هيفين جلقي: كيف تُصنع عجينة البيتزا؟

0

عاجزاً عن النفاذ إلى القبو، يقف الضوء الشاحب للشمس في الخارج ويُطيل النظر إلى الباب، ويدور في ذهنه أنني هنا ولا أريد أن أفتح له، فيزداد شحوبه. يوقظني البرد من ركبتي. أرتجف لمرة، اثنتين، قبل أن أفتح عيني، فيسرّه أنه أيقظني، ويعبر عن ذلك بإصدار الأصوات، ويدور ممرّراً يده الباردة على كل ما في القبو. يشعر البرد بالوحدة، وليس لديه أصدقاء، لذا يبحث دائماً عن شيء يلامسه، عن جسد ينفخ فيه شعوره. لكن هذا لا يمنعني من كرهه. تتصاعد الكراهية من صدري وتصطدم بفرو سوليه الدافئ على عنقي، تُبدّدها لبعض الوقت ثم تعود وتلتئم.

تطالعني الأشباح التي قتلتُها ملتصقة بالجدران بينما أنهض. وأود لو أنني لم أستيقظ. دم الأشباح يجف بسرعة، وبحلول الليل ستبزغ مجدداً من الحائط. تعود الأشباح لعناصر النصرة منذ أرسلوني إلى هنا وأنا أمارس تمارين على القتل كل ليلة قبل النوم.

التعشيب

أفتح باب القبو وأصعد نحو الأعلى بحثاً عن شيء يؤكل، أو ثياب سميكة بمقاسي. ننتقل أنا وسوليه بين الشقق المخلوعةِ الأبواب، غادر أصحابها على عجل منذ سنة أو أكثر. قصف الجيش العربي السوري بطائرة الميغ جامع عبد القادر الحسيني ومدرسة الفالوجة. وقع الباب الحديدي للجامع على المصلّين، وهُرس من حاولوا الخروج. أتذكر الأمر مرفقاً بذكرى عن ملجأ العامرية مثل لوحة مرسومة فوق لوحة. أصيب مئات الآلاف بالرعب، ومن غادروا لم يتسنَّ لهم أخذ صورهم، أو اعتقدوا أنهم سيعودون، لكنهم لم يفعلوا. كان البناء فارغاً ومنبوشاً حين أتيت قبل شهرين، أشبه بمتجر آيكيا ضربته العاصفة. من أتوا قبلي لم يكن بحوزتهم مال، ولا رافقتهم حبيبات ولا أقارب، وفي المطابخ تركوا آثار الرجل العازب: طناجر محترقة تقبع على المجلى، ممتلئة بالماء والطعام الملتصق. غريب أمر الرجال! كانوا يدخلون إلى النار ويخرجون منها ولا يعرفون ماذا يفعلون بطبق متّسخ.

نسمي البحث عن الطعام بالتعشيب: مزيج من التسوق وعملية الصيد. لا نعرف من اقترحه أول مرة، لكنه أصبح بأصالة مصطلح «على المعس» بالنسبة لأهل اليرموك، وتعني أخذ شيء قليل القيمة بالسرّ مثل قداحة. مصطلح تطور أيضاً وصار يشمل أخذ بضعة رصاصات من مخزن أحدهم، ثم تطور أكثر ليشمل اختفاء الأشخاص. تحظى المطابخ الوقت الأطول من روتين التعشيب اليومي. وقفة على باب المطبخ، ونظرة بالأشعة فوق البنفسجية نحو جوفه المعتم لتحديد الأهداف. تطورت عيناي بغياب الكهرباء، وأصبحتا أقرب إلى جهاز الطبقي المحوري، أو كلارك كنت حين ينزل نظارته. ربما لو أمضيت وقتاً أطول في الظلام لاستطعت تحريك الأشياء بعيني. لا يهم كم مرة فتشتَ المطبخ. ستُعيد فعل ذلك كل يوم، خاصة وأن لائحة التسوق الخاصة بك تتغير وتتواضع مع الوقت. في الصيف مثلاً، كنت أبحث عن الطحين ودبس البندورة. أما الآن وبحلول الشتاء فغايتي العثور على قطعة مخلل. أتفقد البرادات للمرة الألف، وأتفحص المرطبانات ذاتها مجدداً، وحين أُخفق بالعثور على شيء يؤكل، أتسلق وأجلس على الرف كما تفعل سوليه أو أقف عليه.

