مصعب قاسم عزاوي
طبيب استشاري في علم الأمراض. وكاتب في العديد من الدوريات.
مؤلف ومحرر للعديد من الكتب والأبحاث والدراسات باللغتين العربية والإنجليزية.
مجلة أوراق – العدد 15
دراسات
قبل الدخول في معترك تحليل عناصر قصور الفكر القومي على اختلاف أشكاله وتلاوينه وتمظهراته، لا بد من الاعتراف بالفضائل الأساسية للنزعات القومية حينما كانت وتكون محركاً ودافعاً لمجتمعات ومجموعات بشرية في سعيها للانعتاق من مستعمريها المباشرين أو وكلائهم في حركية جوهرها مقاومة هيمنة الأقوياء على المستضعفين وإدامة التغول على حيواتهم وأرزاقهم وحقوقهم الأساسية، كما كان الحال في صيرورة تكوين الكثير من حركات التحرر الوطني في عموم أرجاء الأرضين، وتضحياتها اللامتناهية في محاولات انطوت على الكثير من النوايا المخلصة للتخلص من أحابيل الاستعمار الاستيطاني المباشر أو غير المباشر بالوكالة، والتي لأسباب ذاتية وموضوعية تاريخية وبنيوية لما تترجم في غالب الأحايين إلى أي نموذج فعلي من الانعتاق والتحرر المنشود في تلك المجتمعات التي بزغ فيها زخم الفكر القومي واشتد عوده.
وبعد تلك المقدمة التي لا بد منها يتحتم إعادة الاعتبار للبوصلة المعرفية المنهجية في تحليل عناصر القصور والضعف التكويني والمنهجي في بنيان الفكر القومي، والتي قد يكون أسها هو الآلية التي نهض فيها الفكر القومي ومفهوم القومية في أوربا أساساً في مرحلة نهوضها الاقتصادي في خواتيم العصور الوسطى التي انتهت في القرن الخامس عشر الميلادي مشخصة بأفول الدولة التي أسسها المهاجرون من بلاد الشام وشمال أفريقيا في الأندلس، ونكوص تأثيرهم الاقتصادي والسياسي، بالتوازي مع نهوض اقتصاديات الممالك الأوروبية التي تمكنت من عزل دور الممالك والإمارات في حوض البحر المتوسط، وخاصة تلك التي كانت خاضعة لحكم المماليك في خط التجارة العالمية الأساسي الذي كان يبدأ في شرق آسيا في الصين وشبه القارة الهندية، والذي كان لا بد له بأن يمر عبر ما عُرف بطريق الحرير والأراضي والطرق البحرية في حوض المتوسط ليصل منها إلى أوروبا، وذلك بعد تمكن البرتغاليين في حملة فاسكو ديغاما من اكتشاف سبيل للوصول إلى شرق آسيا من أوروبا عبر الالتفاف حول القارة الأفريقية في منطقة رأس الرجاء الصالح؛ وهو التحول الذي أدى إلى صعود اقتصادي متسارع في القارة الأوربية ازداد شمولاً واتساعاً مع اكتشاف الأوربيين للقارتين الأمريكيتين وبدئهما في عملية الاستغلال الوحشي والبربري للبشر والموارد فيهما. وذلك الصعود الاقتصادي المتسارع ضمن حدود القارة الأوروبية أفصح عن نفسه بتعاظم القدرات الاقتصادية لبعض الأمراء هنا وهناك على زيادة قدراتهم على حشد المحاربين من المجندين المرغمين بحكم إقامتهم في الفضاء الجغرافي لنفوذ ذلك الحاكم أو ذاك، أو المرتزقة من عديد الفقراء المهول الذي كان لا بد لهم من البحث عن أي عمل، حتى لو كان بالارتزاق كمحاربين مأجورين لدى من يستطيع تأمين قوت يومهم.
