائفة التي جئت منها بعض العادات والأفكار والعقائد من جيلٍ إلى جيل بسرّيةٍ تامة. مصدر هذه السرّية قلقٌ وجوديٌّ قديمٌ جداً، ومثل كلّ الأقليّات أو الجماعات البشريّة التي تُحرم من أن تعبّر عن نفسها بحريّة، فإنها تصبح مع مرور الوقت أكثر انغلاقاً وخوفاً من «الآخر»، تقاوم الانصهار وخسارة الهوية وضياع المعتقدات التي تميّزها. أهم معتقدٍ لدى طائفة الموحّدين الدروز هو «التقمّص»، فهم يؤمنون أن الروح لا تفنى، بل تخرج عند الموت من الجسد، الذي يطلقون عليه وصف «قميص»، لتدخل في جسدٍ أو قميصٍ جديد. هذه الروح قد تنقل معها بعضاً من ذاكرة الجسد الذي تركته، خاصةً الأحداث التي لا يمكن أن تُنسى، ثم تبقى تنتقل من جسدٍ إلى آخر حتى نهاية الزمان، حاملةً معها ذاكرةً شقيّةً غالباً، لتحرم الجسد الجديد من الراحة والعيش بهناء. ورغم أنهم طائفةٌ مسلمة، إلا أنهم لم يُحرِّموا النبيذ، فكَرَم الكُروم لا يُردّ وفق ما يبرر شاربوه، ومن غير الممكن أن يوضع ضمن قائمة «الحرام» الطويلة؛ التي كانت تتغيّر قليلاً أو كثيراً مع مرور الوقت لتتناسب مع العصر. ومثل كلّ الجماعات البشرية، غالباً تُستثنى النساء من أيّ تغيّراتٍ على قائمة المحرّمات. هناك في الشرق وعلى حدود الصحراء، أنجبتني امرأةٌ درزيّةٌ كانت تهوى سرد الحكايات، رغم أنها لم تحظَ يوماً بصفحةٍ لتكتب.  

صورة 3: الخوف

أسمع صوت بيني غورينغ وهي تُدرِج قائمة مخاوفها في قصيدتها I Fear (أخاف)، فتحرّضني أن أكتب بدوري قائمةً بمخاوفي: 

أخشى جسدي

أخشى الآخر 

أخشانا 

وأخاف من خوفي أن يُشمّ 

أخاف الحرب

أخاف السجن 

أخاف الحرية

في الصورة الضائعة، أختي وأنا نجلس على الحافة البيتونية لسطح دارنا هارباتٍ من ازدحام الأولاد والأقرباء والضيوف في بيتنا الصغير والفقير هناك، حيث لم نحظَ يوماً بغرفةٍ خاصّةٍ بنا، فكان سطح البيت مكاننا الوحيد الذي يمكننا الحديث براحةٍ فيه. هو بلا جدران «بآذان»، ولا «سقف» فيه للكلام، هناك فقط السماء والريح وبرد الشتاء القارس وشمس الصيف الحارقة. 

التُقطت لنا الصورة في بدايات الخريف، كنت قد وصلت للتوّ قادمةً من العاصمة دمشق. كنت أدرس في جامعة دمشق، وكانت أختي تنتظرني بشوقٍ كلّ نهاية أسبوع لأحكي لها عن العالم هناك، عن التنوّع وعن الأحلام الكبيرة والرفاق. نجلس قريبتين من بعضنا مثل توأمٍ سيامي. في الصورة يبدو جسدانا جسداً واحداً برأسين، نغوص في فيلت (معطف) عسكري خاكي لنتدفّأ. كان هذا الفيلت موضةً دارجةً في منتصف الثمانينات. لا أعرف من أين قَدِمت هذه الموضة، ربّما من الغرب الذي كنّا نسمّيه حينها «رأسمالياً»، فنحن كنّا قد تعرّفنا على الفكر الشيوعي وسُحرنا بفكرة ثورة البروليتاريا التي ستحرّر شعوب الأرض وتعطي الحقوق للعمال وتقسّم الثروة بين الناس بالعدل. ولكي نحقّق حلمنا بتغيير العالم كان علينا أن نقرأ كتباً ممنوعةً نتداولها بالسرّ فيما بيننا؛ كتباً عن الاشتراكية والثورة الأمميّة المستمرة، وعن أبطالٍ حلموا مثلنا بتغيير العالم؛ مثل روبن هود والقرامطة وغيفارا. هناك على سطح دارنا كنّا -أختي وأنا- نسرق بعض الوقت بعيداً عن رقابة أمي. أحكي لها عن «الآخر»، أناولها منشوراً أو كتاباً، وأحكي لها عن العالم الكبير المختلف في دمشق العاصمة، والتي لم تكن زارتها من قبل رغم أنها تبعد عن بلدتنا سبعين كيلو متراً فقط. معطفي العسكريّ ذاك لم يكن أنيقاً ولا حتى دافئاً، كان رمزاً للانتماء للحالمين نرتديه لنميّز بعضنا. كان شيفرةً سريّةً تحدّد انتماءنا السياسي والطبقي وتصميمنا على تغيير العالم. والحال أنه لم يمض وقتٌ طويلٌ حتى غصّت السجون والمعتقلات بالحالمين والدونكيشوتيين السوريين، وكنتُ واحدةً منهم. 