– أوه كابتن ماي كابتن

بعد المطابخ يأتي دور غرف النوم. يكون الظُّهر قد حل ولا زالت هناك بضعة ساعات قبل موعد الوجبة الوحيدة أصرفها أمام المرآة. أبحث في خزائن الثياب عن شيء يلائم مقاسي المتضائل. هذه لا تناسبني ولا هذه. ماذا عن هذه؟ هذه الكنزة سميكة وتصلح كثوب. كيف وصل الشحار إلى ساقي؟ لا أفهم.

أضع يدي خلف أذني:

– ?How do I look

أقولها لسوليه بنبرة أودري هيبرن، فتتثاءب في وجهي. أتقلب على الأسرّة وأتخيل أنني في تلك القصة حين تعود عائلة الدببة وتسأل: «من أكل من صحني؟ من شرب كأس الحليب خاصتي؟ من ينام في سريري؟». ألن يكون مسلياً لو دخلت عائلة دببة إلى حياتنا؟ أو دب واحد فقط، يطرق الباب هارباً من البرد، ونتقاسم معه صحن الشوربة؟ لدى الدب الكثير من الفرو.

وعثرتُ على علبة حليب! 

ركضتُ بها نحو الضوء.

عظيم، لا زالت صالحة!

وحتى لو لم تكن صالحة، سألتهمها. بأي حال، تناولت أشياء أسوأ. طعام من صحن القطة، قطعة حلوى نظفتها من براز الفئران. سوليه تقاوم الجوع بشكل أفضل مني، لا زالت ترفض تناول الأرز، وتذهب للبحث عن العظام في الخارج. وفي اليوم الفائت، اصطادت كنارياً من بيت الجيران، وعادت ببقعة دم على عنقها. أخبرني جارنا بالأمر وهو يضحك، قال لي إنه يعلم كيف تشعر. 

مزجتٌ بضع ملاعق بالماء لسوليه، ووضعت ثلاثة في فمي، واستلقيت على ظهري. التصق الحليب بسقف حلقي وتجمع حول لثّتي. أغمضت عيني ورحت أمرّر لساني على الحليب المتجمع، أتحسس مذاقه الحلو وهو يذوب على مهل في فمي.

«سوليه يا Soleil، يا شمسي الصغيرة، لم يخطر لي حين أحضروك إليّ وسمّيتُك أن لحظة كهذه ستأتي، أنني سأجد نفسي في مكان لا تصل إليه الشمس ولا أستطيع الخروج إليها. الآن عثرتُ على تفسير لسؤالنا من وقت لآخر عن حبنا لك، مع أننا لا نحب أبداً القطط الشقراء. هل قدتِني إلى قصتي يا سوليه؟ هل قدتِني إلى هذا الجحر؟».

وغلبني النوم. 

حين أفقت، تحققتُ من وجود العلبة وخطرت لي أذكى فكرة على الإطلاق!

سوليه، سنصنع المحلاي، سنصنع المحلاي ونبيعها للسوق!

أيها الرضيع، فليتمجد اسمك! 

هل تعرفين كم زبدية يمكنها أن تصنع علبة حليب؟ الكثير يا سوليه، الكثير! لدينا كيلو سكر وعلبة حليب، وأنا واثقة أنني رأيت الوصفة في واحدة من دفاتر الطبخ. سنصنع المحلاي، وسنستخدم السكر الطبيعي بدل الغليسرين، وهكذا سندفع الباعة للكف عن استخدامه لأن الجميع سيفضل المحلاي التي نصنعها، بل سنبيعها بسعر أقل من سعر السوق. سنشتري التبغ وننقذ العالم!

