في مثل هذا الشهر، قبل 150 سنة، ولد طفل روسي في مدينة هادئة صغيرة على ضفاف نهر الفولغا تدعى سيمبيرسك، لعائلة من الطبقة الروسية الوسطى، لأب كان معلّم مدرسة وأمّ كانت ابنة طبيب مثقّفة. ولد الطفل باسم فلاديمير إيلتش أوليانوف، ولكننا ستعرفه جميعا باسم لينين، وسيُقيَّض له أن يغيّر وجه العالم، ليس للأفضل على كلّ حال.
وفي نيسان 1970، كنت ولداً صغيراً أركض في شوارع مدينتي الجميلة، حمص، حين فوجئت بملصقات (بوسترات) تحمل صور رجل أصلع له لحية صغيرة وعينان حادّتان كصقر، تنتشر في كلّ مكان من المدينة، وعليها توقيع الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
أذهلتني الصور الكبيرة المعلّقة في شوارع المدينة، بالنسبة لي كان الرجل الذي في الصورة عادة ما يُخبّأ في كتب توضع تحت السرير، لأن الحكومة لم تكن معجبة به ولا بأتباعه، وكان أخي يحتفظ بعدد منها تحت سريره. ولكن سوريا كانت لحظتها تمرّ بمرحلة مفصلية. لقد خرجت لتوّها من هزيمة حزيران 1967، ويتصارع داخل الحزب الحاكم جناحان بعثيان، حيث كان الجنرال الذي خسر مرتفعات الجولان العصية – بصفته وزيراً للدفاع – في حرب هزلية يسعى إلى إقصاء التيار الآخر الذي يقوده جنرال آخر محدود الأفق ويخبئ تحت جانحيه ثلاثة أطباء، تركوا الطب إلى السياسة فقادوا البلاد إلى كارثة. فأما الجنرال الأول فكان حافظ الأسد، وأما الثاني فكان صلاح جديد، وأما الأطباء الثلاثة فكانوا رئيس الدولة نور الدين الأتاسي ورئيس وزرائه يوسف زعيّن ووزير خارجيته إبراهيم ماخوس.
في غمرة الصراع بين الجانبين، كانت المقاومة الفلسطينية تتفتح وتزدهر وتنمو، وقد خرجت قبل زمن قصير منتصرة في معركة الكرامة الشهيرة (1968)، وصارت لها في قلوب السوريين والفلسطينيين مكانة خاصة. وفي غمرة الأحداث أيضاً قرّر أحد الشباب الصاعدين في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، نايف حواتمة، أن يخرج من عباءة القائد التاريخي للحركة، الدكتور جورج حبش، الذي كان سحره يكسف ضوء كلّ ما حوله، فاكتشف رجلاً اسمه لينين، وغالباً بدون أن يقرأ أفكار لينين وبدون أن يقرأ سلفَه كارل ماركس، أعلن انشقاقه عن الجبهة وأسس فصيلاً ماركسياً – لينينياً باسم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وصادف قراره ذكرى مرور مائة سنة على ولادة لينين، فزرع شوارع المدن السورية ملصقات تحمل صور الرجل وتحْيي عيد مولده. ولا يزال هذا الشاب الثوري حتى اللحظة أميناً عاما للجبهة، متشبثاً بكرسيه، يمنع الضوء عن أي كادر جديد في جبهته، ولكنه بات يؤجّر جبهته لطغاة المنطقة، حسب الطلب، وآخرهم كان بشّار الأسد.
شخصياً، مثل كثير من أبناء جيلي، سُحرت بالرجل الأصلع القصير ذي اللحية الصغيرة حول شفتيه، وتأثّرت بأفكاره لدرجة الهوس، وسأسمح له في مقبل الأيام أن يقودني إلى صفوف الحزب الشيوعي، ثمّ إلى المساهمة في تأسيس رابطة العمل الشيوعي الذي سيغدو الفصيل الثوري الأول في سوريا خلال سنوات. ثمّ سأسمح له أن يقودني إلى السجن، حيث سأمضي عشر سنوات، أتيحت لي خلالها أن أخلو لنفسي وأمحّص في أفكار الرجل الذي قادني خلال سنوات شبابي الأول.
واليوم، والعالم يحتفي بمرور 150 عاما على ولادته، في ظل الكآبة المسيطرة على الكوكب اليوم بسبب انتشار وباء لا يعرف أحد له غايةً أو نهاية، وسواء أوصفتَ الرجل بأنه مسيح الماركسية المخلّص أو بأنه دكتاتور مقيت لا تلين له قناة ولا يتردّد في قتل حشود من البشر، فيمكننا جميعاً الاتفاق على أمر واحد – لم يكن فلاديمير إيلتش لينين رجلاً عادياً.
