أتوقف قليلاً عند فكرة ترجمة ما تُرجم سابقاً. هل هناك جدوى من وراء ذلك، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مضيعة لجهد كان يُفترض أن يُدخر لكتاب غير مترجم؟ مثلاً، لماذا ترجمة جديدة لنص ترجم عربياً العديد من المرات من كبار المترجمين، ومن غير الكبار، إذ هناك العديد من الترجمات المتسرعة، حتى إن بعضها ترجم عن غير اللغة الأصلية، أي الفرنسية؟ سؤال ردده على مسمعي العديد من الأصدقاء، وهو سؤال مشروع؛ لأن الترجمة ليست فعلاً آنياً ثانوياً، ولكنها حاجة ثقافية دائمة، بل واستراتيجية حضارية. لنبدأ من البداية، لماذا اخترت ترجمة رواية «الطاعون» لألبير كامو، ولم أختر غيرها في هذه الظرفية بالذات؟ هل لذلك علاقة بالتباسات الحاضر الذي نعيشه اليوم؟ لا نختار ترجمة النصوص اعتباطاً بالخصوص في عالمنا العربي، حيث إن الترجمة لم ترقَ إلى أن تكون حرفة معترفاً بها. لا يمكننا أن ننفصل عن شرطيتنا الحياتية في لحظة زمنية محددة. لنا في تجربة ترجمة دون كيخوتي لسيرفانتس إلى اللغة الفرنسية وحدها ما يجيب، ولو قليلاً، عن هذا السؤال. لقد ترجمت بالفرنسية وحدها عشرات المرات عبر أزمنة متعددة ومختلفة، وكان لكل زمن خياراته ليس فقط التاريخية واللغوية، ولكن أيضاً ردود فعله تجاه نص عرف كيف يخترق الأزمنة والقرون. الشيء نفسه يقال عن النصوص العالمية التي تركت أثراً جمالياً تاريخياً في الإنسانية. طبعاً، للتاريخ سلطانه، فقد محا الكثير من الترجمات واحتفظ ببعضها. نحن نعيش زمن الوباء جسداً وروحاً، أي أن الوباء ليس حالة لغوية كما تعودنا أن نقرأها عند الكتاب الذين عاشوها، لكنه حقيقة مادية مجسدة نعيشها يومياً بخوف غير مسبوق، لهذا سيكون إحساسنا مغايراً حتماً، لأننا جزء من العملية ومهددون في كل ثانية بالمحو بسبب الوباء. هذا الإحساس المرعب لا يمكن أن لا يكون حاضراً في الترجمة. ينتقل الخوف من الحالة الاجتماعية نحو الأصابع التي تكتب أو تترجم شيئاً يحكم لحظتنا. الوباء كلحظة وجودية مُعاشة حقيقة، يتحول فيها الأدب إلى لحظة إثبات جدارة الحياة التي تصبح مجرد احتمال في وضع شاق كهذا، أو استحقاقاً لم نتعود عليه. لهذا نقاوم الإفناء بالكتابة، كما قاومنا الأوبئة الاجتماعية، كالإرهاب واضطهاد الحريات، وأوجه الاختلاف، وغير ذلك. هذه الأحاسيس ليست ثانوية، ولكنها مهمة في الفعل الترجمي الذي أعتبره شراكة ثلاثية حقيقية بين الكاتب، والمترجم الذي يقوم بسحب النص من مساحة لغوية وثقافية مهما كان اتساعها، نحو مساحة أخرى جديرة بالقراءة. من هذا الإحساس الغريب، لا أبالغ إذا قلت إني أترجم حالياً هذه الرواية بإحساس الموت المسبق، وكأن ذلك آخر عمل ثقافي أقوم به قبل التسليم في حياة أصبحت في مهب الريح. ولا أعلم إذا ما كانت الظروف تسمح لي بإتمام المشروع، لكنني مصر عليه. هذا الإحساس المتضارب والقاسي لن يمر خارج الترجمة، بل هو في صلبها وكيانها وعمقها، يضعنا في علاقة متلاصقة مع وباء الطاعون الذي لا يختلف من حيث كونه وباء، عن وباء عصرنا، كورونا المستجد أو كوفيد 19. الخوف البشري نفسه، الضعف الإنساني نفسه، المشاهد الجنائزية اليومية نفسها. الملايين يقادون إلى الردم تحت التراب عميقاً تفادياً لتفشي الوباء. وجنازات باردة، على مدّ البصر، انتزعت منها أية إنسانية. هذه المصاحبة الإجبارية مع الموت تؤسس لعلاقة جديدة مع الترجمة أو لروحها، ترجمة الطاعون تحديداً، لتصبح علاقة شراكة بين نص مكتوب ونص مترجم، وقارئ ينتظر أحاسيس الخوف نفسها. الترجمة غير منفصلة عن هذا المناخ. ما يخفف عليّ مشقة الرغبة في الهرب من «الطاعون» هي الترجمة الموازية لـ «مراسلات كامو لماريا كازاريس» حبيبته، والتي دامت 12 سنة، بلا توقف. وكأن المراسلات تعيد للمترجم إنسانيته، وللغة صفاءها، لهذا كلما وصلت إلى سقف الخوف في الطاعون، استرجعت الحياة وجمالها بترجمة المراسلات.
