السلطة المطلقة التي أعطتها نظريات القراءة للقارئ بعد موت المؤلف تحتاج إلى مراجعة نقدية وجمالية موضوعية، وفهم آخر لتطوير الذائقة الجمالية التي عليها القارئ؛ بتجدد ظروف خاصة في العملية النقدية وهي تتقصى النص من بابه الإلكتروني المستحدث. والقصد؛ على الأرجح؛ هو معاينة موقع القارئ من النص الجديد مع تطور الإلكترونيات وانحسار الكتاب الورقي على ما يبدو، ومدى فاعليته/ القارئ/ في إنتاج النصوص التي يقرأها بالطريقة المبتكرة واحتوائها بعيدًا عن سلطة الورق التي أصبحت عادةً وإدمانًا. فكيف يتفق هذا وذاك/ القارئ والنص الإلكتروني/ وهل النص الإلكتروني/ ما بعد الحداثوي/ وأسميه “نص القرن الحادي والعشرين” مسؤول عن إيجاد القارئ الجمالي وتصنيفه مثلما فعلت نظريات القراءة السابقة. أم أن القارئ هو المسؤول عن إيجاد مثل هذا الوصف في النص النوعي الذي يمثله تبعًا لنشاطه الثقافي والمعرفي وعلاقته المباشرة بالكتابة الإلكترونية ومصادرها المتعددة؟
قصة القراءة بأكملها مرت بمراحل تاريخية ونقدية متتابعة حتى وصلت في نهاية الستينيات إلى موت المؤلف على يد رولان بارت، عندما جعل منه ممرًا لولادة أخرى تعقبه في المسميات النقدية، بأن يكون القارئ هو البديل المناسب له في إحصاء أثر النص وجمالياته أو إخفاقاته أيضًا. ولم يكن بارت على علم مسبق بما ستؤول اليه نظريات النقد والقراءة وتطورات آلياتها الزمنية. ففي حدود عصره كان قادرًا على محاكاة أدبيات زمنه بطريقته الناقدة التي أعْلى فيها من شأن المتلقي مستهدفًا المؤلف بوصفه خارج متنه الكتابي. غير أن النظريات التفصيلية التالية توزعت على منافذ أخرى بهذا الخصوص عند إيكو وتودوروف وأوتن وآيزر وآخرين ممن استهوتهم فكرة القارئ والنص والمؤلف في لعبة النقد الأثيرة المستمرة حتى اليوم.
المؤلف – القارئ
يرى بعضهم؛ وهو أمر متكرر؛ بأن المؤلف هو القارئ الأول، أي قارئ قبل النص أو متداخل القراءة مع الكتابة. وهذه شبه إشكالية نقدية غير ضرورية في تأهيل النص نقديًا واعتباريًا. فكاتب النص هو قارؤه أكيد. لكنه ليس القارئ العشوائي ولا القارئ الفاحص. بل القارئ- الكاتب. وهذا لا يخل بمعادلة التدوين النصية التي يرتَئيها المؤلف في محاولته الأخيرة لإخضاع نصه إلى أفكاره وشكلياته، بينما يريد التنظير أن يتجاهل مثل هذا ويخطف النص بتسويف نقدي قد لا تكون له أهمية كبيرة سوى أهمية التنظير المعتاد. فالكاتب – ضمنًا – هو قارئ ما يكتبه. بل هو أكثر القرّاء إمعانًا في نصه وهو ناقده الأول، لكن بطاقةٍ نقدية محدودة هي طاقة الكتابة في ذروة تجلياتها، لعلها طاقة الخيال في الكتابة التي لا تتعداه في أفضل الأحوال. فالمؤلف ليس ناقدًا بفرضية أنه منتج ومبدع، لذلك فالنص المطبوع عندما يخرج من حاضنة المؤلف، يصبح مشاعًا وخاضعًا للتأويل والدراسة المنهجية والانطباعية. ولا علاقة للمؤلف بما يقال عنه، إلا لكونه خالقه أو صانعه أو مبتكره.
فهذه تبعية معتادة في القراءات؛ ومن هنا جاء “الموت” المجازي الذي نادى به بارت، بوصفه أن النص صار ملكية لغير المؤلف، فشاعت مسميات القارئ مثل ما هو معروف. على أن هذا الموت ليس هو خاتمة النص ولا إحياؤه أيضًا، بل الدخول الآخر في عملية القراءة الاستهلاكية من جهة وهي ما يمثلها القارئ العام، والنقدية من جهة أخرى، وهذا ما يمثله القارئ الناقد الذي يتحلى بصبر القراءة وتأويلها. بمعنى إنتاج النص والتعريف بمرجعياته الثقافية والسياسية والتاريخية والاجتماعية، أي (يُنتج معرفةً بالنص) بتعبير الناقدة يمنى العيد. هذه المعرفة مشروطة بوعي القارئ- الناقد الذي يقيم في النص لا عابر النص من أجل المتعة. أما المؤلف فقد قال كل شيء في نصه ولا علاقة له بالتنظيرات وشروط المنهجيات؛ فهذه تأتي بعد النص حتمًا.