وذلك الواقع استمر في تكريس وضوحه متكاملاً في سلسلة الحروب الوحشية البربرية التي خاضها الأوربيون فيما بينهم منذ القرن الرابع عشر وحتى القرن العشرين، والتي كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية آخرهما، مروراً بسلسلة الحروب الدينية التي لم تنتهِ بين البروتستانت ممثلين للبرجوازيات الصاعدة، وبين الكاثوليك الممثلين للطبقات الإقطاعية الملكية المتواشجة العرى مع هيكل الكنيسة بنيوياً ووظيفياً، والتي قد يكون أبرزها من ناحية الامتداد الزمني حرب المئة عام بين المملكتين في فرنسا وإنجلترا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر.
وتلك السلسلة التي لم تنقطع من الحروب البربرية الوحشية، كانت في جوهرها صراعاً همجياً بين الأغنياء والأقوياء لتعظيم ثرواتهم وحيازاتهم، والتي كان نموذجها العياني المشخص آنذاك يكمن في مساحة البقعة الجغرافية التي يهيمنون عليها، وخاصة الأراضي الزراعية، ومن يعمل بها من الفلاحين الذين لم يكن يشكل أي فرق في طبيعة حيواتهم البائسة أن يتحكم بمصائرهم وطبيعة معاشهم اليومي ذلك الدوق أو الأمير أو الملك أو ذاك.
و قد يستقيم القول بأن ذلك النموذج من الصراع بين الأقوياء بدماء وأجساد المستضعفين مثل تفلتاً من كل عقال بنيوي مبتنى في عمق دارات بني البشر الدماغية التي تم اصطفاؤها وتنقيتها وتشذيبها في صيرورة الاصطفاء الطبيعي لبني البشر، والتي كان أحد أهم ثوابتها الميل العفوي للابتعاد عن أي صراعات جانبية لا تخدم الهدف البيولوجي الأسمى للكائن البشري المتمثل في نقل مورثاته إلى ذريته، وحماية تلك الذرية من الاندثار جوعاً أو تشريداً أو بسبب فقدان من يعيلها، وهو مرغم على الانخراط في حروب تتم بدماء المفقرين المستضعفين، ولا يحصد ثمارها سوى الأقوياء الأغنياء؛ وهو التناقض الذي كان لا بد من حله تلفيقياً عبر اصطناع صدع يجرم العقيدة الدينية لأولئك الأفرقاء الآخرين المناجزين المصارعين على كعكة الثروة والسلطة، في نسق يضع المتحزبين في فريق المنتصر في حيز المحظيين عند ذلك المقدس الكامن في عليين، كمقدمة لغفران كل ذنوبهم وتصعدهم إلى الجنة الموعودة بعد أفولهم من حيواتهم الدنيا، وهو ما كان يتم استخدامه بأقصى قدراته التأثيرية المعنوية و الإيحائية لخدمة الفئات التي كانت تحصد ثمار الانتصار العياني المشخصة عبر تعظيم ثروتها، وزيادة قدرتها على استدامة هيمنتها على حيوات البشر الذين تتحكم بهم.
وذلك النسق التلفيقي المستنبط كان المقدمة لذلك النموذج المهول من الصراع بحجة الدفاع عن المسيحية الحقة بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين الذي استمر محركاً لهمجية وعدمية تقتيل الأوروبيين لبعضهم حتى منتصف القرن التاسع عشر، وإلى حد ما حتى اللحظة الراهنة بشكل غير معلن جهاراً نهاراً فيما يحدث في بوتقة الصراع في إيرلندا الشمالية.
