عندما نقرأ حوارات الكتاب العرب من جيل ما بعد محفوظ: بمن تأثرتم؟ كثيراً ما تأتي الإجابات سريعة، ويغيب فيها المؤثر العربي، أو يكاد: ماركيز، موراكامي، فارغاس يوسا، وغيرهم. لم يغلق الجيل الجديد على نفسه بأسئلة الأجيال السابقة المرهقة التي لا تملك أجوبة مقنعة. منذ البداية، اختار الشباب آباء أجانب بعد قتل الأب العربي، لأنه أصلاً مقتول، ولأن جهده ظل تحت مظلة كولونيالية تتجاوز إرادته. جيل شديد الحساسية لكل ما يحيط بعصره، رهانه أن يكتب رواية تندرج داخل النسق الأدبي الإنساني وليس العربي فقط، تقطع مع العلاقة المرضية بالأيديولوجية.
يمكن تسجيل العديد من الأسماء التي أصبحت اليوم كبيرة بغنى تجربتها: أمير تاج السر، إلياس خوري، رجاء عالم، علاء مشذوب، عبده خال، علاء الأسواني، إبراهيم نصر الله، إبراهيم عبد المجيد، سميحة خريس، ليلى الأطرش، بنسالم حميش، شكري المبخوت، وغيرهم. تخلى هذا الجيل نهائياً عن يقينيات الأجيال المتعاقبة في ظل حياة عربية لم تعد تضمن فسحات كبيرة ومقروئية شروطها تكثر وحاجاتها الجديدة تترسخ. صاحبَ هذا الجيل الكثير من الخيبات الكبرى، فسجلها بحثاً عن مجتمع آخر أكثر إنسانية وديمقراطية وجمالاً. تجاوز الديكتاتوريات التي خاضت ضدها الأجيال السابقة حرباً ضروساً دون التمكن من إسقاطها. واعتمد هذا الجيل من الروائيين الجدد على المشكلات الكبرى التي تخترق المجتمعات العربية بقوة، مثل مشكلات الهويات، الحروب، الحب، الأحقاد، الخير والشر، المسخ الإرهابي، الهويات المتقاتلة، الثنائيات التي تصنع الذاكرة الإنسانية أمام تاريخها العميق. جيل كتابي وليس عمري، وجد نفسه في خضم المعضلات الإنسانية الكبيرة. الأمر الذي أعطى خصوصية عالية لنصوصه، قبل أن يلتحق به جيل الحاضر الصعب: خالد خليفة، سينان أنطون، أحمد سعداوي، عمارة لخوص، سعود السنعوسي، بثينة العيسى، محمد علواني، حجي جابر، لينا هويان الحسن، حمور زيادة، وغيرهم كثيرون.
هم لم يعيدوا الواقعية إلى الواجهة لكنهم استعانوا بواقعية جديدة جعلت قضاياهم المعالجة ترتسم في أفق إنساني واسع، بما في ذلك تناول القضية الفلسطينية التي انتفت فيها الخطابات الوثوقية. وربما اتسم عصرها بالتعقد كالهويات، والحرب، والحب، والإنسان في مواجهة مستحيلات العصر الوجودية مثل التاريخ: من نحن وإلى أين نتجه في عالم لم يعد رحيماً كما كان.. عالم عربي أسس في مجمله على تاريخ كاذب. وكان على رواية هذا الجيل والذي سبقه أيضاً أن تعيد تناول المسألة التاريخية لا بوصفها تاريخاً جديداً يقع خارج التجاذبات السياسية والأيديولوجية، ولكن لتشييد عالم آخر خارج اليقين التاريخي الواهم وداخل عالم التخييل. لكن هذا الجهد اصطدم من جهته بتاريخ مقولب ممنوع على الرواية الخوض فيه بحرية، وكأن أي لمس للتاريخ هو مس بقداسة الأشياء، مع أنه لا قداسة فيما ينجزه البشر من أفعال. هذا التصور أنجر عليه منع كثير من الروايات التي لامست التاريخ في أفق الأدب والرواية وليس الوفاء للتاريخ الذي يحتاج هو في أصله إلى مراجعة حقيقية. كل مجتمعاتنا العربية تنام في كذبة التاريخ الذي كتب في أفق أيديولوجي أو ديني، أي بالاستناد إلى اليقينيات، وننسى أن أي تاريخ كيفما كان، وحيثما كانت وجهته، هو تاريخ يكتبه المنتصر ولا أحد آخر غير المنتصر. ولنا أن نـتأمل الوضع العالمي في علاقته بالتاريخ كيف سيكون لو تغير المنتصر، والحلفاء، ستتغير رؤية التاريخ. وسيكتب المنتصر انتصاراته ويمعن في إذلال المهزوم. لهذا ستكون علاقة الروائي بالتاريخ مختلفة جذرياً، فهو في النهاية يبحث عن الحقيقة، حقيقته هو، التي يتأسس عليها منجزه الأدبي الروائي.
