رحل عن عالمنا قبل أيام رجل سوري نادر، كان ظاهرة في عالم السياسة السورية. ففي 6 كانون الأول/أكتوبر، غصّت وسائل التواصل الاجتماعي السورية بمنشورات تؤبّن القيادي اليساري السوري منصور الأتاسي، أو ترثيه وتذكّر بمناقبه. من النادر أن يُجمع السوريون – حتى وإن كانوا في خندق واحد – على فكرة بعينها أو رجل بعينه.
عرفتُ منصور أتاسي منذ عقود. كان صديقا شخصيا ورفيقا حزبيا لأخي بشّار في الحزب الشيوعي السوري بحمص، حين كنت أنا وعصبة من رفاقي نؤسّس رابطة العمل الشيوعي. وبينما كان الشيوعيون بمجملهم ورغم انقساماتهم الداخلية ينظرون إلينا بريبة وبنوع من الخوف من أن نسحب البساط من تحت أقدامهم، ويرفضون الحوار معنا، كان أبو مطيع يفتح صدره لنا بصبر وأناة. وفي كلّ مرّة زرت فيها حمص، كان لي لقاء معه، في بيته أو مكتبه أو – على الأرجح – في بيت أخي بشار، حيث كان يعقد اجتماعات اللجنة المنطقية. وكنا نجلس ساعات طوالا يسمع لي وأنا أهاجم حزبه وأتهمه بالتحريفية والانتهازية، وأنتقد الاتحاد السوفياتي، كعبة الشيوعيين في تلك الفترة، فيردّ علي بهدوء، محاولا أن يجد قواسم مشتركة بيننا، وأشياء على الأرض يمكن أن نقوم بها.
كان ماركسيا عنيدا، ولكنه كان يرى في الماركسية طريقا للانعتاق والتحرر وليس مبرّرا لنوع آخر من العبودية. لذلك رأيناه يتنقل بين أطراف الحركة الشيوعية، بدون تردّد وبقليل من الندم. عند انقسام الشيوعيين الأول سنة 1972 بين جماعة الأمين العام التاريخي خالد بكداش وشباب المكتب السياسي، اختار البقاء مع بكداش، لأنه لم يرتح للنزوع القومي عند الطرف الآخر. وحين انقسم التيار الرئيسي بين خالد بكداش ونائبه يوسف فيصل، خرج مع جماعة يوسف، ثمّ سرعان ما اكتشف أن هذا التيار يهادن النظام بشكل سافر، وقد تخلّى عن كلّ حسّ نقدي تجاهه، فعاد إلى جناح بكداش، على أنه سئم من تسلط الرجل وعائلته على مقاليد الحزب بدون مساءلة أو مراجعة، فوجد نفسه يخرج من الحزب ويؤسّس مع قدري جميل وقتها ” «اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين”، ومع ذلك، سرعان ما قطع علاقاته بجميل، بسبب انتهازية الأخير وعلاقاته الغريبة مع روسيا، فأسس مع ثلّة من رفاقه “هيئة الشيوعيين السوريين”، التي غيّرت اسمها فيما بعد إلى حزب اليسار الديمقراطي، وهي تسمية كانت ذات مغزى، فهو حزب يساري ولكنه ديمقراطي، وهو بذلك يردّ على كلّ القيادات الشيوعية التي كانت ترفض الديمقراطية، وتتمسّح بأحذية كلّ دكتاتور فاشي، بحجة أن يقف ضدّ الإمبريالية.
وبالفعل، عند اندلاع الثورة السورية، اصطف معظم الشيوعيين مع النظام الفاشي في دمشق، ودافعوا عن الجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبها وما يزال. أما منصور أتاسي، الذي كانت الماركسية بالنسبة له أداة لتحرّر الشعوب وليس لقمعها وطريقا لتحقيق العدالة والمساواة وليس للنهب وتراكم الثروات، فوجد نفسه، ومن حوله من شباب الحزب الذين كانوا يضعون ثقتهم فيه شخصيا أكثر مما يضعونها في قيادة الحزب، في صفّ الثورة. ومنذ الأيام الأولى لم يتردّد في الانخراط في الثورة ودعمها وفي التغريد وحيدا تقريبا خارج سرب الشيوعيين الذي اصطفوا بشكل مخزٍ مع زمرة القتلة والفاسدين ومنتهكي حقوق الإنسان، بحجة الشعارات الكبيرة الفارغة.