الصورة إذاً التُقطت قبل اعتقالي بأيام، وربما كانت آخر جلسةٍ سريّةٍ لنا نحن الاثنتان على حافة السطح البيتونية المطلّة على شجرة التفاح التي دفنتُ تحتها كلّ أوراقي وكتبي بالإضافة لمناشير سريّة تدعو لإسقاط الطاغية قبل أن أختفي في قبوٍ تحت أبنية دمشق، حيث أمضيت أربع سنوات ولم أحظَ بزيارةٍ من عائلتي إلا بعد عامٍ كامل. في تلك الزيارة كانت أختي ترتدي معطفاً أسود من الجوخ، وكان شعرها الأسود ينسدل على كتفيها. أحضرت لي قلم حمرةٍ ومرآة، وطلبت مني أن أهتم بنفسي وبأنوثتي، ثم همست لي بأن الكوابيس تطاردها وبأنها لم تتوقف طوال العام الفائت عن لوم نفسها لأنها لم تُجبرني على ارتداء قميصٍ داخلي تحت قميصي عندما جاؤوا لاعتقالي. همست في أذني: هل فعلوا لك شيئاً؟ قلت: لا. 

يوم اعتقلوني، وقبل أن أدخل غرفة التحقيق مثل أيّ معتقل أو معتقلة رأي، كنت جسداً بالنسبة لهم؛ يداي المكبلتان وعيناي المعصوبتان لم تسمحا لي بالدفاع عن نفسي أو رؤية وجوههم وهم يتمازحون وينقلون أيديهم على القميص ثم ينزلونه ليتلمّسوا صدري. كوابيس أختي كانت كوابيسي الواقعية. 

ما لم تلتقطه الصورة هو خوفنا. كنّا نخاف من أن تظهر أسرارُنا للعلن: كتبٌ عن العدالة وعن الثورة القادمة، كتب نوال السعداوي التي عرّفتنا بأجسادنا وفضحت مجتمعاتنا، كتبٌ عن رغباتنا التي خنقتها «منظومة التأديب» ودفنتها تحت قائمة متراكمة وثقيلة من المحرّمات، كتبٌ تطال السلطة السياسيّة، كتبٌ تطال الدين، كتبٌ تطال كلّ مصادر القهر المجتمعيّ. في الصورة أنا وأختي ننظر إلى عدسة الكاميرا التي باغتتنا، ونبتسم ابتسامةً خبيثةً وحزينةً في الوقت ذاته. شابّتان في مجتمعٍ مغلقٍ ظنّتا أن بالإمكان إسقاط «المنظومة» والنظام معاً. 

في الصورة تظهر خلفنا تلةٌ على شكل مخروط، يبدو لونها مختلفاً في الصورة عن الحقيقة، فكاميرات التصوير حينها لم تكن دقيقةً مثل حالها اليوم، وبطبيعة الحال كانت الكاميرا التي لدينا من النوع الرخيص الذي يُظهر الأحمر برتقالياً والأخضر عفنياً والأزرق رمادياً. أم إن السماء يومها كانت حقاً رمادية؟ ما عدت أذكر. 

