أقدم ما عرفناه عن العاصمة السورية دمشق لا يرقى إلى أبعد من ألف عام قبل الميلاد، حيث كانت عاصمة لدولة آرامية صغيرة وسط غوطة واسعة يرويها نهر بردى وفرعاه: “ثورا” و”بانياس”. وكانت أزقة المدينة ومساكنها تتوزع من دون تنظيم بين معبد (حدد) الشهير والقصر الملكي في جنوبي المدينة الذي كان يعرف بحصانته ومقاومته لهجمات الآشوريين.
وفي عهود الاحتلال الآشوري ثم البابلي فالفارسي، لم يحدث شيء في حياة دمشق العمرانية إلى أن حل اليونان في دمشق، وكانوا وقتئذٍ مزودين بالثقافة والنظم والمبادئ الاجتماعية التي تختلف عمّا كان عليه الشرق الذي كان بدوره على جانب كبير من الحضارة.
دمشق في الحقبة اليونانية- الرومانية (الهلنستية)
وقد جهد خلفاء الإسكندر المقدوني من بطالسة وسلوقيين في خلق ثقافة جديدة تعبر عن هذا التمازج، فكانت “الثقافة الهلنستية” التي طبعت دمشق بطابعها عدّة قرون. وفي الحقبة ما بين القرن الرابع قبل الميلاد والقرن السابع الميلادي، ساهم السلم الروماني والازدهار الاقتصادي الملحوظ الذي حظيت به دمشق في أيام تبعيتها للإمبراطورية الرومانية في مضاعفة عدد سكانها وإحداث حركة عمرانية واسعة، فأحيطت المدينة بسور واسع مستطيل بني بالأحجار الضخمة وزوّد بسبعة أبواب، أما الآبدة الهامة التي خلّفها العصر الروماني في دمشق فهي معبد (جوبيتر)، وكان أشهر معابد العالم القديم.
وبني معبد جوبيتر على أنقاض معبد الإله الآرامي (حدد) وأسهمت في هندسته التقاليد المعمارية الشرقية إلى جانب فن العمارة الغربي (الكورنثي)، ولا بد من أن يكون قد بني من قبل مهندسين وصنّاع دمشقيين كانت تفتخر بهم مدن الإمبراطورية الرومانية أمثال (أبولودور الدمشقي)؛ وكبرت المدينة بكل مرافقها وظهرت في ذلك العصر مدينة على النسق الروماني المطبوع بطابع القوة والجمال.
الكنائس والأديرة البيزنطية
وفي العهد البيزنطي لم يحدث تغيير في نظام المدينة سوى أن معبد جوبيتر تحول إلى كنيسة القديس يوحنا في أواخر القرن الرابع الميلادي، وزادت المنشآت وأُحدثت أسواق تصل بين أبواب المعبد الداخلي وبين الأسوار الخارجية؛ وكذلك ظهرت في العهد البيزنطي الكنائس والأديرة كمنشآت معمارية جديدة، شيّد منها نحو خمس عشرة كنيسة داخل الأسوار وخارجها؛ وغالبيتها قد اندثر وبعضها تجدد
أما الأديرة فقد كانت عديدة في أطراف المدينة وضواحيها، مثل (دير مران) في سفح قاسيون الغربي، وقد أطلق اسمه في العهد العربي على الجبل نفسه؛ ومن المؤكد ظهور قصور وجواسق على سفح قاسيون منها (قصر هرقل) الذي نزله صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر، وقد تهدّم بعد القرن الرابع عشر، كما كان للغساسنة قصر في قلب دمشق يدعى بـ(قصر البريص).
عصر صدر الإسلام والدولة الأموية
ومنذ سنوات الفتح الإسلامي الأولى عام 14هـ/635م أخذت المدينة تتحول إلى مدينة عربية مسلمة وحلّ أمراء العرب في الدور والقصور التي أخلاها أصحابها البيزنطيون، وشارك المسلمون المسيحيون في المعبد القديم فأصبح يضمّ كنيسة في الجانب الغربي منه ومسجداً في الجانب الشرقي؛ ثم راح الأمويون يشيدون بعدها المباني والقصور والمحال العامة في الساحة والواسعة المحيطة بالمعبد القديم، فشيّد معاوية بن أبي سفيان داره التي عرفت بدار الإمارة وبقصر الخضراء أيضاً، وكانت تتصل بالجامع الأموي بباب خاص.