لقد قاد لينين العمال وهو من ذوي الياقات البيضاء، ولد لعائلة مثقفة، وكان جدّه لأمه إقطاعياً نبيلاً، تعلّم في مدارس غالية، وتعلّم اليونانية واللاتينية والألمانية، ومع ذلك فقد كان ثورياً على طول الخط، وربما ثورياً أكثر مما ينبغي.
بسبب ثوريته، كان يقف ضدّ الجميع تقريباً ويشكّل عليهم عبئاً كبيراً، دافع عن الانقسامات بين زملائه الماركسيين، ولم يتردّد في قسم حزبه قسمين، فخرج معظم قادة الحزب، بليخانوف ومارتوف , وبوتريسوف، وحتى تروتسكي الذي كان على يسار لينين، اصطفّ ضدّه لأنه كان يخشى سطوته. ولكن لينين أصرّ على تسمية تيّاره باسم البلاشفة (الأكثرية) رغم أن الأكثرية الحقيقية كانت في الطرف الآخر (المناشفة). ورفض كلّ جهد لتوحيد الحزب، وبدلا من ذلك كان يقول لرفاقه: “إذا أمسكتَ بمنشفي من رقبته، فلا تتركه إلا وقد فارق الحياة”. لم يكن يتحمل أبداً أولئك الذين يختلفون معه في الرأي، لا خارج حزبه ولا في الداخل. وكما يقول ليف دانيلكين، مؤلف سيرةٍ عن حياة لينين الأخيرة (2017)، كان لينين “انفصالياً محترفاً” وسياسياً كلْابياً لا يرحم.
وبسبب ثوريته أيضاً، خلق دولة قمعية بامتياز، بعد أن قضى على النظام القيصري، ثم على الجمهورية الديمقراطية التي عاشت أشهراً فقط في عام 1917، وبعد أن قتل عائلة القيصر بأكملها رمياً بالرصاص في غرفة مقفلة، أسّس لدولة شمولية قاسية بلا رحمة تحكم باسم العمال والفلاحين. ولم يكن لدى لينين أي مشكلة أخلاقية في إبادة خصومه السياسيين، وفي السنوات الخمس الأولى التي تلت الثورة 1917-1922، قتل الرعب الأحمر، وفقًا لتقديرات مختلفة، ما بين نصف مليون على مليون شخص، معظمهم طبعاً من العمال والفلاحين، ما جعل جرائم النظام القيصري، الذي أعدم حوالي 6000 شخص خلال سبع وثلاثين سنة (من 1875 وحتى 912)، تبدو شاحبةً بالمقارنة.
ولكن آثار لينين لم تقف عند حدود روسيا، فحين أورث الرجل الحكمَ لخليفته البربري ستالين، نقل الرعب والدم والجوع إلى جزء من أوروبا، وكثير من دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. ووقف المواطنون الشيوعيون في طوابير طويلة للحصول على قالب زبدة، وسهلت رشوتهم بعلبة سجائر أمريكية أو ببنطال من الجينز. وتحت رايته قَتل بول بوت في كمبوديا ثلاثة ملايين شخص (أكثر من ثلث السكان)، وقتل الماركسي-اللينيني الأثيوبي العنيد مانغيستو هيلا مريام مليوناً ونصف المليون من مواطنيه، بينما قُتل آلاف اليمنيين الجنوبيين في الحرب الأهلية التي دارت بين فصيلين يحملان راية لينين: فصيل علي ناصر محمد وفصيل عبد الفتاح إسماعيل علي عنتر، وكلاهما يدّعي تشبّثه بأفكار لينين.
ومن لينين تعلّم قادة حركة التحرّر الوطني في كثير من الدول أسلوب الدولة الأمنوقراطية، كما فعل صدّام حسين وحافظ الأسد ومعمّر القذّافي، ورغم أنهم جميعاً كانوا يعتقلون الشيوعيين ويعذبونهم ويقتلونهم، إلا أن أسلوب لينين في التخلّص من أعدائه، باسم الشعب والعمال والفلاحين، كان رائدهم في الاستمرار في الحكم ونهب البلاد ومراكمة الثروات.
لقد مرّت مائة وخمسون عاماً على ولادة ذلك الطفل الروسي الذي كبر وغيّر وجه العالم، وصبغه بلون الدم، ورغم أنه عاش في لندن وتمتّع بحماية الليبرالية البريطانية ودعمها، ومنها عاد إلى روسيا عام 1917 في قطار رأسمالي ألماني مقفل، فإنه ل يحمل لهذه الليبرالية أي ودّ، بل إنه بكلّ بساطة عضّ اليد التي أكرمته.
*المصدر: المدن