هلوسات في لاهاي

0

مصعب الحمادي

كاتب وناشط سابق في الثورة السورية

مجلة أوراق العدد 12

الملف

خرجت متلهفاً من محطة القطار في لاهاي، رفعت رأسي محملقاً في البنايات العالية قبالة المحطة ودخلت في نوبةٍ من الضحك الهستيري غير مكترثٍ بحشود الناس من حولي. كنت في داخلي أردد هتافنا الشهير في ساحة المظاهرة في قلعة المضيق (وفي عموم سوريا) قبل عشر سنين:
“يا بشار باي باي! بدنا نشوفك في لاهاي”!

كان بنا من السذاجة السياسية يومها ما جعلنا نعتقد بطهرانية هذا العالم، وأن الكثيرين سيهبّون لمساعدتنا بالخلاص من قمع الدكتاتور، وخصوصاً أن حركتنا كانت محقّة ومنطقية في نفس الوقت، ومتناسبة مع رياح التاريخ وروح قوانينه التي تجلّت في المنطقة العربية فيما بات يُعرف بالربيع العربي. كما أنها كانت حركة شعبية وطنية التفّت حولها مختلف شرائح المجتمع وطوائفه، قبل أن تغزوها الجهادية بتواطؤٍ وتسهيل من النظام نفسه الذي راح يزعم كذباً في مرحلةٍ لاحقة أنه يحارب الإرهاب. 

ارتفع صوتي بالقهقهة أمام المحطة وكدت أصيح: “يا ناس! يا هو! من رأى منكم بشار الأسد؟ نحن على موعدٍ معه هنا من عشر سنين؟”

ولكن اليوم يزول الوهم، وينبثق الوعي من مرارة التجربة. سبع سنين مرّت على انهيار الحلم ومغادرتي البلاد هرباً من إرهاب الأسد ودواعشه. وبعد التشرد في مدن تركيا، ومقاطعات فرنسا، وبلدات هولندا، ها أنا ذا الثائر المنهزم أفتح عينيّ لأجد نفسي في لاهاي، مجرد طالب لجوءٍ، أشعث أغبر، مطرودٍ عن الأبواب، بينما ما يزال الأسد في مكانه في دمشق رئيساً شرعياً للدولة السورية قهراً وغَلَبا ورغماً عن أنفي وأنوف الملايين من السوريين، وغيرهم الكثير من أحرار العالم من ورائهم.

من كان ليتنبّأ أن قتل نصف مليون إنسان، وتشريد أكثر من عشر ملايين شخص سيمرّ بلا حساب في عالم التواصل الاجتماعي والإعلام المفتوح الذي برع به نشطاء الثورة السورية، حيث نقلوا الجريمة بالصوت والصورة، يوماً بيوم، بما جعل بشار الأسد متلبّساً بالإبادة، ومذنباً بالجرم المشبوه.   

لم أستطع أن أخمن أياً من هذه البنايات الشاهقة أمامي هي التي تضم محكمة العدل الدولية، ولم أعد مهتماً أصلاً! فالمحكمة وإن وجدت عياناً إلا أنها فعلياً غير موجودة بالنسبة إلي كسوري. بل إن العدالة نفسها في نظري – عداك عما يسمى زوراً بالعدالة الدولية – ليس لها وجود في هذا العالم القاسي. فماذا عساه يفعل الشريد مثلي في هكذا مدينة؟

فطنتُ للسبب الذي جاء بي أصلاً لهذه المدينة قادماً من مخيمٍ للاجئين في شرق هولندا حيث أقيم مؤقتاً مع أسرتي. وهكذا انطلقت راجلاً باتجاه قلعة بينهوف التاريخية الجميلة لأعزّي النفس المنسحبة من ضجيج العالم بمشاهد الآثار القديمة التي تعكس شخصية هولندا كبلدٍ أوربي صغير لكن مجتهد ومتطور، بحيث أصبح قبلةً للخائفين والمُطاردين أمثالي.

بعد التجول في الأروقة والباحات الفخيمة، عرّجت على مزيدٍ من الأبنية القديمة والمنتزهات الغافية على ضفاف بحيرة هوف، ثم ركبت الترام رقم تسعة متوجهاً إلى شاطئ بحر الشمال الذي يشكل الحد الأبعد للحضارة الأوربية في أقصى الشمال الغربي من القارة. كان مشهد الأمواج المتلاطمة الغاضبة هو العزاء الوحيد لي بعد رحلة ساعتين بالقطار من مدينة نايميخن على الحدود الهولندية مع ألمانيا. في النهاية، لم يعد أحدٌ بقادرٍ على أن يحمل أوجاع السوريين إلا البحار، فقد ضاقت بنا الأرض بما رحبت.

بعد تجوال ساعتين على الشط أمضيتها بين إراقة الدموع وجمع الأصداف الملونة ضربني جوع شديد فقصدت مطعماً بجانب الشط. وبسبب ظروف كورونا اضطررت لحمل الصندويشة معي لألتهمها كأي كلبٍ شارد على قارعة الطريق. التفّت حولي حمامتان جائعتان رحت أقذف لهما فتات الخبز، ثم انضم إليهما طائر نورسٍ كبير الحجم ومتطفل بشكل مزعج، حاصرني كأنه شبيح أسدي لا يرضيه إلا أن يأكل البيضة وقشرتها! قذفت الصندويشة أرضاً ليتصارع عليها النورس والحمامتان وقفلت راجعاً للمحطة حيث غادرت لاهاي التي لم أجد فيها من العدل ما يكفي لكي يهنأ بها لاجئٌ مظلوم بكسرةٍ من الطعام على قارعة الطريق.