هذا الإحساس في الترجمة، أعادني إلى المقريزي وهو يوصف وباء الطاعون أو الموت الأسود، كما كان يسمى في وقته، عندما انتشر هذه الوباء في مصر وفتك بأهلها، إذ كان عدد الأموات في القاهرة وحدها أكثر من الألف يومياً. يروي المقريزي أن دولة المماليك أمام هول الكارثة اضطرت إلى حذف سنة 749 (1348) من حسابها التقويمي والخراجي للفلاحين حتى أصبح يقال: مات في تلك السنة كل شيء، حتى السنة نفسها، ماتت. وهو نفس ما قاله ابن خلدون الذي عاصر وباء الطاعون: «في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف، الذي تحيف الأمم، وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها، وقل من حدها، وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى تلاشي واضمحلال أموالها، وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر، فخرجت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن»، هذا الإحساس يختزل الأزمنة ويجعل من أكثر من ستة قرون مسافة يمكن قطعها في ثانية، إذ ما أشبه البارحة باليوم؟
ليس سراً أني اطلعت على كل ترجمات «الطاعون» العربية، المتوفرة، بالخصوص تلك التي ترجمها كبار الكتاب العرب كالدكتور سهيل إدريس (1981) والدكتورة كوثر عبد السلام البحيري، وأيضاً ترجمة الدكتور سليم قباوة، وترجمة يارا شعاع، وغيرها. ترجمات متفاوتة القيمة والقوة والتأثير، لكن ليس هنا مجال مناقشتها واحدة واحدة. في مجموعها، تفتقر إلى شيء واحد، ذلك الإحساس الذي يسبق الترجمة ويعطيها قوة داخلية متساوقة مع اللحظة التاريخية التي نعيشها، بل ويبرر عودة النص الأصلي من خلال الترجمة الجديدة: شعرية الخوف والخطر المتربص بالجميع، الذي يمرّ عبر اللغة. فهي ترجمات تقنية لا غبار عليها عموماً، حتى ولو كانت في بعضها، انزلاقات نصية حاولت جاهداً العمل عليها وتقويمها، لأنها تمس المعنى الجملي أو ما أراده الروائي، وقد يكون سبب ذلك لكون الترجمة لم تأت من لغة الكتابة، ولكن من اللغة الوسيطة التي جاءت الترجمة عن طريقها، بالخصوص الإنكليزية. على الرغم من مأساوية اللحظة، سيبدو الأمر غريباً أن أقول: حظ استثنائي أن نعيش عصراً وبائياً تتحدد من خلاله العلاقات والحاجات الثقافية الجديدة. لحظة واحدة منه تساوي كتباً ومؤلفات. هذا الحضور الوبائي في حياتنا، يسمح لنا بقوة بشم رائحة الموت عن قرب وفهمها بشكل وجودي عميق عند الكاتب البير كامو، فتخرج عن كونها مجرد لغة واصفة. رواية الطاعون لحظة مهمة في تجربة كامو، فهي من المرحلة الثانية من تجربته التي بدأها بمرحلة العبث التي جسدتها رواية «الغريب» ومرحلة التمرّد التي تجلت في «الطاعون» ومرحلة الحب في روايته غير التامة «الرجل الأول» التي رافقته حتى موته. لهذا كله، أقدمت على خوض هذه المغامرة الصعبة والشيقة من أجل الانتصار للحياة حتى في أقصى أشكالها الوبائية، من خلال مشروع واسع، يستمر سنتين، يشمل روايات ألبير كامو كلها: الغريب (1942) الطاعون (1947) السقوط (1956) الموت السعيد (1971)، والرجل الأول (1994). إضافة إلى «مراسلات ألبير كامو وماريا كازاريس» التي ستصدر مرفقة برواية «الطاعون» في شهر جوان 2021.
(القدس العربي)