وعقب تلك المرحلة التي ترافقت مع اشتداد عود الرأسمالية بشكلها الاستعماري الإمبريالي بشكل غير مسبوق، كان هناك طور جديد من صراع الأقوياء الأثرياء على حصتهم من كعكة السلطة والثروة بدماء الفقراء المقهورين وعلى حسابهم تمثل في فقدان القدرة التأثيرية لتلفيقات خطاب واجب الفقراء المقدس للتضحية بنفسهم في حروب الأثرياء دفاعاً عن الصورة الحقة للمسيحية الخالصة وكنيستها، نظراً لبدء الأثرياء من نفس الفريق الديني المذهبي بالصراع فيما بينهم، ممثلاً ببدء الصراع بين المنتسبين إلى فريق الكاثوليك أو البروتستانت كما كان في الاحتراب الدموي بين الهولنديين والإنجليز المنتسبين إلى المذهب البروتستانتي على حصتهم في الاستعمار الوحشي والبربري الهمجي لشعوب المستعمرات في أفريقيا وآسيا والتي بدأت حوالي النصف الثاني من القرن الثامن عشر، واشتد سعارها في القرن التاسع عشر. وهي المرحلة التي تزامنت مع حقبة الثورة الفرنسية التي تمخض جبلها التحرري في جوهره عن مسخ فكري قوامه أن مبادئ الثورة الفرنسية القائمة على «الحرية والعدالة والتآخي» صالحة للتطبيق في حدود القارة الأوربية بشكل حصري، ولا ضير في التغاضي عنها، والقيام بكل الموبقات التي يقوم بها أنداد الفرنسيين الأثرياء الأقوياء في القارة الأوربية، وخاصة الإنجليز، من استعمار وحشي بربري لشعوب المستعمرات في غير موضع من عموم أرجاء الأرضين خارج القارة الأوربية؛ وهو ما كان مثاله الأكثر وصفية الحالة التلفيقية لكينونة «الإمبريالي المستنير» ممثلاً في مفاعيل شخصية نابليون بونابرت الاستعمارية، وخاصة حملته لاستعمار مصر. وذلك الواقع الجديد كان لا بد للأقوياء الأثرياء من التعامل معه بأدوات مستحدثة تترفع عن الحرب المُعَرَّفَةِ بأنها انتصار لذلك المذهب المسيحي على من يخالفه من هراطقة وزنديقين عبر استنباط فكرة القومية ممثلة في هوية «خلبية» مصطنعة لأولئك الذين تصادف خضوعهم لذلك الحاكم أو ذاك، ليصبح أولئك المتشاركون في خضوعهم لذلك الحاكم كما لو أنهم «قبيلة» موسعة يمثل الدفاع عنها وعن «رأسها وشيخها» دفاعاً عن حيوات كل الخاضعين لهيمنة وسلطة ذلك «الرأس»، في نسق تم تشذيبه ليصبح الموت في حروب عبثية يخوضها الملك في فرنسا أو إنجلترا دفاعاً عن كيان تلفيقي مصطنع اسمه إنجلترا أو فرنسا تضحية سامية على مذبح الملكية وفكرة القومية الوليدة قيصرياً من رحمها «الوحشي الظالم»، بتعام عامد متعمد عن الحقيقة الثابتة بالتطابق شبه الكلي في مستوى بؤس حياة عموم الفئات الشعبية على ضفتي القنال الإنجليزي، و عدم ارتباط عمق معاناتهم السرمدية باللغة التي كان يتحدث بها من كان يمتص عصارة عملهم و كدحهم ضرائباً باهظة سواء كان منطوق لسانه إنجليزياً أو فرنسياً. وقد يكون المثال الأكثر نصوعاً على تلك الحقائق التاريخية هو انتساب العديد من ملوك إنجلترا إلى عوائل أصلها فرنسي، واعتبار اللغة الفرنسية اللغة الرسمية للطبقات الحاكمة في إنجلترا حتى وقت متأخر من القرن الثامن عشر، بالتوازي مع جلاء مدلول المقولة التاريخية لتعريف ملك فرنسا لويس الرابع عشر للدولة الفرنسية بأنها مختزلة في شخصه وكينونته، وقوله الشهير «أنا الدولة والدولة هي أنا».
