وائل السواح: مأساة بريتني سبيرز

0

تُبرز حكاية مغنية البوب الأميركية المشهورة، بريتني سبيرز، ضرورة إحداث تغيير جذري في الثقافة الأميركية. ستبلغ بريتني الأربعين في العام المقبل، ولكنها في نظر المحاكم الأميركية لا تزال طفلة تحتاج إلى وصاية. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة هي، من جانب، أكثر البلدان حرية وديمقراطية في مجال التعبير عن الرأي وحرية الاعتقاد، ثمّة، للأسف، نواحٍ كثيرة تجعل المجتمع الأميركي واحداً من المجتمعات التي تسيطر عليها ثقافة نمطية مغلقة وذكورية وعنصرية، لا بدّ من تغييرها.

كانت بريتني سبيرز معبودة الشباب والمراهقين في نهاية تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الجديدة: جميلة، حيوية، ومغنية رائعة. في عام 2008، تمّ وضعها تحت الوصاية بعد انهيارها العلني الذي أعقب عاماً من السلوك غير المنتظم على ما يبدو، مثل حلق شعر رأسها، ومهاجمة سيارة أحد مصوّري البابراتزي الذين يلاحقون المشاهير (وكانوا سبب مقتل الأميرة ديانا) بمظلة. وُضعت بريتني في مستشفى للأمراض النفسية لتقييم صحتها النفسية، ثم طالب والدها بالحجْر عليها، وأصبح، بحكم قضائي، المتحكّم بحياتها وأموالها وأدائها الفني. والأسوأ أن حكم المحكمة حرمها من الإنجاب مرّة ثانية. .. قد يبدو هذا الأمر أكثر معقولية في الصين، حيث تتدخل الحكومة في حياة المواطنين الشخصية، أو في بلد دكتاتوري تتحكّم فيه الحكومة بمصائر الأفراد، ولكنه لا يبدو منطقياً في الولايات المتحدة.

من منا يتذكّر كيف حمل المغني مايكل جاكسون ابنه برنس مايكل الثاني بيد واحدة، وأدلاه من فوق حاجز الشرفة من الطابق الرابع، في محاولة للتواصل مع معجبيه المتجمّعين في الأسفل؟ أمسك المغني الصبي مستخدماً ذراعاً واحدة فقط حول خصر الطفل، على حافّة السور المعدني، ما عرّض الرضيع لخطر السقوط، ومع ذلك لم يتدخل أحدٌ ليأخذ الطفل من أبيه، ولم يتدخل قاضٍ ليحجُر على المغني ويحرمه من أطفاله. وليس مايكل جاكسون وحيداً في تصرفاته المتهورة، فقد أظهر روبرت داوني جنر وميل جيبسون وكاني ويست جميعهم سلوكاً خطيراً وغير مستقر عاطفياً في السابق، بسبب إدمان المخدرات أو الكحول، من دون أن يتحمّل أي منهم مسؤولية قضائية ومالية ومجتمعية.

الفرق بين مايكل وبريتني، أن مايكل رجل، وبريتني امرأة. من هنا، تأخذ حكاية بريتني بعداً مهماً بالنسبة للجيل الجديد من الأميركيين الذي سئم من نفاق مؤسّساتهم وعقليتها الذكورية والعنصرية البغيضة. مرّت 13 سنة صعبة وقاسية على بريتني، وحان الوقت ليس فقط لمعالجة قصتها، وإنما لمعالجة الأمراض الاجتماعية الأميركية بشكل عام.

في نهاية التسعينيات، برزت بريتني رمزا للتحرّر والجمال والفن. بدأت في الخامسة عشرة وكانت صورتها تمزج بين الصبا والجمال والانطلاق من كل القيود والغناء، وهو ما يرفضه مجتمع الكنيسة الإنجيلية الأكثر تعصّباً وانغلاقاً بين كلّ الكنائس الأميركية. ويشكّل الإنجيليون الأميركيون (evangelical church) بين 30% إلى 35% من الأميركيين، وهم الأكثر محافظة وعداء لتحرّر النساء والمساواة التامة بين الجنسين؛ يعارضون الإجهاض معارضة تامة، ويعتبرون أن المرأة ليست سيدة جنسها وحياتها الخاصة. ولا تظهر الكنيسة الإنجيلية التحيّز نفسه ضدّ الرجال حين يرتكبون “المعاصي” نفسها، فهي أيّدت بقوة وبدون تردّد الرئيس السابق دونالد ترامب الذي ثبتت علاقاته النسائية خارج إطار الزوجية، وثبت أنه دفع لهن مبالغ مالية لشراء صمتهن عنه، قبل ترشّحه للرئاسة.

لقد تمّ تصوير بريتني سبيرز أمًّا سيئة، وصُوِّرت بملابس كاشفة، وقد وضعت مساحيق تجميل ثقيلة على وجهها في الأماكن العامة، واتّهمت بتكريس معظم وقتها لمسيرتها المهنية الناجحة، كما تم اتهامها بأنها لا تلاعب أولادها وتعاملهم مثل “إكسسوارات الموضة”. ولم يكن ذلك يتناسب تماماً مع الصورة النمطية لـ “الأم الطيبة”.