التلّة المخروطية خلفنا في الصورة هي لبركانٍ خامدٍ منذ آلاف السنين، في وسطه حُفر طريقٌ على شكل زكزاك لتسهيل صعود زوّار المقام الديني على رأس التلة. في الصورة يبدو الزكزاك أسود مثل جرحٍ صدئ على صدر التلة. في الأعلى عند رأس المخروط سترون مربّعاً صغيراً على رأسه قبّةٌ مثل قبعة جنديٍّ تجمّد على الجبهة وهو يراقب الأعداء في كلّ الاتجاهات. المربع الصغير هو بناءٌ من طابقٍ واحدٍ بداخله قبرٌ رمزيٌّ لشيخ اسمه «شيحان». روت لنا أمي أنه كان رجلاً محترماً بين الناس لعلمه وإيمانه، وأنه كان يدعو الناس للتعبّد والتخلي عن متاع الدنيا وعن الأنانية والتملك والتوقّف عن ظلم المستضعفين. لولا أنّه رجل دين لكنت حسبته رفيقاً شيوعياً! 

عندما يئس شيحان من إقامة العدل على الأرض، صعد التلّة ليكون قريباً من الله، كما تروي أمي، ثم بقي هناك متفرّغاً للتأمّل والتعبّد حتى اختفى. لايزال الناس يصعدون إلى أعلى التلة لزيارة قبر الرجل الصالح والإيفاء بنذورهم له، وغالباً يصعدون حفاة، والعجائز منهم محمولين على ظهور أولادهم، يطوفون حوله ويقبّلون القبر الرمزي ويتلون الأدعية ويبثّونه أمنياتهم الجديدة، فقد قيل إنّه يشفي المريض ويزوّج المحبين ويريح المتعبين ويجد المظلوم إلى جانبه المواساة والدعم. العدالة في شرقنا كانت ومازالت غائبةً عن الأرض، هي موجودةٌ فقط في السماء لدى الله أو وكلائه. هذا ما يجعل الناس يصبرون، فحقّهم سيعود لهم في الآخرة. هو أمرٌ جيدٌ بالنسبة  للسلطات الدنيوية التي ستمضي عقوداً عديدةً بعد لحظة التقاط الصورة مرتاحةً من المطالبة بتحقيق العدل سوى من بعض المشاغبين أمثالنا، لكنّ السوريين والسوريات بمختلف منابتهم سوف يكتشفون أنهم لم يُحرموا فقط من العدالة، بل من الحرية وأبسط شروط الحياة الإنسانية الكريمة، لذلك سيخرجون غاضبين للشوارع في عام 2011، ليستعيدوا كراماتهم التي أُهدرت على مدى أكثر من أربعة عقود. 

الصورة 4: قرطان أحمران

في قريتنا الصغيرة لم يكن ثقب الآذان للطفلات أمراً مسموحاً، فجدّي الشيخ كان يقول: «إنّ الله يعلّق الفتيات من آذانهن في الآخرة عقاباً لهن على وضع الأقراط»، والنساء من جيل أمي ومن سبقها من أجيال لم يتجرّأن ولا حتى على تخيّل أقراط في آذانهن. لم أفهم حتى اليوم من أين جاء أجدادي الأقدمون بهذا التحريم، فوفق معرفتي هو غير مكتوبٍ في أيّ نصٍّ ديني. التفسير الوحيد لديّ كان بأن القيادات الدينيّة لطائفتنا المغلقة والخائفة من «الآخر» أرادت تمييزنا عن مواطناتنا المسيحيّات، اللواتي كنّ يدخلن الكنائس بكامل زينتهن، حيث يمكن رؤية  أقراط ذهبية لامعة تتدلى من شحمات آذانهن. هذا فقط ما كان يميّزهن عن النساء الدرزيّات كالمرأة  التي حملت بي.