وذلك التغاير الأخير في طبيعة وشكل وطريقة تقديم الأسباب التلفيقية لتبرير هيمنة الأقوياء الأثرياء على المستضعفين في أوربا وجدت تمظهرها العياني المشخص الأكثر وضوحاً في حركتين تاريخيتين عملاقتين. الأولى تمثلت في حركة توحيد الإمارات والمدن الإيطالية في سلسلة من الحروب الدموية التي بدأت في العام 1848 وحتى العام 1861 والتي كانت تمظهراً سياسياً وعسكرياً للتيار الفكري الذي كان العنوان العريض له باللغة الإيطالية «Risorgimento» والتي تعني باللغة العربية «البعث»، والتي كان جسدها الاجتماعي ممثلاً في عدد من الجمعيات السرية التي كان على رأسها جمعية «إيطاليا الفتاة» التي تم تأسيسها في العام 1831.
وهي فكرة «البعث» التي تلقفها حكام مملكة بيدمونت – ساردينيا Piedmont- Sardinia وهي مملكة تقع في الجزء الشمالي الغربي من شبه الجزيرة الإيطالية، وقاموا بمنحها بُعداً فكريا قوامه بأن «البعث» هو «إحياء لعظمة الإمبراطورية الرومانية السالفة»، وهو ما يجب تحقيقه بأي من الوسائل حتى لو كان ذلك عنوة و«بالقوة العسكرية الصرفة». وهو «البعث» وتوحيد الإمارات والممالك والمدن المستقلة الإيطالية الذي تكامل بضم مدينة روما في العام 1871 معلناً تمام مهمة توحيد شبه الجزيرة الإيطالية في مملكة مستحدثة ضمت كل الأفرقاء وأبناء العمومة والخؤولة وأهل الجوار الذين طالتهم يد التوحيد العسكري الطولى، وتصادف عيشهم في الحدود الجغرافية التي تمكنت تلك اليد من الوصول إليها، والذين لم تكن نسبة المتحدثين منهم باللغة الإيطالية المعروفة حالياً تتجاوز 8% في أحسن التقديرات، حيث أن كلاً منهم كان يقيم في إقليم أو منطقة أو إمارة تتحدث بلغتها الخاصة التي كانت إما لغة بأصول لاتينية أو جرمانية، وهم الذين تم إرغامهم سواء بالقوة أو الترهيب أو الترغيب لتبني لغة إقليم توسكاني لتصبح اللغة الإيطالية الجامعة التي يتحدثها عموم الشعب الإيطالي راهناً.
وهي أفكار «البعث» و«إحياء رسالة الأمة الرومانية»، و«إرغام كل الأفرقاء على وحدة اندماجية في أمة إيطالية واحدة» التي تم تلقفها من قبل الشعبوي بينيتو موسوليني، الذي كان في شبابه «اشتراكياً ثورياً»، وعضواً ناشطاً في الحزب الاشتراكي في سويسرا، ومن ثم محرراً لإحدى أهم الصحف الاشتراكية في النمسا حتى العام 1909 قبل إبعاده منها إلى إيطاليا، ليصبح هناك أيضاً محرراً لأحد أهم الصحف الاشتراكية في إيطاليا حتى العام 1914، ليعيد استدماج رؤيته الاشتراكية المتمثلة في وجوب كون الدولة «المالك لكل وسائل الإنتاج والناظم لكل أهداف وحركية ذلك الإنتاج» فيما قد يستقيم النظر إليه بأن «الدولة هي الرأسمالي الأوحد في المجتمع»، مع مرتكزات نهج «البعث» الآنفة الذكر، لينتج منها نموذجاً فكرياً هجيناً هو «الفاشية» التي كانت مرتكزاتها الأساسية هي «الأمة الواحدة»، و«عظمة تلك الأمة»، و«تفوق المنتسبين إليها على غيرهم من المجموعات البشرية».