ولكن، دعونا نضع أمومتها في السياق. كانت بريتني والدة وحيدة تبلغ 26 عاماً، تحاول تربية طفليها في أثناء عملها مغنية بوب ذائعة الصيت، بينما كان مصورو البابراتزي يلاحقونها وطفليها بجنون. لم يثرْ هذا الوضع الصعب تعاطف محكمة الرأي العام الذي يحب أن يرى “الأمهات السيئات” وهن يُعاقبن، بينما يفلت الآباء السيئون من أي عقاب. وحين راحت بريتني سبيرز تعاني من انهيار عقلي واضح، لم يحاول أحد مساندتها، بل تشفّى كثيرون منها ومن سلوكها، وأجبرها الأطباء على تعاطي العقاقير الطبية ضدّ إرادتها، وجرّتها الصحافة إلى بؤرة الضوء والتشهير، وطلب والدها أن يكون الوصي القانوني عليها، ووافقت المحكمة على ذلك، من دون أن يعترض أحد، ما خلا قلّة من المعجبين بها، حتى وقت قريب.

القصّة ليست فردية، ولا تقتصر على بريتني سبيرز، فمنذ أيام أطلقت محكمة عليا سراح الكوميدي المشهور مغتصب النساء، بيل كوسبي، أمام أنظار اللواتي اغتصبهن. وحين تجرّأت امرأة (وأستاذة جامعية) في عام 2018 على اتهام القاضي بريت كافاناه الذي رشّحه الرئيس السابق ترامب لعضوية المحكمة العليا، بالاعتداء عليها جنسياً حين كانا في الجامعة، شكّك معظم الذكور في الكونغرس بروايتها، وثبّتوا عضوية القاضي على الرغم من ذلك. واختفت الدكتورة كريستين بليسي فورد من ذاكرة الأميركيين، وبقي كافاناه قاضياً في أعلى سلطة قضائية. وكان سبقه في هذا القاضي كلارنس توماس الذي رشّحه الرئيس جورج بوش الأب لعضوية المحكمة العليا، واتهمته السيدة أنيتا هيل باغتصابها، حين كانت تعمل تحت إمرته في وزارة التربية. ومرّة أخرى، سخر المشرّعون الأميركيون منها، وثبّتوا القاضي المتهم منها بالتحرّش في المحكمة العليا. وهنالك 26 سيدة على الأقل اتهمن ترامب باغتصابهن أو الاعتداء عليهن، من دون أن يؤُثّر ذلك على مكانته السياسية وقوته التنمّرية.

ويسيطر الرجال، ومعهم النساء الأميركيات المحافظات، على حياة النساء وعلى أجسادهن. ويضيّق المشرّعون الجمهوريون والإنجيليون الحصار على المرأة وحقّها في الإجهاض في عدد متزايد من الولايات الأميركية الجنوبية، بينها جورجيا وألاباما، وهي الولايات ذاتها التي أصدرت قبل أسابيع تشريعات جديدة تقيّد قدرة السود على المشاركة في التصويت للانتخابات التشريعية والرئاسية. ووقف الجمهوريون في مجلس الشيوخ في وجه تشريع قومي، يؤكّد على المساواة بين جميع الأميركيين في التصويت والحقوق السياسية.

قبل 53 سنة، قضى القس مارتن لوثر كينغ ضحية تطرّف عنصري أبيض، ولكن مقتله دفع حركة الحقوق المدنية قدماً، وصدرت بعده تشريعاتٌ تؤكّد على المساواة بين الأعراق وبين الجنسين في أميركا، لكن المحافظين الأميركيين لا يدّخرون أي جهد في دفع المجتمع الأميركي إلى الوراء من جديد. وبعد خمسة عقود من حركة الحقوق المدنية، لا تزال الولايات المتحدة للأسف تعاني من انعدام المساواة في كلّ مجال تقريباً. في العام 2020 لم يدفع أغنى خمسة أشخاص في أميركا، الرئيس التنفيذي لشركة “أمازون” جيف بيزوس، والرئيس التنفيذي لشركة “بيركشير هاثاواي” وارين بافيت، والرئيس التنفيذي لفيسبوك مارك زوكربيرغ، ورجل الأعمال إيلون ماسك الرئيس التنفيذي لشركتي “تسلا” و”سبيس إكس”، فضلاً عن رجل الأعمال بيل غيتس، أي فلس ضريبة، بينما تتحمّل الطبقة الوسطى الأميركية العبء الضريبي بأكمله. ولا يزال السود والملوّنون يتعرّضون لاعتداء رجال الشرطة بنسبةٍ تزيد بنسبة الضعف على نسبة مواطنيهم البيض. ويتبوأ أماكن القادة السياسيين في العاصمة والولايات أشخاصٌ متنمّرون وشرسون ومغتصبون، بينما تتراجع حظوظ الرجال والنساء المثقفين والمسالمين والحضاريين في أخذ أماكنهم في الواجهة السياسية.

باختصار، قضية بريتني سبيرز هي الواجهة التي تعبّر عن ملايين الحالات التي تبرز الوجه المحافظ والرجعي للأمة الأميركية، التي تحتاج إلى ثورة ثقافية حقيقية لتظل في صدارة الدول الديمقراطية التي تقود العالم.

*العربي الجديد