واسيني الأعرج: «الأدبية» في مواجهة «المجتمعية» المسطَّحة

0

كثيراً ما نغرق فيما نظنه مسلمة وهو ليس كذلك. ويحتاج الأمر إلى سجالية أعمق تعيد تنضيد الأشياء التي مررنا عليها مرور الكرام من جديد، بحثاً عن حقيقة ثقافية تظل غائبة. الرواية «أدب» وليست شيئاً آخر مهما تقاطعت مع ما ليس أدباً، وخارج جنسها. لا اختلاف في ذلك، بل هذا ما يجب الدفاع عنه من أجل تثبيت هوية الجنس الأدبي. لن تكون السياسة أدباً ولا علم الاجتماع ولا علم النفس، وإن تقاطعت هذا الأشكال مع الرواية في كثير من مكوناتها. حتى الأيديولوجية لن تجد مكانها في الأدب إلا إذا لبست لباسه وتماهت فيه حتى تصبح منه. هذا يعني ببساطة أنه لا أدب خارج نظام الأدب، والمعيار الأوحد لقياس درجة الجودة والنجاح هو الأدبية La littérarité، فهي جوهر الفعل الأدبي. ماذا نقصد بالأدبية؟ المفهوم في غاية البساطة كما حدده رومان جاكوبسون في محاضرة 1919، قبل أن يتم تخصيصه والتنظير له «الأدبية هي كل ما يجعل من أثر محدد نصاً أدبياً»، تصبح الأدبية بهذا المفهوم مقياساً للتفرقة بين ما هو أدبي وما ليس كذلك. الأمر الذي يحرر النص الأدبي، الرواية تحديداً، من يقين الأيديولوجية وجانبها التدميري الذي يحصر المنتج الفني في الخطاب الوثوقي. لا توجد حيادية في المطلق على الأقل، كل شيء يخضع لمنظومة سابقة عليه وتؤثر فيه بقوة، بل وتوجهه وتحدد تعريفاته؛ لأنه، ببساطة لا يوجد في النظام الفكري والثقافي البشري ما ينشأ من الفراغ أو من العدم. النص هو ثمرة كتابة وجهد كبيرين، لهما تماس عميق بالذات الإبداعية الخاضعة لكل التحولات النفسية المعقدة، ولهما تماس أيضاً بسياقات مجتمعية عامة، تتحكم فيه المؤسسات المحيطة به، أي أنّ النص الروائي لا ينشأ خارجها لكنه في الوقت نفسه لا يخضع لها. وهو ما عمل عليه الباحث الاجتماعي الفرنسي بيير بورديو Pierre Bourdieu وأطلق عليه تسمية «الحقول الثقافية والأدبية» التي تفرض نفسها مسبقاً، كشرطيات أساسية، على الفعل الثقافي أو المنجز الأدبي. السؤال الكبير في هذه الحالة هو: كيف يفلت الكاتب «الاستثنائي» أو «العبقري» من أسرها الثقيل؟ كيف يظل الكاتب داخل منجزه السياسي خارج شرطيات السياسة التي تحوله إلى مجرد خطاب عام يقول السياسة والتسطحات المختلفة بعد أن تفرغه من عمقه الأدبي، أي هويته (أدبيته) التي لا وجود له خارجها؟ النص الأدبي في النهاية أكثر تعقيداً، أكبر من الحيادية الوهمية أو نقيضها، مما يقتضي بحثاً عميقاً ومسبقاً في العناصر الصغيرة المشكلة للنص والتي تجعله يتفرد بهروبه من هذا «القدر» الأيديولوجي أو المجتمعي القاتل للإبداعية والأدبية الذي يعمل على مسخه بتحويله إلى رديف للسياسي والأيديولوجي، مما يشترط على الرواية أن تواجه سؤالاً مركزياً مهماً وحاسماً: كيف تستطيع هذه الأخيرة، في النهاية، تحويل كل هذه التفاصيل الحياتية المعيشة المحيطة بها والمؤثرة عليها، إلى مادة أدبية؟ ببساطة، كيف تقول الرواية التاريخ والأيديولوجيا والمجتمع دون أن تخسر أدبيتها؟ وينتهي سؤال الحيادية إلى إعادة صياغة معطياته: هل استطاع النص الروائي أن يخرج من أسر العلاقة المجتمعية المباشرة التي تحول الإبداع بكل تعقيداته إلى مجرد مادة اجتماعية هي ليست أكثر من صدى للمعيش، أي أنه لا وجود للقيمة سوى لتبرير المجتمع نفسه؟