ولعل هذا من شروط تأهيل القارئ إلى ممارسة النقد. فـ (ليس جائزًا أن يبقى “القارئ” مجرد متلقٍ خاضع بسطوة النص.. مهدد بأن يكون مثل اسفنجة تمتص كل ما يصلها..) فالامتصاص استهلاك مستمر للنصوص، وأحيانًا إفراغها من محتواها وضمنيتها التأويلية. عندها نكون أمام قارئ عادي وليس قارئًا ناقدًا. وعليه ليس من الإنصاف أن يموت المؤلف وهو الخالق الأعظم لنصه مهما كان شكل النص وأهميته وتبعيته المعرفية. وهو صانع الخطاب ذي الحمولة التاريخية والثقافية والأسطورية. وصاحب السلطة الأولى بمعزل عن قيمة وثراء الآراء المحاذية لنصه. أو تلك التي تسير في أعماقه لتفكيك منظومته الشخصية برؤية لا تجاور أساسيات الخطاب أحيانًا. بل تتعالى عليه على وفق منظومتها النقدية. لهذا فنحن أمام إشكاليات متسلسلة في الخطاب النقدي المتواتر بدخول مظاهر قرائية جديدة استحوذت على سيكولوجية القارئ، بتوفير قدر أكبر من القراءة الإلكترونية، بعيدًا عن سلطة القراءة الورقية ونظرياتها المتعددة التي شغلت مساحات زمنية غير قليلة.
أسئلة المستقبل الطبيعية
مع تطور الآلة بخيالها الإلكتروني وانحسار الكتاب الورقي إلى حد ما وتعدد صفات القارئ الجديد وتنوعه الثقافي والمعرفي؛ هل يحق لنا أن نقول بوجوب موت الكتاب الورقي؟ وهل أصبح تراثا فعلًا أمام المد الجديد في الحياة التفاعلية المستحدثة من الثورة الثالثة/ الإلكترونية/ التي قالها الأميركي توفلر؟ وهل تغير الخطاب السردي أو الشعري في هذه المستحدثات الفنية الواصلة بين النص وقارئه؟ وهل تغيرت اللغة فعلًا في موجة الكتاب الإلكتروني؟ وهل تقاطعت مخيلة القارئ ومخيلة النص في لباسها الجديد؟ وهل استنفدت اللغة الاجتماعية فعلها الكلاسيكي بين الأزرار السريعة التي تريد أن تستحوذ على الزمن الآتي من خلف تلك الأزرار؟ هل انتهى الشكل التقليدي للقراءة؟
وهل يختفي الكتاب الورقي حقًا؟ وهل بمقدورنا أن نعلن موت القارئ الكلاسيكي ونبشّر بقارئ إلكتروني؟ ولنا في هذا الصدد أن نتساءل: ترى من هو القارئ الآتي مع هذه العلوم التي نتوقع أن تزداد تطورًا وتعقيدًا أيضًا؟ وماذا سيحدث بالنظريات القديمة التي وازنت بين القراءة والنص من جهة، أو التي قتلت المؤلف واستنهضت قوة القارئ المعرفي في تحقيق غاية القراءة من داخل النص من جهة أخرى؟
مثل هذه الأسئلة الشائكة هي من طبيعة منطق التطور للحياة الثقافية العامة، بمتغيراتها الكبيرة الوافدة من العلوم وتقنياتها العظيمة. ولعل مقولة تودوروف “أنْ لا شيء يقال عن القراءة ..” هي تخليص النظرية من ثوابت قارّة عند بعض المنهجيين. فالقراءة كبناء ومعالجة جمالية محكومة بزمنيتها وتاريخها الاجتماعي والثقافي، وبالتالي فإن التطور النقدي الأكيد سيضعف نتائجها. وحتى مقولة أن التفكيكية تقوم على تفجير النص وتواجه النص بالنص التي أطلقها هالين وشوبروجين يبدو أنها الآن في مرحلة الاختبار الواقعي.
فالزمن التاريخي يُحكم العلاقة بين النص والنص، وبين النص والقارئ والنص والناقد. وقد يبدو الزمن تراثيًا أمام النصوص الكلاسيكية التي وطّدت العلاقة بين القراءة والمؤلفين. وستغدو تلك النصوص مؤشرات على زمن احتفل بها جادًا، غير أن الزمن ذاته قد يتخلى عنها لصالح حداثة العملية المتنامية علميًا من زوايا سيكولوجية واجتماعية واقعية، وبالتالي صيغة إلكترونية ستتيح لنا جميعًا كمية كبيرة من الآراء التي ترى في استبطان النص موضوعة جديدة، عبر خلايا الإلكترون في نسق جمالي سيغير الكثير من التحديات النقدية مع النصوص الإلكترونية، بما فيها النصوص الصوتية التي ستشكل موجة ما بعد الحداثة في تأطير العلاقة بين القراءة والنصوص الشبحية التي بدأنا نطالعها.
ولكن أمبرتو إيكو يريد قارئا مر بنفس التجارب القرائية التي مر بها هو.. لنستشف من هذا أن الحدس الإيكوي لم ينتبه إلى أن هناك مستقبلًا علميًا رافدًا للفاعلية الثقافية المضطردة..!
(ضفة ثالثة)