وحين ضاقت به السبل في مدينته حمص وبدأ النظام يضيّق عليه ويوجّه له تهديدات جدية، اضطر منصور لترك سوريا واللجوء إلى إستنبول، حيث تحوّل فور وصوله هناك إلى نقطة جذب للسوريين هناك. كان بيته ملتقى دائم للسوريين من كلّ الاتجاهات والمسارب والمناطق والقوميات والمذاهب. كان هاجس منصور الأول (والوحيد؟) سوريا: سوريا الموحّدة ولكن الديمقراطية والتي تتمتّع بحدّ كبير من اللامركزية، ويشعر جميع مكوناتها بالأمان والمساواة التامة؛ سوريا التي يتساوى فيها الرجل والمرأة مساواة مطلقة، ومن دون تحفظ؛ سوريا التي تبنى على أساس سيادة القانون وتداول السلطة وضمان الحريات الفردية للجميع، بما فيها حرية التعبير والحق في التجمع والترشّح والعمل السياسي والانخراط في الشأن العام؛ سوريا التي تقوم على أساس الفرد وليس القطيع، المواطنة وليس الرعية، المصلحة المشتركة وليس الإيديولوجية.
للوصول إلى تلك الـ “سوريا”، كان منصور يعمل ساعات طوال كلّ يوم، ينتقل من بيت لبيت ومن مقهى لآخر ومن مدينة لمدينة في تركيا، ليلتقي السوريين هناك، ويبحث معهم ما يمكن فعله. ورغم كلّ السواد الذي حلّ بالسوريين في الأعوام الأخيرة وتراجع الثورة وانهيار المعارضة السورية المشين، لم يكن منصور يفقد تفاؤله، وكان يبحث في ركام السواد عن نقطة ضوء، وفي ركام الهزائم عن انتصار صغير. وفي الحقيقة، لم يكن لمنصور حياة خاصّة. كانت حياته ملكا للآخرين وللقضية التي يعمل من أجلها. كان المكان الأول الذي يقصده السوريون الجدد في إستنبول، فهو، ومعه ابنه رامي، هو من يبحث عن بيوت لسكنهم وإمكانية إيجاد عمل لهم، وكيفية مساعدتهم في حال مرضهم. كانت ندوته الأسبوعية في إستنبول ندوة كلّ السوريين، وحين رأى أن المرأة السورية أقلّ انخراطا في الشأن السوري العام، دعا إلى تشكيل كيان خاص بالمرأة، يعمل على تمكينها وتشجيعها على الانخراط بشكل أكبر.
وانتقد منصور النظام على الدوام ولكنه لم يوفّر رفاقه السابقين. يقول في مقابلة له إن الشيوعيين فقدوا استقلاليتهم ثم “فقدوا الدور الوظيفي بما يخص الحريات وتمثيل الكادحين ولم يعودوا قادرين سوى على التبعية وأصبحوا مرتبطين بالنظام وغير قادرين على الخروج من هذا الارتباط، لذلك فهم أصبحوا جزء من الحالة الإجرامية الموجودة في سوريا لأنهم صامتون ومؤيدون للعمليات الإجرامية التي يقوم بها النظام، وليس فقط في إدلب، وإنما حتى في محافظة حمص وريف دمشق ودوما وكل المناطق السورية التي دمرها النظام… لقد فقدت هذه القوى دورها الوظيفي، وفي تاريخ الحركة الشيوعية نجد دائما ظواهر مشابهة وندعوهم بالشيوعيين الكلاسيكيين وهم من التيارات الانتهازية داخل الحركة الشيوعية. والحركة الانتهازية تعني أنهم يقدمون مصالحهم الشخصية على مصالح الشعب ومصالح الكادحين وعلى مستقبل سوريا ووحدتها. “
في زيارتي الأخيرة إلى إستنبول الشهر الماضي لإطلاق النسخة العربية من كتاب “القائمة السوداء” الذي يفضح مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة في سوريا، دعاني منصور على الغداء مع صديقين عزيزين. سألته عن صحّته، فضحك ضحكته الجميلة، وقال “ممتازة”، وتقف برهة قبل أن يضيف “في هذا العمر”. ثمّ على تعليقا على إصدارنا كتاب القائمة السوداء، همس في أذني: “أرأيت ما كنت أقول دائما؟ هذا العمل خطوة مهمّة على الطريق. لن نصل غدا لكننا سنصل.”
وها أنذا يا أبو مطيع: ليس لدي قوّتك ولا قدرتك على التحمّل ولا تفاؤلك الجميل، ولكنني وفاء لك سأتبنّى قولك هذا: “لن نصل غدا، ولكننا سنصل، بالتأكيد.”
المصدر: موقع بروكار برس