هيفاء بيطار: مقاربة وجدانية

0

الصمت تواطؤ مع إنعدام الضمير، وخيانة للمظلومين والمضطهدين، لذا وبعد تردد وبشكل أدق بعد حسابات عديدة قررت أن أكتب.

سأحكي القصة ببساطة، ففي بداية عام 2021 كتبت الكاتبة التي تقترب من عقدها الثامن – وهي لديها زاوية أسبوعية ثابته في إحدى أهم الجرايد العربية-  كتبت أول أيام 2021 مقالاً بعنوان “عام 2020 كان عام ألم ونحس” . راقني العنوان وبدأت القراءة، وصُعقت فالسيدة الكاتبة بشهرتها الواسعة في السبعينات كتبت أربعة أسطر فقط عن الألم السوري وعن معاناة السوريين وتفجير المرفأ في بيروت.. مجرد أربعة أسطر، ثم بقفزة ساحر وبدون أي تمهيد أو إيجاد ربط بين عام 2020 الأليم ، بدأت بالإستفاضة عن عشيقات رؤساء وحكام فرنسا- الأحياء منهم والأموات – ويا لثقافتها الموسوعية  لم تغفل اسم عشيقة لأي رئيس فرنسي، حتى أنها تحفظ تواريخ ميلاد العشيقات. المقال الطويل يدور بأكمله حول عشيقات رؤساء وحكام فرنسا حتى أنني تعجبت من العنوان إذ كان من الصدقية أن يكون العنوان “عشيقات حكام فرنسا” بدل العنوان “عام 2020 كان عام الألم” .

لم أعلق رغم إحساسي بالخزي، لكن في الأسبوع التالي أتحفتنا الكاتبة إياها بحلقة ثانية لم تتطرق فيها على الإطلاق إلى الألم السوري، أو حتى تفجير المرفأ، أو كورونا، أو كل ما هو مُفجع وكارثي في عالمنا. مقالها الثاني كان إستفاضة طويلة جداً في التحدث عن عشيقات ملوك وحكام فرنسا!

لا أعرف أهمية هكذا موضوع في هذه الظروف خاصة أن معظم من تحدثت عنهم ماتوا، وختمت مقالها بأن ماكرون أكثر إخلاصاً لزوجته رغم أنها تكبره بحوالي ربع قرن، أيضاً لا أعرف إلى أي حد هي متأكدة من إخلاصه بغض النظر إن كان مخلصاً أم لا.!

يومها كتبت لرئيس تحرير الصفحة التي تنشر فيها الكاتبة المتخصصة بالعشيقات والرؤساء الفرنسيين بأنني أتعجب من نشر هكذا مقالات وأنت سوري وتعرف أي جحيم هو الألم السوري..! وكنت قد أرسلت له مقالين لينشرهما – رغم أنه قال لي نحن لا ندفع مالاً إلا للكتاب الذين نستكتبهم – ووافقت ونشر لي مقالي ” دروس للسوريين”، ولم ينشر المقال الثاني وكتب لي بأنه ليس المسؤول عن نشر مواد الكاتبة إياها ولا سلطة له على قرار نشرها بل ثمة من هو مسؤول عن ذلك.

أعترف أنني قارئة نهمة، وقد كتبت أكثر من مئتي مقال عن روايات وكتب حتى أن بعض المجلات كانت تكلفني شخصياً لأكتب عن كتب معينة مثل مجلة الدوحة التي طلبت مني مادة عن كتاب “علم النفس التطوري”  وهو كتاب ضخم من 1200 صفحة من القطع الكبير لكنه يضم معلومات تشريحية دقيقة جداً عن الدماغ البشري، وتطوره ونشأة اللغة.. الخ.

قرأت الكتاب وكتبت عنه مقالاً منشوراً في مجلة الدوحة القطرية. أنا التي جمع الأستاذ الرائع حسان عباس معظم مقالاتي بعد 2011 في كتاب وضع له عنواناً ” أن تكون إنساناً “، وكنت لسنوات أنشر مقالات عن روايات في جريدتي الحياة والسفير والدوحة والعرب القطرية والدوحة القطرية.. لكن الأولولية في حياتي الآن، وبما يُمليه علي ضميري أنا التي عشت كل عمري في اللاذقية ولم أتركها إلا منذ سته أشهر أن أنقل وجع السوريين الذي كنت في قلب مشهده. أعترف أنني لست كاتبة سياسية لكنني أملك الجرأة والنزاهة والمسؤولية لنقل أوجاع الناس، حكيت عن يحيى الطفل ذو الخمس سنوات الذي يقضي كل وقته نائماً هرباً من واقع وحشي القسوة بمعدة جائعة، رأيته غافياً على الرصيف فيما أمه تحمل رضيعاً وتقف في طابور توزيع أرغفة خبز لا يأكلها إلا الدواب.

