قبل أسابيع قرأنا الخبر التالي: “تمرّ اليوم الذكرى السابعة لاعتقال المحامي خليل معتوق ورفيقه محمد ظاظا”. يتابع المقال تفاصيل اعتقال خليل معتوق وحياته ونضاله العنيد من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان، دون أن يذكر أي تفصيل عن “رفيقه” بعد الإشارة إليه في مقدمة الخبر.
سألت عددا كبيرا من أصدقائي المتابعين للشأن العام وحقوق الإنسان في سوريا ماذا يعرفون عن محمد ظاظا. لا أحد يعرف شيئا. ولكن للرجل عائلة وأولاد وبيت وأصدقاء. هؤلاء يفتقدون محمد ظاظا في كلّ صباح كما أفتقد أنا صديقي خليل معتوق.
يستحقّ خليل معتوق كلّ ما كتب عنه من إشادة، فالرجل كان مُلكا للجميع، ولم يكن يرى أسرته إلا ساعات قليلة وأحيانا دقائق في اليوم. لم يكن سياسياً ولم يعمل لإسقاط النظام أو تغيير الدستور. لم يحمل السلاح؛ لم يقتل أحداً أو يحرّض على قتل أحد. وهو ليس إرهابياً ولا إسلامياً راديكالياً ولم يتلقّ تمويلاً من أية جهة أجنبية. في الحقيقة، عندما كان المعتقلون السياسيون غير قادرين على دفع مقابل الوكالة، غالباً ما كان خليل يدفع أتعاب الكفالة من جيبه الخاص، أو أن بعضاً من أصدقائه كان يفعل ذلك. لذلك ولغيره، فإن كلّ ما كتبناه عن خليل لا يفيه حقّه. ولكن ماذا عن الرجل الثاني؟ الرجل الذي لا نعرف عنه شيئا، ومضى صحبة خليل، ومثله اختفت أخباره عن أسرته وأصدقائه. نعرف بفضل هيومان رايتس ووتش أنه كان يساعد خليل في التنقّل، فيقوده بسيارته إلى عمله، حيث كانت مشاكل صحية تمنع المحامي البالغ من العمر 53 سنة من التنقل بمفرده. ونعرف أن زوجته اتصلت به الساعة 9:45 صباحاً بتاريخ 2 كانون الأول/أكتوبر 2012، فكلمها وقال لها إنه وخليل على الطريق إلى المكتب. وكانت تلك هي المرة الأخيرة التي يتمكن فيها أحد من الاتصال بالرجلين. لقد اختفيا.
في 20 أيلول/ سبتمبر 2012، كان عبد العزيز الخيّر ورفيقه إياس عيّاش في طريق العودة من الصين بعد أن حضرا اجتماعات سياسية مع القيادة الصينية هناك. ابن زوجة عبد العزيز الخيّر ماهر الطحان تبرّع أن يذهب إلى المطار لإحضار الرجلين. على طريق العودة، يتصل ماهر بأمه المناضلة السياسية والمعتقلة السابقة فدوى المحمود، ليقول لها إن عبد العزيز وإياس معه في السيارة وإنهم في طريق العودة. بعيد هذا الاتصال يختفي الثلاثة. ونحن واثقون في أن حاجزا للمخابرات الجوية قد اعتقلهم وأنهم نقلوا إلى مركز اعتقال “مخابرات الجوية” في المزة في دمشق، ومنه نُقلوا إلى مكانٍ مجهولٍ بعد ثلاثة أسابيع.
يذكر إياس عيّاش وماهر الطحان في كل مقال أو خبر عن اختفاء عبد العزيز الخيّر، عادة في مطلع الخبر، ثمّ يختفيان، مخليَين الساحة لرجل الواجهة عبد العزيز الخير. ومثل خليل معتوق يستحق الخيّر كلّ ثناء وتقدير، فهو مناضل عنيد ضدّ الاستبداد والدكتاتورية، وقد واجه نظامي الأسدين بشجاعة فائقة، كما واجهة جمهرة من غوغاء المعارضة في القاهرة الذين رشقوه بالطماطم. اعتقل ثلاث عشرة سنة، وخرج مباشرة لمتابعة نضاله السياسي. تحمّلت أسرته الكثير من الضغط، فاعتُدي على شقيقته الأستاذة الجامعية سلمى بالضّرب وسط الشارع العام في مدينة اللاذقية واعتقل شقيقه النّقابي والأستاذ الجامعي هارون وشقيقته ندى وابن عمه، وزوجته المدرسة منى صقر الأحمد التي اعتقلت (وهي أم لطفل في السابعة من عمره آنذاك) كرهينة عنه لأكثر من أربع سنوات.