عندما غادرنا القرية وسكنّا في المدينة القريبة، حيث كان أبي يدير مدرسةً ابتدائيةً، كان عمري ستّ سنوات، وكنت محظوظةً نسبةً لقريباتي، فمع ابتعادنا عن العائلة الكبيرة تخفّفنا قليلاً من ثقل الأعراف وقوانين جدي الصارمة. معظم البنات في صفّي كنّ يضعن أقراطاً في آذانهن، ومن الصعب أن تميّز المسيحيّة عن الدرزيّة إلا في درس الديانة، وكوني البنت الكبرى في عائلتي، فقد سمحت أمي أن أثقب أذنيّ أسوة بقريناتي. وحيث إنه لم يكن هناك حينها محلات خاصة لثقب الأذن، ولا آلة سريعة كالتي اخترعوها فيما بعد، فقد استخدمت قريبتنا إبرة خياطةٍ للثَقب، وضعتها على النار لتطهيرها بدايةً، بعد أن وضعت إشارةً على شحمتي أذنيّ، وضغطت بالإبرة مكان الثقب. لا أستطيع تذكّر الألم الآن، فقد كان ألماً يمكن نسيانه، لكن ما لا يمكنني نسيانه -لأنه ترك أثراً- هو ثقبها للأذن الثانية، حيث انزاحت الإبرة في يدها لسببٍ ما بضعة مليمترات عن النقطة التي وضعتها بالقلم، ونتج عن ذلك ثقبان غير متناسقين سأضع فيهما لوقتٍ طويلٍ قرطين ذهبيين سيتدليان على جانبي وجهي دون تناسق، فأحدهما سيبدو أطول من الآخر، ليخلّدا تلك اللحظة التي ثقبنا بها ثقباً صغيراً في جدار تعاليم جدّي الصارمة. 

طوال المرحلة الثانوية كان الزّي العسكريّ مفروضاً علينا جميعناً، إناثاً وذكوراً، فقد فُرض علينا ارتداء زيٍّ عسكريٍّ موحّدٍ وقبّعةٍ عسكريّةٍ وانتعال أحذيةٍ عسكريّةٍ سوداء كالجنود. فالنظام الشموليّ الذي حكمنا لعقود، وما زال، كان معجباً بالنظم الاشتراكية والنظام المتناسق والمتسق في الصين وكوريا الشمالية. كان يصنعنا لنكون كائناتٍ متناسقةً منسجمةً تشبه بعضها؛ جنوداً على رقعة شطرنجٍ ليس لنا قرارٌ أو خيار، يحرّكنا متى يشاء في حربه فنصبح جمهوراً بلا ذات ولا فردانيّة ولا ميزات شخصيّة تميّز أحدنا عن الآخر. كان من الصعب مع هذا الزّي الذكوريّ البشع أن نظهر بعض أنوثتنا كمراهقات إلا من خلال وضع الأقراط، فلم تكن هذه مكتوبةً بوضوحٍ في قائمة الممنوعات الصارمة. لذلك كنت أضع قرطين صغيرين جداً في أذني بالكاد يمكن رؤيتهما. وحيث أن أبي كان معلّماً فقيراً ولديه ستة أولاد في المدرسة، فقد كان شراء أحذية عسكريّة لنا جميعاً، بداية كلّ عام دراسيّ، أمراً صعباً. فكانت أمي، مثل بقية النساء، تستخدم حيلها، فقد قامت بتلوين بوطي الرياضيّ ببويا سوداء ريثما يتوفّر المال لتشتري لي حذاءً عسكريّاً جديداً. وما أن وصلتُ المدرسة حتى كشف المطر والوحل لون حذائي الأبيض فأوقفني المراقب على باب الثانوية مع العديد من زملائي لننال عقوبتنا العسكريّة. هذا الرجل كان في السابق جندياًّ في الجيش، وكان يروي لنا في حصة التربية العسكريّة عن بطولاته على الجبهات. لكنّ الحاجة لمدرسين محترفين للمادة الجديدة جعلتهم يستقدمون جنوداً ويحولونهم إلى معلمين، وهؤلاء بدورهم كان مطلوباً منهم أن يحولونا إلى عبيد. ما أن جاء دوري للعقوبة حتى أمسك المراقب أذنيّ عند القرطين تماماً بأصابعه، وفركهما بشدة فوق القرط الصغير فشقّ شحمة أذني. هذا كان ألماً لا يمكن نسيانه، خاصةً أن أحد زملائي الذكور، والذي كان بيني وبينه إعجابٌ طفوليٌّ متبادل، كان شاهداً على إهانتي، مثلما كنت شاهدة على إهانته. أحدنا لم ينظر في عين الآخر بعد هذه الحادثة. قال لي مدرّب الفتوة، بعد أن مسح عن أصبعيه الدماء التي خرجت من الجرح ببنطاله العسكري: «هذا لكي تتذكّري أن تتركي أقراط الجواري في البيت قبل المجيء للمدرسة». ثم التفت إلى زميلي ورفعه للأعلى من شحمتي أذنيه،  ثم تركه يسقط على الأرض، وصرخ به على مسامعي: «ها أنت ذا أصبحت امرأةً بقرطين أحمرين».