وذلك النسق الفكري السياسي والعسكري لمفهوم «الفاشية» بالشكل الذي قام بصقله موسوليني في إيطاليا، كان بمثابة «الحل السحري» الذي تلقفه الشعبوي والخطيب المفوه أدولف هتلر في ألمانيا لينقل به حزباً مغموراً اسمه الرسمي حزب العمال الألماني القومي الاشتراكي والذي كان يعرف اختصاراً بالحزب النازي Nazi Party، والذي كان عدد أعضائه لا يتجاوز عدد أصابع اليدين، ليصبح قوة شعبية هائلة في ألمانيا تصعدت إلى هرم السلطة بانتخابات ديموقراطية، عبر استغلالها الشعبوي الحاذق والمتقن لمكامن النقمة الشعبية على حال عموم المجتمعات الألمانية عقب خسارة ألمانيا للحرب العالمية الأولى، وإلزامها من قِبل غرمائها الأوربيين على قبول معاهدة فرساي الجائرة مادياً ومعنوياً، وهي المعاهدة التي نظمت استسلام ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الأولى. وفي الواقع وجدت الأفكار «الفاشية» طريقها في المجتمع الألماني بإخراجاتها على طريقة الحزب النازي بسهولة نسبية إذ أن المجتمع الألماني نفسه كان وليد عملية «توحيد قومي بالقوة» من أجل إحياء «عظمة الشعوب الجرمانية» والتي تكاملت في العام 1871 على يد أوتو فون بسمارك Otto Von Bismarck مستشار ولاية بروسيا الألمانية الأكثر قوة عسكرية واقتصادية بين الولايات الجرمانية الأخرى، وهو الذي أرغم مئات المدن والإمارات والبلديات الجرمانية المستقلة على «وحدة اندماجية قسرية» مع ولاية بروسيا Prussia الألمانية سواء بالقوة أو الترغيب أو الترهيب في استطالة سياسية واقتصادية وعسكرية تنفيذية لما أسس له تنظيرياً الفيلسوف الألماني فيخته Fichte في كتابه خطابات إلى الأمة الألمانية Addresses to the German Nation في العام 1808 والذي كان في جوهره دعوة لتوحيد المجتمعات الناطقة باللغة الألمانية، والتي يوحدها ويجمعها بحسب نهج فيخته الفكري «اللغة الواحدة» و«العادات والتقاليد المشتركة».
وتلك المقدمة السالفة حول الكيفية التي نهض بها الفكر القومي في أوربا وتعضت أطروحاته المعاصرة ضرورية ولا بد منها لأجل تفهم جذور أطروحات الفكر القومي العربي بدءاً من جمعية العربية الفتاة، والتي لا زالت ألوان رايتها الموزعة بين الأبيض والأسود والأحمر والأخضر تمثل العنصر التكويني لأعلام الكثير من المجتمعات العربية، وهي الجمعية التي انضم إليها عبد الله بن الشريف حسين، ومهد انخراطه بها لوقوع المجتمعات الناطقة بالعربية في حدود السلطنة العثمانية في حبائل احتيال البريطانيين عليهم في مراسلات الشريف حسين واللورد هنري مكماهون ممثل بريطانيا الاستعمارية في مصر، لتحريض «العرب» على الانتفاض على حكامهم الظُلَّام الفاجرين من العثمانيين في لج الحرب العالمية الأولى، ليستبدلوهم بعد خسارة أولئك الأخيرين بمستعمرين من الفرنسيين والإنجليز أكثر وحشية وعسفاً.