ومنذ عام643هـ/1245م، تحوّل مكانها إلى سوق الصاغة، وهناك دار لعبد العزيز بن مروان شيّد مكان المدرسة الشميساطية اليوم، ونعرف قصراً لهشام بن عبد الملك في مكان المجاهدية داخل باب الحرير، وقصوراً أخرى خارج السور؛ على أن كل هذه القصور زالت، وهذا يشي بأن دمشق في العهد الأموي كانت بأبدع حلّة وأجملها بعد أن نعمت بالمركز الممتاز والازدهار الاقتصادي، ويحدثنا المؤرخون عن أحواض المياه والنواعير والسقايات التي كانت على أطراف الشوارع وعلى أبواب المباني العامة، وفي الأسواق والساحات.
العصر العباسي وإنشاء قلعة دمشق
وفي العصر العباسي والفاطمي (750-968م) أصيب المد العمراني بالانتكاس وأخذ عدد السكان بالتناقص، ولا نكاد نعثر على أي أثر معماري يعود إلى تلك الحقبة، كما بدأت في هذا العصر تتغير معالم المخطط اليوناني-الروماني المنظّم للمدينة، وراحت تظهر فيها الأحياء المتعرجة والأزقة الفرعية؛ وتغير في هذا العصر أيضاً مظهر الشارع المستقيم الروماني واحتلته الأسواق الصغيرة والأحياء السكنية حسب شهادة المقدسي في القرن الرابع للهجرة/العاشر الميلادي.
وفي القرن الخامس للهجرة بدأ نوع من الانتعاش في الحياة العمرانية، وأول ما نشأ في هذا المضمار هو بناء القلعة في الزاوية الشمالية الغربية للمدينة لتكون دار الإمارة، كما بدأت العناية بإشادة أبنية خاصة للمدارس مستقلة عن الجامع الأموي؛ وحظيت دمشق في عهد نور الدين زنكي الذي حكم بين عامي (1154-1174م) بكثير من العناية من الناحية العمرانية، فقد أعاد بناء السور الذي تهدم أكثره في فترة الحروب، وحصّنه بالأبراج العديدة المستديرة ورمم أبوابه وفتح بوابات جديدة كباب السلام، وأنشأ البيمارستان النوري والمدرسة النورية ودار العدل وحمام البزورية؛ وانتعشت الأرباض والضواحي، وتم إقامة مدينة الصالحية وغيرها.
ورغم انشغال الأيوبيين بالحروب الصليبية فقد استمرت الحركة العمرانية بالنمو، وبالرغم من اتسامها بالتقشّف إلا أنها بلغت حداً لا مثيل له في تاريخ دمشق؛ ولأول مرة بعد خمسة قرون على بناء الجامع الأموي، تشيّد في دمشق جوامع بالمعنى الصحيح ولكن خارج الأسوار، كجامع الحنابلة، وانتشر بناء الترب؛ وهي قباب فخمة تتخذ مدافن لعلية القوم ويلحق بها مسجد أو مدرسة صغيرة، وكذلك الخوانق؛ وهي قصور مزخرفة يطّرد في جميعها الماء.
المماليك والعثمانيون وتوسّع دمشق
وفي العصر المملوكي 658هـ/1260م-922هـ/1516م كان الشيء الهام الذي حدث هو إعمار مناطق جديدة خارج السور واتساع المدينة اتساعاً منقطع النظير، فظهرت الجوامع العديدة وقباب المدافن العالية؛ وبنى الأمير تنكز في مطلع القرن الثامن للهجرة جامعاً كبيراً وجعل أمامه حماماً وسويقة.
ثم بنى الأمير يلبغا في المحلة المعروفة بـ “تحت القلعة”؛ ولم تلق دمشق خلال القرون الأربعة التالية من الحكم المملوكي ازدهاراً عمرانياً يمكن مقارنته بالذي حدث في العهد الأيوبي، وإنما ما نشاهده من أوابد عثمانية يعود إلى أوائل هذا العهد، أي القرن السادس عشر الميلادي، وأقيمت في ذلك العهد أبنية ما تزال خالدة حتى اليوم، مثال (التكية السليمانية) التي بنيت في زمن السلطان سليمان القانوني.
أما في القرن التاسع عشر فقد حدث تطور هائل على مخطط المدينة وشقّت فيها طرق جديدة وجددت أسواق ومناطق سكنية وأحياء منها (حي القنوات) الذي ضمّ مساكن الأرستقراطية العثمانية، ونشوء (حي الأكراد) و(حي المهاجرين) ونظم (سوق الحميدية)، وكان قد بني الجانب الغربي منه في عهد السلطان عبد الحميد، وبنى الوالي ناشد باشا قسمه الشرقي من العصرونية إلى باب البريد؛ وفي أواخر هذا القرن أخذت أساليب العمارة الأوروبية تغزو المدينة وتقام المباني وفق الأساليب الحديثة والمتطورة، فتغير طابع المدينة ومعالمها بشكل شبه كلي.
*تلفزيون سوريا