الصورة 5:  جسد مثقوب

حين أنظر إلى لوحة بيني غورينغ التي بعنوان «مدمِّرة» (Destroyer)، أرى امرأةً مثقوبة الصدر، ومن الثقب تخرج وردتان على شكل قبضتي يدي ملاكم، أو ربما مدفَعين. كان يمكن لهذا الجسد أن يكون مدمّراً لولا أن تفاصيل اللوحة الأخرى تظهره بائساً ومغلوباً على أمره: جسد امرأةٍ معلّقةٍ من كفيها على حبلٍ رخو، يتقوّس ظهرها لتتعلّق الأقدام بالحبل. امرأة عارية إلا من جوارب تغطي ساقيها. الجوارب هي لمهرجٍ في سيرك، والحبل الرفيع غير المشدود يوحي أنها ستسقط قريباً في فراغٍ لا قرار له.  

Destroyer, Penny Goring

تذكّرني بيني غورينغ بالأجساد المثقوبة للمتظاهرين والمتظاهرات في بلادي برصاصات أجهزة القمع. تخطر لي فاتن، صديقتي الشابة التي كانت قائدةً ملهمةً للنساء في غوطة دمشق عندما بدأت الثورة في آذار (مارس) 2011. في كلّ مرة كنت ألتقيها كنت أراها تركض وتقفز وتطير. لم تتسع الأرض هناك لأقدام فاتن وأحلامها، فأُصيبت برصاصةٍ في خاصرتها أثناء التظاهر، وانتُزعت الرصاصة دون  دخول المستشفى، فالمشافي حينها كانت مراكزُ اعتقالٍ يجري فيها تعذيب المعتقلات والمعتقلين من خلال العبث بجراحهن-م. نجت فاتن من الرصاصة دون أن تعرف عائلتها ما أصابها. كانت امرأةً مطلّقة ولا يحقّ لها الخروج من البيت كما تشاء، ولذلك فقد منعها أهلها من الخروج والمشاركة في التظاهرات، وأقفل عليها أخوها الباب لتهرب من النافذة كلّ مرةٍ من أجل التظاهر. اعتُقلت فاتن في نهاية 2011، ثم اختفت. لا خبر عن فاتن منذ ذلك التاريخ، مثلها مثل عشرات آلاف السوريات والسوريين الذين اختفوا قسريّاً خلال العشر سنوات الماضية. 

حوكمت وثُقبت وطُبّق القصاص على أجساد نساءٍ كثيراتٍ قبل جسد فاتن، فالسلطة السياسية عندنا ليست وحدها من يعُدّ أجساد النساء وأصواتهنّ آلاتٍ تدميريّة، فضلاً عن كونها تعدّ كلّ من يقاومها ويقاوم إغلاق الأبواب ويفتح نوافذ للخروج عن سيطرتها عدواً يستحق جسده التعليق والثقب. 

منذ زمن طويل تُثقب أجساد النساء عند ارتكاب أيّ خطأ في قائمة «المحرمات» الطويلة. قائمة العيب تختلف وفق الجهة المنفّذة للحكم. السلطة السياسيّة، مثلاً، تجرّم كلّ من يطال هيبتها نساءً ورجالاً. أمّا المجتمع فقائمته غالباً تخصّ النساء؛ قائمة تبدأ من جريمة الخروج من البيت بلا إذن «سيد البيت»، وحتى اختيار الزوج أو الحبيب. الحبّ مفردةٌ في غاية التعقيد في المجتمعات الذكوريّة، يغنون للحبّ ويروون قصصاً عنه، ويتباهى الذكور بقصص عشقهم ومغامراتهم العاطفية والجنسيّة، بينما يُعدّ حبّ المرأة عيباً وحراماً، خاصةً إن أحبّت رجلاً من الجماعة «الأخرى» أو استسلمت لرغبات الجسد كما فعلت حواء. 

