منذ ثمانية أشهر وأنا أعيش في باريس التي لا تخصني لأن روحي في اللاذقية وسوريا ولأن وجع الحنين قاسي جداً وأحسه يُشبه الحرق ، لكن المشاكل التي تعرضت لها وإستدعائي مراراً لفروع الأمن ومنعي من السفر وكوني وحيدة تماماً في اللاذقية بمعنى أن لا أحد يدعمك حين يطلبك فرع أمني إذ تصبح أنت وفرع الأمن بحالة تماهي ، أعذر هؤلاء الخائفين .
اليوم أنا في باريس اعتقدت أنني سأدشن عهداً في الحرية وأن أكتب بحرية وكما يمليه علي ضميري وإصراري أن أكون شاهدة عصر وأن أكتب وجع المظلومين والمسحوقين من أحبتي في الداخل السوري وأنا على تواصل دوماً معهم ، لكنني أعترف بكثير من الألم والخجل أنني لم أجرؤ على وضع فيلم ( تدمر ) الذي أنتجه الشهيد لقمان سليم على صفحتي ، لم أستطع حتى أن أشارك المقابلة الرائعة على تلفزيون فرانس 24 في برنامج ثقافة مع لقمان سليم . وثمة مقالات كثيرة أهم بمشاركتها على صفحتي أكتشف بعض الأسطر فيها تعيدني لأيام الرعب في اللاذقية فتسري في جسدي رعشة الخوف وأقول إياك أن تشاركي مقالات خطيرة تتجاوز الخطوط الحمر التي وضعتها الأجهزة الأمنية والنظام . هل أنا جبانة ! أم أنني بحاجة لأن أغوص في أعماق روحي وأكتشف مكامن الذعر المُتخمر فيها .
بداية أحب أن أحكي بعض التفاصيل التي قد لا تبدو مهمة كثيراً لكنني أجدها فائقة الأهمية الآن ، فحين كنت لا أزال في اللاذقية وأريد أن أتصل بأصدقاء لي خارج سوريا اضطروا أن ينزحوا من وطنهم وصُنفوا بأنهم أعداء للنظام مع أن كل نشاطهم كان كتابة وجدانية على صفحاتهم على فيس بوك ، يتصل بي أحدهم ويقول لي : لا تتكلمي على سكايب فهو مُراقب من قبل الأجهزة الأمنية ، أسأله يعني ممكن نحكي على واتس ؟ يرد : أظن الواتس أيضاً مراقب
أسأله ما العمل ؟ يقول لي حاولي تحكي على ( توك توك ) أقول له لم أسمع به ، يقول لي اذهبي إلى أي أحد يبيع موبايلات ينزل لك برنامج توك توك فهو آمن ، وبعد مدة يقول ثمة برنامج جديد هو ( إيمو ) على الأغلب غير مُراقب وأجد نفسي أتجول من محل لبرمجة الموبايلات إلى محل آخر أطلب منهم تنزيل برامج لا تستطيع أجهزة الأمن مراقبتها ( مع أنني أشك بالموضوع ) صار لدي أكثر من ثمانية وسائط إتصال بأسماء عجيبة غريبة على أساس أنها آمنه . أحس بمدى المهانة أن تعيش وأنت مُراقب وأنت تضطر لإبتكار كلمات للتمويه والمواربة حتى تتحدث إلى صديق أو صديقة خارج سوريا .
الآن في باريس أتساءل إلى أي حد أكتب بحرية ؟ وأي شعور مؤلم حين أنشر مقالاً ما مثل مقال ( التعهد حيث أحكي فيه أن كل من يعيش في سوريا عليه حين تستدعيه الأجهزة الأمنية أن يكتب تعهداً يمليه عليه عنصر أمني بأن يمتثل للأوامر أي أن لا أكتب في الجرائد التي لا يطيقونها أو في مواقع الكترونية عديدة ) وأمتثل ( ككل سوري وأكتب تعهداً وأنا أتساءل لماذا كل هذا الذل ! في وطننا ؟ لماذا نُعامل كخونه ونمنع من السفر ؟ أكثر ما كان يؤلمني رسائل على الخاص من أصدقاء أعزاء يقولون لي : ما هذه المقالات التي تكتبينها ! يعني أنت مش ناوية ترجعي إلى سوريا !! فأحس أن قلبي يهوي إلى الأرض يئن كحيوان ذبيح ، أسألهم : بل سأرجع سوريا وطني وبحر اللاذقية الذي كان شاهداً على معظم كتاباتي وأنا في مقاهيه البحرية البسيطة ساحرة الجمال كاتم أسراري وصديقي وشريكي في الكتابة . لكن الأحبة من أصدقائي يقولون لي : المقالات التي تكتبينها خطيرة وعلى الأغلب لن تتمكنين من العودة إلى سوريا ، فأرد بلهجة إستعطاف محاولة أن أغويهم أو أقنعهم أن يقولوا العكس : لكنني لا أكتب سوى الحقيقة وأنا لست كاتبة سياسية بل كاتبة وجع الناس وأحكي بصدق وشرف ونزاهة عالية عن أحداث عشتها وشهدتها . فيتهمونني بالسذاجة وبأنني حالمة ، وفي الأسابيع الماضية حين تم إعتقال مذيعة تلفزيونية