ومن ناحية أخرى قد تكون أكثر حضوراً في حقبتنا الراهنة، فإن تلمس الصيرورة التي تكوَّن فيها الفكر القومي وتمظهراته السياسية في أوربا ومصطلحاته وأنساقه المفهومية والتبريرية والتوفيقية ضرورة لا بد منها لتَكَشُّفِ الآلية التي تم بها «استجلاب»، و«استيراد» التيارات السياسية الكبرى للفكر القومي العربي ممثلة أساساً بفكر «حزب البعث العربي الاشتراكي» لجل بناه الإرادوية والهجينة والقافزة فوق حقائق التاريخ من منابع الفكر الفاشي والنازي بالشكل الذي وضحناه سابقاً. وقد لا يحتاج أي متأمل حصيف لكثير من الجهد لإدراك الكيفية التي تم بها نحت شعار حزب البعث العربي الاشتراكي: «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» كما لو أنه تعريب بدائي غير متقن للعناصر الأساسية للفكر الفاشي سواء بشكله الأصيل في إيطاليا، أو بشكله المتلبس بقشرة من الاشتراكية التزويقية على طريقة حزب العمال الألماني القومي الاشتراكي أي الحزب النازي.
وقد يستقيم في هذا السياق الالتفات إلى قصور وعوار التأصيل للفكر القومي بالاستناد إلى تخرصات هرائية لا أساس علمياً لها من قبيل «النسب المشترك» و«الأصل المشترك» إذ أن جميع الكشوفات العلمية في مجال علم المورثات الحديث تشير إلى أن جميع بني البشر ينتسبون إلى مجموعة بشرية صغيرة من جنس بني البشر الحاليين في مملكة الحيوانات المعروف بهوموسابينس Homo Sapiens، وهو الجنس الحيواني الذي لا يتجاوز عمره التطوري مئتي ألف عام، وهو أيضاً الجنس الحيواني الذي تعرض إلى شبه انقراض ماحق جراء عسف العصر الجليدي الأخير، وأدى إلى ما يشبه «عنق الزجاجة التطوري»، والذي أفصح عن نفسه بحقيقة أن كل بني البشر المعاصرين ينتسبون إلى مجموعة بشرية واحدة عاشت في شرق القارة الأفريقية منذ حوالي 70000 عام، ولم يتجاوز عدد أفرادها الذين تمكنوا من الصمود في وجه عسف العصر الجليدي الأخير أكثر من 15000 فرداً في أحسن التقديرات؛ وهي المجموعة التي هاجر أبناؤها إلى أصقاع الأرضين في سعيهم للحظيان «بالطرائد الكبيرة» التي كان لا بد من إدراكها، ليس لأهمية لحمها فقط، وإنما لأهمية جلودها، التي كانت تمثل وسيلة الدفاع الأولى التي لا بد من الاتكاء عليها لمواجهة قسوة العصر الجليدي القارس الذي لم يبدأ بالانحسار إلا منذ حوالي 11700 عاماً، ليبدأ معها تكاثر بني البشر وتزايد أعدادهم بعد تراجع مقصلة الطبيعة عن أعناقهم وحيوات ذريتهم.
ولزيادة التوضيح العلمي الذي لا بد منه، فإن كشوفات علم المورثات المعاصر تشير بشكل لا مجال فيه للمجادلة من مواقع الجاهلين، وعلى طريقتهم، إلى أن هناك تطابقاً مورثياً شبه كلي بين أبناء بني البشر المعاصرين بغض النظر عن مكان وجودهم الجغرافي سواء كان ذلك في شرق المعمورة أو غربها، أو شمالها أو جنوبها. وأن معدل التطابق الوراثي بين أي شخصين اثنين أخذا عشوائياً من أي من المليارات السبعة التي هي في طريقها لأن تصبح ثمانية قريباً والتي تعمر وجه البسيطة يصل إلى مستوى لا يقل عن 99.5%، وهو ما يعني بأن البشر فعلياً من منظار علم الأحياء وتصنيف الأجناس الحيوانية مجموعة حيوانية لا بد من توصيفها علمياً بأنها مجموعة من «الأخوة البيولوجيين»، إذ أن معدل التطابق المورثي المشاهد بين بني البشر المعاصرين لا يمكن مشاهدته في أي من الأجناس الحيوانية الأخرى ما لم تكن المجموعة المدروسة فيها أخوة أو أبناء عمومة أو خؤولة غير بعيدين في مدى قرابة الدم أو الرحم بين أفرادها، إذ أن معدل التفارق المورثي مثلاً بين أي كلبين أو حصانين أخذا عشوائياً من منطقتين جغرافيتين من وجه البسيطة لا بد أن تتجاوز حتماً نسبة 0.5% التي لا تتجاوز الفروق المورثية بين كل بني البشر حدها.