عشرات الأيام، عشرات الصباحات الباردة وأنا أمر بجانب طاولات بيع المحلاي بحي العروبة حين أخرج باكراً جداً لشراء خبز العدس؛ الخبز الذي أقسمت حين أكلته أول مرة أنني لن أفعلها مجدداً. أتشمّم رائحتها مثل كلبة، أستنشق بخارها الحلو الساخن وهو يتسلل عبر الشال الصوف – الذي أخفيت خلفه وجهي كي لا تراني النصرة ولا يراني أحد ممن عرفني سابقاً، فيما أخفيت شعري داخل قبعة، كي لا يرى أحد عاري: عار الإذعان. كنت عملاقاً تحول إلى حشرة تعتقد أن عليها المشي على الصراط المستقيم. وهل تعتقدين يا سوليه أن لدى الحشرة أي وعي حول كونها حشرة؟ لو أنها تعيه، هل كانت لتندفع أمامنا هنا وهناك كي نسحقها بالأقدام ونرشها بالسم؟

الدفاتر

هُرعت للأعلى من جديد، وسوليه خلفي، نجمع دفاتر الطبخ من الشقق الفارغة. تتشابه الدفاتر إلى حد بعيد، مثل كل شيء بشأن صاحباتها. جميعها تبدأ بـ«كيف تُصنع عجينة البيتزا؟» وتنتهي بالمخللات. باستثناء تحريك اللبن، كانت ماما تمنعنا من الدخول للمطبخ، وحين كنا لا نزال في النقطة الطبية، أذكر بوضوح أنني سألت وسيم: هل ينبغي وضع البيض في الماء أثناء السلق أم عليّ الانتظار حتى يغلي الماء؟ تعلمت من دفاترهن طريقة طبخ الملوخية – التي تركنها أيضاً معبأة في أكياس الخيش البيضاء على الشرفات، مع حزم الثوم المعقودة بجانبها. وحين يطرق أحد بابي طالباً طبخة ملوخية، كان رأس الثوم يجعل بهجته مضاعفة. غذّتني الأكياس أنا وآخرين لشهر كامل، وسرّتني فكرة تناول ملوخية من الأيدي المُحِبّة لعدة أمهات. وفسّرتُ إصرار ماما الغريب على وجود المونة بأنها عادة أورثتها الحروب المتتالية على هذا التراب. مع الجوع والإقامة الإجبارية، أصبحت الدفاتر مثل بيوت صاحباتها، جزءاً من التسلية اليومية التي طورها الوقت. صحيح أنه ليس لدي المواد اللازمة لإعداد الأطباق، لكن كنت أتسلى بالتجول وسط أطباق اللحم والأرز والدجاج والشيشبرك وورق العنب. أَشبَه بالذهاب إلى مركز التسوق والنظر إلى الواجهات دون أن تشتري شيئاً.

وبداخل كل دفتر، وُضعت صورة لصاحبة الشقة، ثمانية دفاتر لثمانية شقق لثمانية عائلات، لثمانية نساء، متماثلات بطريقة رهيبة: بوصفات إعداد الطعام، بثيابهن المخصصة للأعراس، والأخرى للبيت، والطريقة التي يتغيّرن بها في الصور. منازلهن بيضاء ونظيفة مثل البصلة، غرفها تفوح برائحة العطلة الدائمة، رائحة يوم الجمعة قبل الثورة. ومع أنني كنت بحالة يرثى لها، أفزعني هذا التماثل، أفزعتني حياتهن وتبدُّلها في الصور، أفزعني أن كل هذا الخراب الذي أصاب البناء لم يستطع أن يغير لونها أو رائحتها، كما لو أنهما من طبيعة واحدة، كما لو أن الخراب أتى من هنا من هذه الثياب النظيفة، من هذه الصور لما تبدو عليه الحياة العائلية السعيدة. عثرتُ عليكِ! ها هي الوصفة السحرية. ما الذي أحتاجه ايضاً؟ النشاء؟ واندفعتُ مثل القنفذ «سونيك» أطير بين الطوابق، وبأقل من ساعة جمعتُ كل شيء أبيض وجدته في البناء، وتكدست عشرات الأكياس البيضاء على طاولة المطبخ، ورحت أضع إصبعي في كل كيس وأتذوقه بحثاً عن النشاء. مثل بابلو إسكوبار.

