الأحداث التي وحّدت السوريين منذ انطلاق ثورتهم تكاد تكون نادرة، من هذه الزاوية تحديداً تستحق حالة حاتم علي، أو لنقل حادثة وفاة المخرج السوري حاتم علي، الوقوف قليلاً عندها.
كان حاتم علي مخرجاً مميّزاً، وهذا ما تشهد عليه أعماله بشقيها: التاريخي والمعاصر. وميزة علي الأساسية هي في اختياره للنصوص (يمكن استثناء مسلسلي “عائلتي وأنا” من تأليف حكم البابا، و”العراب” من تأليف زاهي وهبي من القائمة) وهي نصوصٌ بسيناريوهات محكمة سواء لناحية بناء الشخصيات أو لناحية تطورها الدرامي. وهي وإن كانت نصوصاً ممتازة درامياً إلاّ أنّ المعاصرة منها كانت أقرب إلى المحافظة، فيما تمحورت الأعمال التاريخية حول فكرة “المستبد العادل”، وهي فكرة لطالما حرصت وسائل إعلام الأنظمة العربية على ترسيخها بين جمهورها العريض.
في مسلسل “الزير سالم” الذي كتبه الراحل ممدوح عدوان، كانت شخصية وائل كليب هي التعبير عن هذه الفكرة: ملك يحلم، ويعمل جاهداً على حلمه، بتحويل قومه من رعاع إلى مزارعين، ومن بدو رحّل إلى مستوطنين، ومن قبائل إلى مدن. ولكنه لا يُشرك أحداً في حلمه، ولا في عمله، ويشكو دائماً من عدم فهم الآخرين لحكمته، أولئك الذين يعمل عنهم ولأجلهم.
الخط نفسه يستمر في ثلاثية الأندلس، التي كتبها وليد سيف، وفي الأجزاء الثلاثة تكرار لنفس النمطية تقريباً: بطل عصامي ينطلق من بين الشعب، يمتاز بحدّة ذكاء وإرادة لا متناهيتين، يصل إلى أعلى المراكز بفضل نضاله ضد الفساد والمفسدين، لنكتشف انقلابه عند وصوله إلى السلطة، وهو انقلاب وإن كانت تفرضه ظروف السلطة، إلاّ أنه، بحسب السير البصرية التي قُدمت لنا، ليس انقلاباً على قيمه التي ناضل لأجلها، بل انقلاباً لصالحها مصحوباً بالقسوة اللازمة لذلك، تلك القسوة التي اضطرت صقر قريش إلى قتل أبناء أخيه، كما اضطرت ابن عامر إلى قتل صديقه ورفيق دربه وابن عمه، حتى لا يُبقي المجال لأي شفاعة.
هذا هو البطل في أعمال حاتم علي التاريخية، باستثناء التغريبة الفلسطينية، بطلٌ بقيمٍ سامية لكنه يفتقد لمناصرين، ومن يحيطون به هم ثلة من الفاسدين، أو السيئين، أو اللامباليين، أو في أحسن الأحوال: الذين لا يستطيعون فهم عظمة مشروعه.
هذه الدراما، ومقولاتها، انتشرت في العقد الأول من القرن الحالي، العقد الذي رفع فيه الرئيس السوري شعار “التطوير والتحديث” والذي راجت فيه السرديات التي تتحدث عن أن الرئيس جيد، ولكنّ من حوله يعيقون مشروعه!
بالطبع، لا مندوحة من التذكير بأنّ عدم موافقتنا على تلك المقولات لا يقلّل من التقدير الكامل لموهبة علي، ولقدرته وعظمة موهبته. وبالفعل، وكما درج أخيراً، فمشاهدة أعمال الثنائي سيف-علي تُغني عن قراءة الكتب ربما. لكن هذا شيء، والوقوف ضد مقولات تخدم تعسّف النظام السوري شيء آخر تماماً.
لنعد إلى السؤال الذي افتُتحت به المقالة: ما الذي جعل من حاتم علي- وبندر عبد الحميد قبله، وإن بدرجة أقل- رمزاً يجتمع حوله السوريون؟
الفجائع توحّد النّاس، كالموت الفجائي أو الدرامي لشخصية عامة، وكلنا يذكر كيف أنّ ملياري مشاهد تسمروا أمام شاشات التلفزة لمشاهدة جنازة الليدي ديانا في 31 آب/أغسطس 1997. وحاتم علي كان شخصية سورية عامة بامتياز، شخصية سكنت الذاكرة البصرية السورية وأصبحت جزءاً منها، ووفاته الفجائية عن عمر قصير ساهمت في ترسيخه ونقل مأساته من الإطار الخاص إلى العام.
هذه نقطة، النقطة الثانية التي يتفق عليها جميع من عرفه أنّه كان عصامياً، كأبطال أعماله، نازحاً من الجولان بعد هزيمة الـ 67، عاش في المخيمات على أطراف العاصمة دمشق، وعندما ولجها، استطاع أن يكون أحد نجومها.
وهو متعدد المواهب، وحسّاس، كما أنّ تعابير وجهه، وابتسامته خصوصاً، تحمل مزيجاً كاريزمياً من الحزن والخجل، والنزق أيضاً.
وعُرف عنه أيضاً أخلاقه العالية، فلا يُعرف عن حاتم علي أنّه دخل في أي مهاترة ساذجة من مهاترات الوسط الفني الكثيرة، هو ليس أيمن رضا أو باسم ياخور أو نجدت أنزور مثلاً. بهذا المعنى حافظ على نفسه بعيداً عن “وساخة” مصاحبة دائمة للنجوم والنخب الفنية والثقافية.
وأخيراً، فإنّ أهم ما جعله رمزاً لإجماع السوريين هو أنّه لم يتخذ موقفاً علنياً واضحاً خلال الحدث السوري الكبير، سواء من النظام أو من الثورة عليه، وحتّى أعماله التي قام بإخراجها لا تشي بأي شيء بهذا الخصوص، وهذا ما جعل محبيه يبحثون عن تأويلات لمواقفه، أو لكلمات قالها هنا أو هناك. لذلك يستطيع جمهور الثورة وجمهور الموالاة أن يحتفلا بفقيدهم حاتم علي، وأن يدعيا تمثيله أيضاً.
ربما يمكن إرجاع موقف حاتم علي، أو لا موقفه بالأحرى، ومواقف الكثير من الفنانين السوريين، إلى ضرورات لها علاقة بسوق الإنتاج الدرامي وتسويقه، وهو سوقٌ تُسيطر عليه شركات خليجية تتبع هي الأخرى لسلطاتها الحاكمة.
لكن، ومهما كان الوضع، فإنّ ملاحظة إجماع السوريين على حاتم علي يمكن الاستفادة منها أثناء البحث عن حلّ سياسي سوري، وهو حلّ يستلزم شخصية تقوده وتمضي به، ويبدو أن من مواصفات هذه الشخصية أن تكون عامة، وأخلاقية، وألاّ يكون لها موقفاً واضحاً مما جرى حتّى الآن في سورية. هذه الصفة الأخيرة تبدو سيئة جداً، وربما محبطة لمن دفع ثمناً غالياً في النضال ضدّ النظام السوري، ولكنه واقع الحال على ما يبدو.
خاص بالموقع