ولكيلا يجادل غير مطلع أو جاهل لقلة معرفته أو عامداً، بتلك الفروقات الشكلية التشريحية، وخاصة تلك المرتبطة باختلاف ألوان بشرة بني البشر هنا وهناك، فالجواب العلمي المبسط على ذلك مرتبط بآلية الاصطفاء الطبيعي، والذي يقف على قمة هرم مبادئها مبدأ «البقاء للأكثر صلاحية في التكيف مع الشروط البيئية المحيطة به، وإنجاب ذرية من بعده تخلفه وتنقل مورثاته إلى الأجيال اللاحقة»؛ وهو المبدأ الذي لا بد أن يفصح عن نفسه في ميدان الاختلافات التشريحية الظاهرية في ملامح ولون بشرة بني البشر، والتي تعود في كليتها إلى حاجة البشر لامتصاص أشعة الشمس فوق البنفسجية عبر جلودهم، والتي دونها يستحيل على أبدانهم تصنيع فيتامين دي، والذي دونه تصبح فرص الحياة شبه مستحيلة، إذ أن عوز فيتامين دي يعني زيادة مضطردة في احتمالات الكسور العفوية للعظام الكبرى في الجسم، واستحالة التئامها، وهو ما كان يعني وفق قوانين الاصطفاء الطبيعي حكماً بالإعدام البطيء.
ولزيادة التوضيح فإن ذوي البشرة الداكنة يتمتعون بقدرة أقل على امتصاص فيتامين دي، وهو ما يعوضه وفرة الشمس في المناطق التي تطور فيها جنس بني البشر المعاصرين «هوموسابينس» في شرق القارة الأفريقية، بالإضافة إلى الأهمية الوقائية التي توفرها البشرة الداكنة في الوقاية من سرطانات الجلد التي يسببها التعرض المزمن لأشعة الشمس، وخاصة السرطانات من طبيعة «الميلانوما»، والتي تكاد تكون شبه معدومة لدى البشر من ذوي البشرة الداكنة. وهو ما يعني عملياً بأن البشرة الداكنة التي تمتع بها كل أسلاف بني البشر المعاصرين إبان بزوغهم كجنس مستحدث في مملكة الحيوانات في شرق القارة الأفريقية مثل ميزة تكيفية مثلى للتكيف مع الشروط البيئية التي كانت محيطة بهم، ومنحتهم فرصة تفاضلية أكبر للبقاء على قيد الحياة وإنجاب ذرية من بعدهم.