موالية للنظام ( لا أعرف بأية حجة ) وهي في الأمن الجنائي واعتقال طالبة صيدلة 20سنة في الأمن الجنائي بسبب كتاباتها على الفيس مع أنها لم تحك سوى عن الفقر والفساد ، تعزز لدي شعور أنني مطرودة من وطني وأن قول الحقيقة جريمة ، فالحقيقة نسبيه وما أعتره شهادة حق وكلمة شرف حين أحكي عن شعبي السوري العظيم الذي يتحمل كل أنواع الظلم والإهانه والخوف ، شعب يعيش في الظلام بالكاد تصله الكهرباء 3 ساعات في اليوم كله ، أصدقاء أحبة أكون أتحدث معهم بمواضيع عديدة وتقول لي إحداهن اكتبي أن سعر كيلو العدس صار ب 5000ليرة سورية ثم تنبهني ألا أذكر إسمها وتقول لي بعفوية أهل الساحل ( يا ويلي يا ظلام ليلي إذا عرفوا أنني أخبرك عن الأسعار ) ، وفجأة تقطع الحديث الحميم بيننا وتقول لي الأفضل أن أقطع الإتصال من يدري ربما خطي مُراقب . فأتذكر الهاتف الذي تلقيته الواحدة بعد منتصف الليل من أحد عناصر الأمن يقول لي : شرفينا غداً إلى فرع أمن الدولة فأسأله خير شو القصة ؟ فيرد بغضب : لا أستطيع أن أقول لك فالتلفونات مراقبة !!!يصيبني الذهول فأساله : مش أنتم اللي تراقبوها ؟! فيرغي ويزبد من الغضب ويقول هذه إهانة لا يسمح بها .
حتى هنا في باريس لا أجرؤ أن أشارك بفيلم تدمر للشهيد لقمان سليم ولا بأفلام أخرى ، لأن الخوف الذي عشته طوال عمري في اللاذقية صار كالوشم لا يمكن إزالته إلا بعملية جراحية وقد تكون نتيجة العميلة النجاح لكن المريض ( أنا قد يكون مصيري الموت ) هكذا شكل الحرية في سوريا ومن يجرؤ أن يحكي بحرية مجرد قصصاً بسيطة لشعب الطابور الذي يهدر وجوده للحصول على أرغفة خبز تعافها الدواب أو لشعب تحول إلى خفافيش الظلام كما يصف الكثيرون أنفسهم على صفحات الفيس بوك بسبب الإنقطاع الدائم للكهرباء هؤلاء يُتهون بأنهم يوهنون الشعور الوطني أو القومي للشعب السوري الذي هُرست مشاعره وضمرت تماماً من هول الذل والإنتظار للحصول على رغيف خبز أو معونات غذائية أو جرة غاز هل يملك هؤلاء مشاعر بعد كل هذا القهر وما نوع مشاعرهم التي يدفنونها في الصمت فتسبب لهم قرحة في الروح لأن للحيطان آذان في سوريا . المطلوب في سوريا أن تنظر لهضبة قمامة وتراها حديقة ساحرة الجمال فيها كل أنواع الورود والزهور تعبق بالشذى ، أما أن تكون مخلصاً لما ترى وتكتب أو تضع صورة طفل يأكل من القمامة أو امرأة منهمكة في البحث عن شيء يؤكل في حاوية قمامة أو تصف الأجساد المتلاصقة التي تنام في الشوارع في عتمة الليل بعد أن حشرت نفسها في كيس زبالة فهذه جريمة لأنها توهن الشعور الوطني .
هل علي ( وعلى كل سوري ) أن يُخضع نفسه لدورات تدريبية ليتحرر من الخوف السوري المُروع ، خوف ألا أستطيع العودة إلى وطني لأنني أكتب قصص الأطفال الجياع الذين يصرخون منذ الصباح الباكر في المدرسة ( جوعانين جوعانين ) ويبدو أن أهلهم لا يملكون حتى أن يعطوهم رغيف خبز فتضطر المدرسة والمديرة وبعض المدرسات أن يجمعن مبلغاً من المال ويرسلون آذن المدرسة ليشتري للأطفال خبز وحلاوة ( تماماً مثل طعام السجناء ) كي لا يُغمى عليهم من الجوع وكي يتمكنوا من فهم برنامج تعليمي كارثي .
أيعقل أن تكون ردة فعل كل أصدقائي ومعظمهم من شرفاء المثقفين ألا أكتب مقالات كل ما تحكيه حقيقة عيش السوري وقصص عن أطفال وأمهات ثكالى وشباب تشوهوا وصاروا معاقين بسبب الحرب ! لا أحد يقول لي يعطيك العافية بل يصرخون بي : يعني أنت لا تنوين العودة إلى سوريا .
حتى اللحظة جسدي يرتعش من القلق هل سأشارك فيلم تدمر للقمان سليم الإنساني المثقف المبدع العظيم على صفحتي على الفيس أو أكتب عنه .
وشم الخوف المتغلغل في تلافيف دماغي منذ طفولتي كبير لكنني سأستأصله مهما كان الثمن باهظاً حتى لو اضطررت أن أمسك فلقتي دماغي وأرميها خارج جسدي .