استغرق طبخ النسخة التجريبية ساعتين، وحين عاد ياسر من القدم، كنت قد سكبتها في الزبادي البلور. وانهال عليّ بالإطراء! كنت دائماً أعثر على أشياء في مطابخ عشّبها أصدقائي قبلاً، وكانت هذه العلبة تتويجاً لمهارتي في التعشيب.

– أين عثرتِ عليها؟
– بداخل الصوفاية!
– ربما بعد الحصار نرسلك لتنقّبي عن النفط!
– هات العلبة، أنت تأكل رأس المال

رحتُ أشرح بفخر الخطة وتقسيم العمل: عليّ الطبخ، وعليه البيع. كنت مزهوة بنفسي أمام الملازم أول المنشق عن حركة فتح، الذي لطالما اتهمني بأني ورفاقي لا نُجيد سوى التفلسف والتنظير. أخذ ياسر عيّنات من المحلاي، وعاد بعد ساعة من السوق باتفاق مع البائع اليلداوي. اتفقا أن يحضرها له أول الصبح كي تكون جاهزة للبيع ما إن يستيقظ الناس، ما يعني ان الطبخ سيتم خلال الليل، وأن على المحلاي أن تكون جاهزة بحلول الفجر حين يعود هو الآخر من القدم.

أحضرت أكبر طنجرة تيفال وجدتُها في البناء، ولم يكن ممكناً إعداد شيء في الخارج بسبب الأمطار، لذا حملتُ البلوكات إلى داخل مطبخ البيت الصغير، القبو الآخر بجانبي. وكان هذا البيت مختلفاً عن كل البناء، وبدا وكأن الأنباط حفروه في جوفه. كانت تسكنه امرأة عراقية شابة وفقيرة، وبدا من وجهها أنها طيبة وقاست الكثير، وجعلت الظلال الملوَّنة فوق جفنَيها الإرهاق الذي تحاول إخفاءه أكثر وضوحاً.

ولم أعثر فيه على أي شيء يؤكل، لكن ثيابها ناسبتني: «سامحيني، أنا على وشك أن أفسد مطبخك».

والآن حان دور التحطيب، والعودة إلى غرف النوم لجمع أدراج الخزائن. تتميز الأدراج بسهولة كسرها: تُثبَّت على درج البناء، وضربة واحدة بالقدم نحو القلب الخشبي الرقيق كافية لتتهاوى الأطراف. يتطلب ذلك جهداً نفسياً في بداية الأمر. نعلم كم يكلف الرجل شراء غرفة النوم: ربما دخْل جمعية، ربما استدان من أصدقائه، وربما لم يسدّد ثمن الغرفة بعد. وحتى لو لم يكن أي شي مما ذُكر، تظل فكرة تحطيم غرفة نوم زوجين أمراً صعباً على النفس.

جمعتُ عشرين زبدية لسكب المحلاي، وبدا لي غسلها سيتسبب لي بسكتة قلبية. حتى ذلك الحين، كنت لا أستطيع تحمل برودة الماء. يتميز الماء في القبو بشدة برودته. وأنا أدْعك الثياب على أرض المطبخ، كانت يداي تتحولان إلى اللون البنفسجي لمخلوقة فضائية، ويبرز اللون الأزرق للعروق بطريقة تجعلني أتوقف للتحديق فقط بما يحدث لأصابعي مع فقرات من العويل والبكاء.

المحلاي 

أنهيت إعداد الموقد الحجري، وتوهَّج ظلام المطبخ بضوء النار، واندفع الدخان مرتبكاً يتحسّس طريقه الأعمى نحو شباك القبو المستطيل، مقاوماً الهواء البارد الذي أخذ يحاول دفعه إلى الداخل. جهّزتُ الزبادي على الصينية، ووضعتُها على الأرض مع علبة القرفة. سكبت الحليب والنشاء والسكر في الطنجرة، وجلست أمام القِدر وبدأت التحريك. أخذتِ النار تُذوّب أصابع قدمي المتجمدة، وشيئاً فشيئاً تُجفّف الثياب المبلّلة الملتصقة ببطني، ورحت أتأمل وجه القِدر أثناء التحريك البطيء. على مهل، غابت عيناي في اللون الأبيض المضيء للقِدر، ورُحتُ أفكر بالسعادة التي أفلتت مني وذابت كالسكر في الحليب.