ولكن إياس عيّاش له تاريخ وعائلة ومحبون، ومع ذلك فنحن لا نعرف عنه إلا القليل. هو عضو في المكتب التنفيذيّ لهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطيّ، وقياديٌّ في حركة الاشتراكيين العرب. ولا نعرف عن ماهر الطحان سوى أنه ابن زوجة عبد العزيز الخيّر، رغم أنه هو أيضا ناشط سوري ساهم في الحراك الثوري في بداية الانتفاضة. ونحن نعرف من والدته أنه ذهب لإحضار الرجلين واختفى معهما.
في 11 آب/ أغسطس من عام 2012 اعتقلت أجهزة النظام الأمنية صديقي الفنان المسرحي زكي كورديللو إثر مداهمة منزله في منطقة دمر قرب دمشق. وكان زكي من أبرز المسرحيين السوريين، وقدّم أكثر من 20 عملاً مسرحياً، تمثيلاً وإخراجاً، فضلاً عن مشاركته في العديد من المسلسلات التلفزيونية السورية. ارتبط اسم زكي كورديللو ارتباطاً وثيقاً بمسرح خيال الظل وصار يعتبر الوريث الشرعي لهذا النوع بعد وفاة آخر «المخايلة» عبد الرزاق الذهبي عام 1993.
اعتقل مع زكي ابنه مهيار، الطالب في المعهد العالي للفنون المسرحية، وصديقان له كانا يعيشان في نفس البناء: عادل البرازي وإسماعيل حمودة. وبينما عرفت مهيار فتى صغيرا كان يصحب أباه أحيانا، فإنني لم أكن أعرف أيّ شيء عن عادل برازي وإسماعيل حمودة. بعد بحث علمت أن عادل هو أخو صديقي ورفيقي على برازي الذي اعتقل معي في الثمانينات وبقي في السجن مدة عقد ونصف تقريبا. حين اعتقاله، كان عادل في الثامنة والعشرين من عمره، تخرّج حديثا من قسم الآثار بجامعة دمشق، وكان يدير وكالة للترجمة ويستعد للزواج ويناقش مع خطيبته تفاصيل عرسهما. أما إسماعيل حمودة، فلم أستطع معرفة أي شيء عنه، وبقي بالنسبة لي مجرّد اسم.
في 9 كانون الأول/ديسمبر 2013، دخل مجموعة من العناصر التابعة لجيش الإسلام (أو التي سهّل جيش الإسلام مهمّتها) مكتب مركز توثيق الانتهاكات في مدينة دوما، واختطفوا أربعة ناشطين سوريين مدنيين يعملون في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.
بين الأربعة برز اسم رئيسة المركز رزان زيتونة. ورزان جديرة بأن تُكرّم بدون تحفّظ، فهي ليست رزان ابنة الثورة بل هي إحدى صانعاتها. فمن خلال نضالها المستمرّ في مجال حقوق الإنسان، كمحامية وناشطة، كانت تؤسّس لثورة السوريين العظيمة التي وقف كل العالم ضدّ توجهها المدني وحاول تغيير وجهها الديمقراطي. ومن خلال علاقتها اليومية مع المعتقلين وأسرهم وضحايا نظام القمع والأجهزة الفاشية للنظام السوري، كانت تساهم في رفع معنويات السوريين وتخفيض عتبة تحملهم للظلم وتقبلهم له. وعندما اندلعت الثورات في تونس ومصر وليبيا، كانت رزان فاعلاً رئيسياً في البحث عن الطرق التي يمكن من خلالها نقل التجربة إلى سوريا. ورزان (مع ناشطين آخرين كثر) كانت وراء اعتصام أهالي المعتقلين وأصدقائهم الشهير أمام وزارة الداخلية في 16 أذار 2011، وهو الاعتصام الذي أسهم في إشعال فتيل الانتفاضة السورية التي انطلقت من درعا بعد ذلك بيومين لتعمّ كل المدن والبلدات السورية.
ولكن رزان لم تكن وحدها من اختطفت. وائل حمادة، زوجها ورفيق دربها، الشاب اللطيف النبيل الذي يعطي كلّ وقته للآخرين بدون تحفّظ، والذي كان يعمل في الخفاء، ليبقى نجم رزان ساطعا؛ القيادية السياسية منذ سبعينات القرن الماضي سميرة خليل؛ والمحامي ناظم حمّادي، الذي كان يسكن في قصر العدل لمتابعة قضايا المعتقلين السياسيين في سوريا، مع رزان نفسها ومع خليل معتوق وميشيل شماس وعبد الله الإمام وغيرهم.
لهؤلاء جميعا، ولأسرهم وأصدقائهم وأحبابهم، أقول: هم في القلب، ونحن في انتظارهم جميعا.
المصدر: بروكار برس