فاتن لم تخرج كثيراً عن قائمة التحريمات المجتمعية، إلا كونها مطلّقة تهرب للفضاء العام من النافذة بعد أن أُقفلت عليها الأبواب. ذنب فاتن أنها عشقت الثورة، أحبت صوتها وهي تهتف «الشعب يريد إسقاط النظام». هل كانت معنيّةً فقط بالنظام السياسيّ الحاكم، أم أنها كانت معنيّة أيضاً بإسقاط منظومة التأديب والتحريم وقفل الأبواب على النساء؟ لم يسمح عمر فاتن القصير خارج الأبواب وأقبية السجون أن تجيب عن هذا السؤال. 

كانت فاتن تلبس دائماً حذاءً رياضياً وترتدي معطفاً طويلاً وتغطي شعرها بحجابٍ أبيض. كنت أراها غير قادرةٍ على الوقوف في بدايات الثورة. كلّنا كنّا نطير حينها، نتعلق بأحلامنا مثل حبل نجاةٍ إن أفلتناه سنقع في فراغٍ لا قرار له. فاتن سقطت وغابت في قبوٍ ما من الأقبية المظلمة الكثيرة في بلادي، وأنا مازلت معلّقةً بحبلٍ رفيعٍ من الأمل. 

ملاحظة: عليّ أن أعترف أنه عندما وضعت عنواناً للصورة «جسد مثقوب» خطرت لي فكرة ثقب غشاء البكارة، وفكّرت أن أحكي لكم عن خوف النساء في مجتمعاتنا من حدوثه، لدرجة أن نحرم من ركوب الدراجة مثلاً، أن أحكي عن وصمة العار التي تلاحق النساء اللواتي لا يستطعن تقديمه لإثبات طهارتهن لأسباب مختلفة ليلة الزفاف، عن النساء اللواتي يُنبذن مجتمعيّاً ويقتلن لأنّ المجتمع قلّص شرف المرأة ووضعه في غشاءٍ صغير. لا أعرف الحكمة من وجوده لدى المرأة دوناً عن باقي الكائنات.. ذاكرتي مليئة بالنساء المرعوبات من أجسادهن، من العرائس المرتجفات خوفاً من اللحظة الحاسمة التي ستُمتحن فيها طهارتهنّ من خلال بكاراتهن. 

سوف تقدّرون أن الدخول في الموضوع يحتاج لمنحي صفحةً جديدة لا أملكها، ويحتاج قبل ذلك أن أحفر بأصابعي لأزيل الطبقات المتراكمة على جسدي وروحي من التابوهات والمحرمات التي نشأت عليها، وهو أمرٌ يحتاج بعض الوقت والكثير من الحريّة. 

صورة 6: قد تكون ميتة

في الصورة التي لم تُلتقط في بلدتي الصغيرة على حدود الصحراء السوريّة، في نهاية القرن التاسع عشر -لأنه لم يكن هناك كاميرات تصوير- يظهر جدّي الأكبر واقفاً، يستعرض قوّته العضليّة أمام رجال ونساء يحنون رؤوسهم، يبدو فمه مفتوحاً وهو يتلفّظ بكلمة «عار»، فيمدّ الألف كسيفٍ مسلّطٍ على الرقاب. سترون أسفل صورته جسداً ممدّداً لامرأة، شعرها الطويل يغطي أرضية الصورة كشلال ماء. هي تشبه المرأة التي رسمتها بيني غورينغ في لوحتها المعنونة «قد تكون ميتة» (Might be Dead). في خلفية الصورة ستسمعون صوت أمي وهي تروي الحكاية: 

«كان جدّي الأكبر إقطاعياً وطاغية، فقد وصل إلى قريتنا قبل الآخرين..». يمكنكم أن تتذكّروا كيف استولى الذين وصلوا القارة الأمريكية بعد اكتشافها على الأراضي. مثلهم سبق جدّي الجميع فأصبحت أراضٍ شاسعةً ملكه، ثم كلّ من سيصل فيما بعد سيكون عاملاً لديه أو «مرابع»، فهو كان الحاكم والقاضي والمفتي للقرية، وسيصبح فيما بعد الوصي على شرف كلّ نساء القرية، بمن فيهن زوجات العمال وبناتهم. يحقّ له تطبيق القصاص بهنّ دون أن يسائله أحد، فالعثمانيون حينها تركوا للقادة المحليين أن يضعوا قوانينهم التي يرونها مناسبة. 