من هنا، فالحديث عن الرواية التاريخية، التاريخ بوصفه فعلاً يقع خارج الرواية، يقتضي الحديث حتماً عن هذه العلاقة التي تنقل الخارج نحو الداخل بعد أن تخضعها لعملية تحويل وفق مقتضيات النص الروائي الذي هو في نهاية المطاف حكاية تخييلية للإمتاع، اختارت التاريخ سنداً لموضوعها وكتابتها.
من هنا فسؤال التاريخ في الرواية، مهم، بل مركزي، يواجهنا كلما تعلق الأمر بالرواية التاريخية، أي بالمنجز الفني الذي ينشأ على مادة سابقة له، له الحرية/ ليست له حرية، التصرف فيها وفق مقتضيات البنية الروائية بكل مكوناتها. لا غرابة في أن الموضوع الأساسي للتاريخ هو الواقع المعيش بكل يومياته وحروبه ومنجزاته وطفراته التي تقفز بالأمم وتغيرها من مواقعها الأولى حتى جغرافياً، بينما أساس الرواية متخيلها الذي تنشئه ولا ينتمي إلا إليها. وتساؤل جيرار جنيت في هذا السياق يلتقي في نقطة التقاطع بين النوعين، إذ لا أحد منهما بإمكانه أن يتخلص من الآخر، فلكل منهما علاقة حميمة وجوهرية بالتعبير، الحدث، والإنسان: «هل وجد يوماً ما متخيل محض؟ ولا- متخيل، محض؟» وهو ما يؤكده الروائي طارق علي الذي اختص في الرواية التاريخية، بقوة تنتصر للتخييل في النهاية بل تقدسه: «الخيال عند الروائي مقدس، والحقيقة مجال للانتهاك، ولا بد أن العكس صحيح عند المؤرخ»، إذ يحتمي التاريخ بما هو حقيقي بين قوسين، في حين تشكل مساحات التخييل المجال الحر والمفتوح للرواية. في النهاية، تلتقي الصرامة مع الحرية، في أرض ثالثة، لا هي أرض التاريخ، ولا هي أرض الرواية بوصفها تخييلاً عاماً.
هذا لا يمنع من أن تكون علاقة التاريخ بالرواية علاقة وطيدة حيث «تزامن صعود الرواية الأوروبية، في القرن التاسع عشر، مع صعود «علم التاريخ» فاتكأ طرفا المعادلة على مقولة الإنسان الباحث عن أصوله». العلاقة بين التاريخ والتخييل لا تترسخ إلا باستيعاب الرواية للتاريخ لا كمقدس، ولكن كمساحة عراكية لها كل الحق في أن تملي شروط الجنس والنوع، وحق القراءة التي ليس شرطاً أن تتلاءم مع منظور المؤسسة التاريخية المهيمنة برؤاها التي قد يعاد النظر فيها. ربط جورج لوكاتش Lukacs ظهور النوع بهزيمة نابليون وسقوط يقين الإمبراطورية التي أصبحت رماداً وانتهى صاحبها في المنافي، وتزامن ذلك مع ظهور رواية ويفرلي، لولتر سكوت عام 1814، التي كتبت تاريخاً موازياً يقع في أرض مستقلة، تتقاطع فيها التفاصيل التاريخية بالتخييل الذي يحويها ويحضنها ويوجهها.
*المصدر: القدس العربي