الأدب آلة للقياس أو أداة ليس أكثر، والنص الروائي أكبر من هذا وذاك، هو إعادة صياغة لعالم مادي متحول إلى سلسلة من الافتراضات التي لا وجود لها عملياً في الواقع الموضوعي، إلا داخل النص. إن العبقرية الأدبية وفق البنيوي التوليدي لوسيان غولدمان، هي القوة الاستثنائية التبصرية التي تجعل من رؤية العالم لكاتب ما، وسيلة لتخطي المعطى التبسيطي للأدب، باتجاه ما هو أكثر أدبية وأصالة، أي العبقرية، حتى ولو تناقض ذلك مع قناعاته الشخصية والخاصة التي لا تعني الشيء الكثير أمام «العبقرية» التي تتحدد من خلالها مواصفات النص العظيم والاستثنائي. في النهاية، لا قيمة للقناعة الشخصية أمام المعطى الجمعي الذي تقوم العبقرية الفردية للكاتب بتحويله، بعد تخزينه في عمق التجربة الاجتماعية التي تجعل من الفردية منجزاً اجتماعياً غير مباشر. لكن الذي يعطيها تمايزها الكبير هو النص الذي فرضت أدبيته قوة حضورها من خلال كاتب عرف كيف يجعل من مشروعه الفردي تعبيراً جماعياً. العبقرية ليست في النهاية شيئاً آخر سوى المحول الفعلي لكل الطاقات المخزنة نحو خدمة التمايز والخصوصية الأدبية.
لنا أمثلة في التاريخ الأدبي البشري عرفت كيف تنقل الأدبية من بعدها الفردي إلى الفعل الجماعي. عظمة بلزاك ليست فقط في «كوميدياه الإنسانية» العظيمة، ولكن في قدرته العميقة على تحويل مجتمع القرن التاسع عشر بكل قدسيته وكذبه ونفاقه إلى مادة أدبية تنبض بالحياة، وهذا ما لم يكن متاحاً للجميع. فقد قرأ عصره قراءة تفكيكية وضعت كل شيء تحت مشرطه الأدبي، فأظهر النفاق الذي بنت عليه طبقته الأرستقراطية بكل آلاتها الاستغلالية ومشاريعها الاجتماعية الجهنمية، فانتقد بقوة ما كان ينتمي إليه حياتياً لحساب الطبقات الأكثر انكساراً وفقراً، ضحية الآلة البرجوازية التي خانت كل شعاراتها وخطابتها، فدافع كتابياً عمن كانوا في حاجة إلى صوته لرفع الظلم عنهم. لم يكن أدبه في النهاية مجرد صدى لقناعاته الخاصة، بل «كاليدوسكوب» حقيقي حوّل المخاض المجتمعي وقتها إلى نص جعل من الأدبية خياره المركزي. ينطبق هذا أيضاً على ليون تولستوي الذي عاش في مجتمع القنانة والعبودية، فرفضه رفضاً كلياً، وأدان الوجاهة الإقطاعية والإدارية الكاذبة لطبقة كان ينتمي إليها. ولم يكن يهمه أن يخسر الطبقة التي شكلت جزلت جزءاً من هويته المتمردة. في روايته «آنا كارنينا»، انتصر للحب حتى ولو تناقض ذلك مع الأخلاق المنقذة للإنسانية، وفضح الأخلاق الزائفة وطبقية الوجاهة الكاذبة.
الأدب العظيم هو الأدب الذي يتخطّى الثنائية واقع/ ذات، باتجاه عنصر ثالث ينشأ من أعماق النص الفاعل والأدبي بامتياز: الأدبية التي تعني بنية النص نفسه من خلال مكوناته اللغوية والجمالية، ومرجعياته الفنية، أولاً وأخيراً. الملاحظات نفسها تنطبق على نجيب محفوظ الذي انتقل بالرواية نحو «الخصوصية الأدبية» في مواجهة «المجتمعية» الفجة التي تعيد إنتاج الصور المهيمنة. وإذا كانت ثلاثيته صورة عن مجتمع كان في طور التحلل والتلاشي، لتنهض على أنقاضه صور مجتمعية لم تكن وقتها واضحة، لكن نصوصه العبقرية لامست جوهرها من خلال الوسيط الأدبي والفني وليست من خلال الخطاب الاجتماعي الاختزالي الذي يدمر «الأدبية» لأنها لا تهمه إلا بشكل ثانوي وكمكمل لخطابه.

(القدس العربي)