Might be Dead, Penny Goring

يمكنكم تخيّل جدّي الأكبر رجلاً ضخماً بشاربين معقوفين للأعلى يشبهان أحذية النساء في اللوحات التي ترسمها بيني غورينغ. هل تذكرون لوحات الكهوف؟ في إحداها يظهر رجل الكهف وهو يشدّ امرأةً من شعرها بيد، ويحمل هراوةً لتأديبها في اليد الأخرى. لا أحد يعرف بالضبط متى تعرّف رجل الكهف هذا على قوته العضلية التي تميّزه عن امرأته، وتعرّف بالتالي على حقيقة أن بإمكانه باستخدام قوته تلك لإخضاعها، وليسجّل فيما بعد تاريخاً طويلاً من اضطهاد النساء وإخضاعهن. 

جدّي لم يعرف القراءة والكتابة ليكتب قائمةً بالمحرمات أو بالعقوبات، لذلك كان من المهم أن يتمّ تناقل تلك القائمة شفاهةً عبر الحكايات من جيلٍ لجيل. كان يُضاف على الحكايات الشفويّة المتناقلة جزءٌ من إرادة الراوي، إذ يمكن أن يهمل جزءاً من الحكاية ليرغم المستمع على التركيز على جزءٍ آخر يخدم عقليّته، تماماً كما نفعل بالصورة، كلٌّ يراها من زاويته وينقلها أحياناً مُغفلاً عن قصدٍ أو دون قصد أجزاء أخرى مهمة. الراوي الماهر ينقل كلّ أجزاء الحكاية، حتى تلك الغائبة. اليوم، ومن زاوية مطبخي في ميتز، أحاول جهدي أن أنقل الحكاية الشفاهية تلك لتطبعها مخيلاتكم بنزاهةٍ قدر الإمكان، مضيفةً بعض العناصر التي لم تذكرها أمي، والتي يمكنني تخمينها من خلال التجارب التي عشتها، وهذه ليست بالمهمة الصعبة، فأنا عشت الكثير من التجارب خلال أربعة عقود ونصف عشتها هناك. 

مُنح هذا الطاغية سلطةً لإخضاع من حوله بسبب أملاكه وقوته العضليّة، وصوته الجهوري، فاستعبد الجميع وأخضعهم، خاصةً النساء. تقول أمي: «إنّ الله عاقبه بأن وهبه ثلاث بناتٍ لم يفرح لولادتهن، وحرمه من أن ينجب صبياً». وبما أن البنات لا يرثن في مجتمعاتنا، فقد تقاسم أولاد إخوته من الذكور كل أملاكه وزوّجوا بناته وفق مشيئتهم، وكأن بناته كنّ جزءاً من الإرث الذي بقي منه. 

أهم جزء في الصورة التي أحدثكم عنها هو الجسد المرتمي تحت أقدام الرجل ذي الشاربين المعقوفين للأعلى كجناحي نسر. إنه جسد بهية. تشبه المرأة في لوحة بيني غورينغ «قد تكون ميتة». يمكنكم رؤية شعرها الطويل مثل شلال ماءٍ صافٍ، تخرج روحها من رحمها مثل زهرة. بهية لم تكن واحدةً من بنات الرجل، فجدّاتي كنّ طفلاتٍ عندما وقعت الحادثة. إحداهن روت الحادثة التي روتها لنا أمي بدورها. الحكايات كانت تنتقل من جيلٍ إلى جيل لتثبّت وتؤسس لقائمة التحريمات وتروّج لقائمة القصاص، أما أرواح من تهمّشهن الحكايات فقد كانت تهيم في الفراغ طويلاً حتى تدخل أجساداً جديدة، محملةً بذاكرةٍ مقاومة ورافضة للظلم. 

في الصورة، يبدو الرجل فاتحاً فمه، ينظر إلى الناس حوله ليعلّمهم الدرس، فيما قدمه اليمنى تضغط على عنق بهية التي تفتح عيناها الخضراوان على وسعهما، وتحتهما يظهر فمها مفتوحاً وهي تختنق بجملتها التي لم يتمكّن رواة الحكاية عبر الأجيال من تجاهلها أو حذفها: «الله يلعنك». إذ سوف ينهون الحكاية بالحديث عن نهاية الرجل المأساوية، حيث لاحقته لعنتها حتى مماته مريضاً فقيراً وبلا أبناء ذكور يخلّدون اسمه. 