قبل أشهر، كنت أتهيأ لتعلم استخدام السلاح. كان التذمر على لسان الجميع، والغضب على لسان كمشة الرفاق في الكتائب المتفرقة؛ غضب من أداء القادة، من السرقات، من غياب التنظيم والخلافات بين كتائب الحجر الأسود واليرموك، والأهم، استياء من أننا لم نكن نُحرز أي تقدم باتجاه الشام، ومن خسارة نقاط كلفت أرواحاً. وحين أصبح دخول الجيش موضوع نقاش، ومع وجود عمو أبو علي سلمية إلى جانبنا، بدا أن الوقت قد حان كي نحظى بمجموعتنا الخاصة، وصار لزاماً علي أن أتعلم حماية نفسي وغيري. كان قد مضى نحو 9 أشهر على تحرير المخيم، ورغم أنني كنت محاطة بشتى أنواع السلاح في أماكن السهر في النقطة الطبية وأينما كنت، بدا لي حملها نوعاً من اللعب واللهو الذي لا يتناسب مع جدية الموقف. ولا أعلم من أين أتت أو كيف تسللت إلى عقلي فكرة أنه لا ينبغي أن أحمل السلاح ما دمت لا أنوي استخدامه. كان أمراً جديداً لا أملك بعد أي فلسفة حوله، سوى أن لا أفعل كما يفعل من حولي. مرعي اقترح البولونية لأن وزنها أخف من الروسية، وماهر قرر أن يعثر لي على «تبوكية» لأنها أخف. قال لي مرعي: سأعلمك ما لا يعرفه أحد من الجيش الحر، مزهواً بكونه ملازماً أول منشقاً عن جيش التحرير. وتلقيت درسي الأول: الفك والتركيب.

ثم أصيب مرعي خلال معركة البلدية، وظل لأيام في المستشفى فاقداً الوعي، يفتح عينيه ويطلب إلي إحضار قلمه الذي يحبه، أو سواره، أو كنزته، فأُهرَع أنا لإحضارها، وأجلس أمامه بانتظار طلبه الجديد مثل الجرو. تسببت الإصابة بشظايا عظمية ثلاثة داخل رأسه، أشار إليها آدم بالقلم: هل ترينها؟ وحين خرج، لم يقبل تناول الدواء. كان مصراً على أنه بخير، لكنه لم يكن كذلك. صار يشرد وهو في منتصف الحديث، وينظر الي وتدور عيناه في محجريهما، مُعيداً إلي ذكرى قديمة لطفلة وُلدت حديثاً بدماغ متضرِّر، إذ ضغطت أمها برحمها على رأسها اثناء الولادة وباتت أقرب إلى ملاك أعمى. وبينما أنظر في عيني مرعي، ولا تتعرفان علي، ترنّ في أذني تلك الجملة: «لن تعيش طويلاً».

وحين لم يعد بوسعه إكمال الدروس، اقترح ياسر اسم أبو حسن الليبي، والذي كان من درعا في الواقع ومن سكان حي التقدم، اعتُقل في الحملة التي أتبعت الحرب على العراق وسُجن في صيدنايا، ثم خرج وتوجه إلى ليبيا لقتال القذافي. التقيتُه أول مرة أثناء واحدة من جولات البحث عن إبر تينام. لم تكن لديه الإبر، لكنه أعطاني خمسة آلاف ليرة كي أستطيع شراءها. قال لي: هناك كانوا يسمونني أبو الحسن السوري. وقدم لي يومها سجائر بالشوكولا. ولم أكن وحدي من يقصده لأجل المساعدة. كان يساعد أي شخص يطرق بابه، وخاصة النساء اللواتي فقدن أزواجهن. وحين قصدته من أجل تلقي التدريب، وطوال الطريق نحو معمل بردى – ميدان التدريب – كان يدندن بأغنيات جورج وسوف ونانسي عجرم، بحيث لم أصدق لاحقاً أنه سيكون في طليعة المنقضّين علينا.