حكيت عن أطفال سوريا المتسولين من عمر 3 سنوات إلى عمر 10 سنوات المدمنون على مادة الشعلة ( وهي مادة لاصقة تسبب تخريب خلايا الدماغ عند الأطفال خاصة) فيكونون في حالة ذهول.. يومها اتصل بي ضابط رفيع المستوى، وهددني بطريقة لبقة بأن أكف عن هذه الكتابات وأنه من المعيب نشر الغسيل الوسخ (العبارة الموحدة لدى أجهزة الأمن كلها)، ومرة رأيت طفلاً بعمر 4 سنوات يعبث في حاوية قمامة تابعة لمشفى الأسد الجامعي ( وزبالة المشافي خطيرة جداً بسبب الجراثيم ) وكان يأكل بقايا بطيخة، فصورته ووضعت صورته على الفيسبوك، وفي اليوم نفسه اتصل بي أحد المسؤولين الأمنين وقال لي: لا يحق لك وضع صورة هذا الطفل على صفحتك لأنه حين يكبر سيشعر بالعار وتنهار نفسيته .!

يا سلام.. يومها فقدت أعصابي، وقلت للضابط “ليذهب فرويد ويونغ إلى الجحيم، هل سيشعر طفل ينهش بقايا بطيخة من زبالة مشفى الأسد بكرامته! أليس من الأجدر بك أن تجيب عن سؤالي الذي قرفت أن أسأله: أي عار أن يأكل طفل سوري من القمامة وما أكثرهم، وتدعي أنك حريص عليه حين يكبر ويرى صورته فيحس بكرامته مُهانة!

 علينا أن نعيد تعريف الكرامة في سوريا، فأنا التي أتمزق وجعاً على منظر أطفال سوريا في مخيمات النزوح، وفي فقرهم المدقع، وفي حياة الظلام التي يعيشونها يدرسون على ضوء شمعة صار سعرها 1000ليرة، وعلى فساد التعليم، وعلى سوء التغذية الذي سيؤدي إلى أضرار جسدية عضلية ودماغية ونقص نمو أنا بهذا الكلام  أنشر الغسيل الوسخ أما الطفل الغاطس في حاوية القمامة فالدولة حريصة على كرامته في المستقبل حين يجد صورته – هذا إن امتلك موبايل أو أنترنيت –  إنها حيلة لا تقنع أي إنسان.

أجابني: اكتبي مقالات ثقافية وابتعدي عن السياسة.

هل الطفل يحيا بالسياسة.. هل الطفل الذي يأكل من القمامة سياسة.. هل المتسوولين الأطفال الذين أدمنوا رغماً عنهم على مادة الشعلة سياسة.. هل الجوع سياسة.. هل شعب الطابور سياسة.. هل تمني الموت ( نيالو مات وارتاح ) سياسة.. هل عبارة (عايشين من قلة الموت) سياسة.. هل انتظاري لأربع ساعات في فرع أمني في اللاذقية حتى تكاد أعصابي تنهار كرامة.. هل منع الناس من السفر كرامة.. هل التقارير الأمنية الكيدية كرامة.. هل راتب الإحتقار 50 ألف ليرة كرامة.. هل تقصف فرائص الناس رعباً لمجرد إستدعاؤهم أو السؤال عنهم بين جيرانهم وأصدقائهم كرامة..هل الخوف والذعر ( وللحيطان آذان ) كرامة..!

كاتبة عشيقات ملوك فرنسا مرحباً بها وتقبض بالآلاف ربما بينما أنا وأمثالي المكتوين بوجع شعبنا ممنوعين من الكتابة، ويقترح علينا أصحاب هذه الجرائد والمواقع أن نكتب في الثقافة.

 ليتك سيدتي تتابعين كتاباتك العشقية، فثمة مسؤولين سوريين كبار جداً وفوق القانون حين أجبروا على مغادرة سوريا اصطحب أحدهم معه 19 عشيقة إلى باريس أحدهم – وأظن الكل يعرفه- واشترى جزيرة في إسبانيا، ودخل بنسبة أكثر من 8 % في النفق بين باريس ولندن.

أنتظر منك أن تتحفينا عن عشيقاته. خلص الكلام عن العار العربي.

*خاص بالموقع