في الحكاية التي سمعتها لا يُذكر الفعل الذي قامت به بهية لتُعاقب بالموت خنقاً بحذاء جدّي الأكبر، فقد أُريد من الحكاية أن تثبت فعل القصاص فقط، وتترك لمخيلة المستمعين أن تفهم ما قامت به لتستحق هذا العقاب. ربما أُريد لنا، نحن أجيال النساء اللواتي ولدن بعد هذه الحادثة أن نخاف، أن نخاف من أجسادنا ومن ثَقب غشاء البكارة خارج منظومة الزواج، أن نخاف من أرحامنا ومن أرواحنا أن تصاب بعدوى مقاومة بهية وخروجها عن السرب. لكنّ روح بهية كانت تنتقل من جيلٍ إلى جيل رغماً عن الرواة، تقاوم تهميشها في الحكاية، تقاوم صورة البطل «الرجل المعقوف الشاربين» في الحكاية المتناقلة. رأيت روحها في فاتن وأنا أكشف عن الجرح في خاصرتها، رأيتها في العديد من النساء، تقمّصتها عندما كان الضابط يضغط على عنقي في التحقيق وأطلقت من فمي لعنتها، تقمصَتها مئات النساء اللواتي قُتلن تحت مسمى «جريمة الشرف»، والنساء اللواتي مازلن تقاومن. 

صورة أخيرة 

قبل أن أغادر الحدود السوريّة إلى لبنان ومنها إلى فرنسا، اتصلت برجلٍ أحببته في زمن غابر. سألته دون مقدمات: هل أحببتني حقاً؟ قال نعم.. أحببتك كثيراً! أقفلت الخط ونزعتُ الشريحة من الموبايل ورميتها. كان يكذب، فلا هو ولا تلك البلاد كانوا قادرين على الحب.

Le Temple Neuf, Metz-Wikimedia

من غرفة مطبخي في ميتز حيث لديّ سقف وماء ونبيذ وحزن، أنهي صفحاتي هذه. الآن سوف أخرج للشارع، سوف أمشي على ضفة نهر الموزيل، سألتقط سيلفي لي وخلفي Le Temple Neuf، سيبدو في الصورة مثل مقدمةٍ لسفينةٍ تقف في منتصف النهر. كثيرون يقفون معي عند المساء ليراقبوا المنظر الخلاب عندما تغيب الشمس قبالة مقدمة السفينة-المعبد التي تقسِم النهر إلى نهرين، نراقب بصمتٍ انعكاس ألوان الغروب على زجاج نوافذ المعبد، ثم تبدأ الأضواء متعدّدة الألوان بتزيين حجارته السوداء كمثالٍ على تعاون الطبيعة والإنسان لخلق الجمال وتكريمه. أتصل بأختي هناك عبر الواتساب، أفتح الفيديو وأتحدث معها، وأريها في الصورة خلفي مقدّمةَ السفينة-المعبد، وتريني بدورها شيحان خلفها. مازال صامداً رغم الحرب، ورغم من الجرافات التي قضمت جزءاً كبيراً من ترابه لرصف الشوارع. تتشوّش رؤيتنا لبعضنا، وتختفي أصواتنا رويداً رويداً. أنده لها كما في كوابيسي: هل تسمعينني.. ألووو…ألووو؟

*

نُشر هذا النص بترجمته الفرنسية في إطار مشروع Expos en Boite (معرض في صندوق)، الذي نظّمه مركز Frac Lorraine في مدينة ميتز الفرنسية في آذار 2022. شاركت في المعرض ثلاث كاتبات، بينهن وجدان ناصيف، كاتبة هذا النص.

يشير النص إلى لوحات ومعارض أقيمت في صالات مركز Frac Lorraine، لفنانات من جنسيات مختلفة هن: روزا آيلوا (Rosa Aiello)، مورغان بيتشر (Morgane Britscher)، بيني غورينغ (Penny Goring)، ولوزي ماير (Luzie Mayer).

يحاكي النص معارض الفنانات ويقاربها من خلال توثيق تجربة شخصية تتقاطع مع التجارب التي وثقتها الفنانات في لوحاتهن أو قصائدهن أو معارضهن التركيبية.

ترجمت سعاد لعبيز الأصل العربي إلى اللغة الفرنسية.

*موقع الجمهورية نت