اتفقنا على أن أعود حين أحصل على عدسات طبية، ولم أعد أبداً. منذ أعلنوا تشكيل الرابطة الإسلامية وأنا أعيش متوارية عن الأنظار. حدث ذلك بعد أن لوح أوباما بتوجيه ضربة للنظام بسبب قصفه الغوطة بالسلاح الكيماوي، ثم غيّر رأيه. توقع الجميع سقوط النظام، وتلهفت الفصائل الاسلامية للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة. أُعلنت تشكيل الرابطة الاسلامية بهدف «محاربة المفسدين في الأرض»، وهاجمت الرابطة – على رأسها النصرة وأكناف بيت المقدس – مقرات الفصائل في ساحة الريجة، واعتقلت القادة واللصوص ونهبت سلاحهم، وأحرقت النقطة الطيبة بالمولوتوف. الحمقى الذين أحرقوها لم يعلموا أنني كنت قد نقلتها إلى بناء آخر بسبب القذائف، سُرق بدوره قبل أن يأتوا هم. كيف لهم أن يعلموا؟ لربما كانت تلك أول زيارة لهم إلى خط الجبهة. اعتقلوا وسيم وياسر، ولم يعد بوسع نيراز وعباسي القدوم إلى المخيم إلا متسللين. وحين لم تقع الضربة الأوبامية، ابتدعوا كذبة «هروب السجناء» بعد شهر من الاختباء انتظرت فيه مع حسام خبر إعدام الجميع. شهر، فقدت فيه التراك دون أن يُتاح لي رؤية وجهه لمرة أخيرة أو لمس يده، وشهرين من الرعب على حسام. ليلة واحدة انقلب فيها الضوء الذي كنت محاطة به إلى ظلام، كما لو أن أحداً استيقظ في أحد الصباحات وقرر تغيير نص الحكاية بجرة قلم.

ومن فوّهة الخوف التي فتحتها الرابطة في وجهنا مجدداً، خرجت كل الشرور، الكذب والنفاق، والاتفاقيات والمحسوبيات، وداعش. لم تكن المشكلة الحجاب بحد ذاتها، بل عودة الخوف إلى صدور الناس، عودة الخوف صنعت في عظامي حُفَراً من الكراهية. لو أن أوباما أبقى فمه مطبقاً منذ البداية لأخذت حياتنا منحىً مختلفاً.

ارتسمت ظلال البخار الصاعد من القِدر على الجدار، وأخذت تتمايل وتتداخل بفعل الهواء مع ظلي وظل سوليه، ورحت أتذكر مكان التدريب: ظلي تحت حرّ الشمس، وأنا أنظر إلى المساحات الشاسعة من التراب ولَمَعان الشمس عليها، وكيف ستجعل جسدي قوياً. ولأن الفانيليا كانت حلوة، والهواء كان بارداً، كانت رائحة تلك الأيام تنبعث من الحليب قوية وواضحة وعذبة إلى درجة يمكن تذوقها.

تلألأت الزبادي البيضاء في عتمة القبو، وفاح شذى القرفة وهي تلامس وجه المحلاي الساخن. وأخذت أُعدها: 

«واحدة.. اثنتان.. ثلاثة.. أربعة.. عشرة.. خمسة عشر.. عشرون.. خمس وعشرون».

ملأ ياسر بالزبادي سحارتين من البلاستيك، لا أعلم أين عثر عليها، بينما رحت مع سوليه نتلذذ بالقحاطة الشهية للمحلاي المحروقة، والمتجمعة في القاع وعلى محيط القدر بعد تبخُّر الحليب. حملها ياسر للبائع الذي أرسل طالباً المزيد، وعاد ومعه أربعة سجائر! كنا سعيدين مثل والتر وجيسي في «بريكينغ باد» حين باعا أول طبخة من «الكريستال ميث». ورغم ذلك، لم أستطع إنهاء سيجارة واحدة بمفردي. كانت العادة أن يتقاسم السيجارة 4 أشخاص فأكثر.

ليلة تلو الأخرى، لم أعد أتألم من برودة الماء حين أغسل الزبادي، ولم أعد أكترث أن تمتلئ ثيابي بالماء. دفقة الدفء التي سأحصل عليها حين أجلس أمام القدر جعلت البرد محتملاً. غيرت المحلاي مذاق أيامي. صرت أحرك الحليب والنشاء، وأحرك معها ذاكرتي، وأعثر فيها على أشياء غير النصرة. صرت أتخيل أنني تلك الفتاة من القصة التي تمتلك قدراً سحرياً، وأنني نسيت الكلمات السحرية، فاستمر القدر بصنع المحلاي دون توقُّف. تخيلت المحلاي تتدفق من القبو نحو الخارج، لتملأ الشوارع والطرقات، بحيث يُضطر أهل المخيم لتناولها كي يتمكنوا من المشي كما في الحكاية . كان خيال المخيم الغارق في بياض المحلاي يُعيد إليّ الشتاء الماضي، حين أتيت مع سوليه وقد غطى الثلج المخيم وبدا للقادمين من الخارج مثل النفق الأبيض الذي يعبره المرء من الأرض الفانية نحو حياة جديدة سماوية.

المرارة

نفذت علبة الحليب خلال أسبوعين، لكنني استطعت شراء الحليب وإكمال العمل لأسبوع ثالث، ثم ارتفع سعر السكر ليصل إلى عشرة آلاف، واختفى الحليب وصار باعة المحلاي يستخدمون مصل الحليب المالح بدلاً منه ويُحلّونه بالمزيد من الغليسيرين.

صفر لي، 1120 للعالم.

ولم نفهم من أين يأتي كل هذا الغليسرين؟ ولِمَ يمتلئ السوق بكل ما هو مالح عدا الخبز؟ أصناف من البزر، أنواع من المخلل، عربات من البودرة المالحة… انخفض سعر السلاح وارتفع سعر كل شيء آخر، واشترت النصرة معظم بنادق شبان الجيش الحر، ومع كل بندقية بيعت أَخذت مساحة المحرَّر تنحسر لصالح النظام، كما لو أن كل بندقية بحوزتهم كانت شبراً من جنوب دمشق. وشاعت الأحاديث عن سجون النصرة التي تقدم البطاطا، وعن الحطب في مضافات قادة الأكناف وعلب تبغهم الممتلئة، وعن دماء رآها الناس تجري تحت اقدامهم كالأنهار في أحياء الحجر الاسود، أراقتها داعش.

ازدادت نوبات الجوع، والأرق، وشعوري بالذل والمهانة، ومعها ازدادت خيالاتي دمويةًـ صرتُ أُمسك برأس العنصر المتخيَّل وأضربه بالجدار، أو أضغط على عنقه الى أن يتفتّت في يدي… إلى أن أرتني الخيالات الشيء الذي أردتُه طوال هذا الوقت دون أن أعي: صرتُ أراهم يبكون ويعتذرون مني، فأُشفق عليهم، فأغضب من إشفاقي وأحاول ركله بعيداً عن قلبي، فيُمسكون بيدي ويقولون أنهم آسفون وأنهم يعلمون ما الذي فعلوه بنا وما الذي سببوه لي.

يقال أن هناك عتبة من الألم حين يبلغها المرء يردّ فيها الجسد بالغيبوبة، درجة من الألم الخاوي الساكن، ألم أعمق من الكراهية، درجة نزلنا إليها تحت طبقات من لحم الحمير والكلاب والقطط، طبقات من المخلل والغليسرين والفجل والصبار والحشائش المُرّة مُلئت بها الحُفَر في عظامي.

ومن على السطح الذي صعدت إليه كل يوم، في الشتاء والربيع والصيف، شاهدت كل شيء أحببته يوماً يتعرض للتعذيب. كل من أحببتهم يوماً يستيقظون كل يوم ويُرغَمون على قتل الشهية كي لا يُجَنّوا أو تنهار أجسادهم.

كنتُ قد أتممتُ الخامسة والعشرين، وكان بشار الأسد في طريقه ليتوَّج رئيساً لسوريا لولاية ثالثة.

*موقع الجمهورية