وهو الواقع الذي تغير مع تحرك المجموعات البشرية المحدودة العدد من شرق القارة الأفريقية باتجاه آسيا عبر مصر وشبه جزيرة سيناء ومنها إلى باقي بقاع الأرضين، وهو ما أدى إلى تغاير في وفرة أشعة الشمس في البقاع الجغرافية الجديدة التي حلوا عليها أفسح المجال وفق مبدأ الاصطفاء الطبيعي السالف الذكر لتزايد أعداد لأولئك البشر الذين تحدث في أجسادهم طفرات مورثية تمنحهم شحوباً في لون جلدهم من خلال ما تنتجه تلك الطفرات من انخفاض في عدد الخلايا الميلانية المسؤولة عن إنتاج مادة «الميلانين» في جلدهم، وهي المادة المسؤولة عن منح الجلد درجة شحوبه أو قتامته بحسب تركيزها في جلد الإنسان، بحيث أصبح من يتمتعون بجلد شاحب جراء طفرات عضوية حدثت خلال تخلقهم كأجنة متحلين بميزة تفاضلية تزيد من فرصهم للبقاء على قيد الحياة في البقاع الجغرافية الجديدة التي حلوا عليها، وكانت أشعة الشمس فيها أقل وفرة، إذ أن شحوب جلدهم مكنهم من امتصاص كمية أكبر من أشعة الشمس فوق البنفسجية، وبالتالي تصنيع كميات كافية من فيتامين دي بالشكل الذي أشرنا إليه آنفاً، وهو ما مكنهم بالتالي من زيادة فرص إنجابهم ذرية من بعدهم تحمل مورثاتهم نفسها وتتمتع بنفس شحوب جلدهم. وهي الميزة التفاضلية التي لم يتحل بها أقرانهم في نفس المنطقة الجغرافية التي حلوا عليها من ذوي البشرة الداكنة، والذين لم تحدث في أجسادهم في مرحلة تخلق أبدانهم في أرحام أمهاتهم طفرات عضوية أدت إلى شحوب جلدهم، وهو ما أدى إلى اندثار مورثاتهم من المجموعة البشرية التي ينتسبون إليها بسرعة لصعوبة بقائهم على قيد الحياة في ظل معاناتهم من عوز فيتامين دي، وصعوبة حظيانهم بفرصة سانحة لإنجاب ذرية من بعدهم تستطيع الحفاظ على مورثاتهم ونقلها إلى الأجيال اللاحقة. وفي نفس السياق الأخير فإن شحوب البشرة لا بد أن يزيد من خطر الإصابة بسرطانات الجلد التي يقي صبغ الميلانين الفائض في جلد ذوي البشرة الداكنة الحاملين له من شرور تلك السرطانات، وهو ما يعني بأن الاصطفاء الطبيعي، وعلى امتداد أجيال متعاقبة، كان لا بد أن ينتج نوعاً مرهفاً من التوازن ينتج عنه درجة وسطية من شحوب الجلد تمثل الحل التكيفي الأمثل للبقاء على قيد الحياة ولإنجاب ذرية لدى أفراد كل مجموعة بشرية بحسب موقعهم الجغرافي ووفرة أشعة الشمس التي يحظون بها في موطنهم، وهو توازن بيولوجي مرهف في أبدان أولئك الأشخاص يعبر عن الدرجة الدنيا الكافية من الشحوب لإنتاج حد كاف من فيتامين دي، وبشكل لا ينتج عنه زيادة مفرطة في معدلات حدوث سرطانات الجلد لدى أبناء تلك المجموعة البشرية. وذلك التوازن البيولوجي التكيفي مع الشروط البيئية يفصح عن نفسه بالحقيقة الدامغة والتي يتعامى عنها الكثير سواء لأسباب متعلقة بجهلهم أو بتجاهلهم المتعمد والمتمثلة في أن هناك شبه اتساق في مستوى قتامة جلد بني البشر الذين يعيشون على خط عرض واحد في كوكب الأرض شرقاً و غرباً يتمتع بنفس الدرجة من وفرة أشعة الشمس بغض النظر عن توزع أولئك البشر على قارات مختلفة، كما هو المثال الشائع بين مستوى قتامة جلود سكان شبه القارة الهندية وسكان أمريكا اللاتينية وجزر الكاريبي الأصليين من الهنود الحمر، وهو ما ينطبق على سكان الأجزاء الواقعة في نفس مدى خطوط العرض التي تقع فيها تلك المناطق في آسيا وأفريقيا كما هو الحال في اليمن وعمان وجيبوتي والسودان وتشاد ومالي ومدغشقر وغيرها. وقد يستوي في هذا السياق الإشارة إلى حقائق علمية ثلاثة، أولها هو أن أكثر من 80% من سكان القارة الأوربية هم أحفاد مباشرون لمهاجرين من منطقة بلاد الرافدين وسهول كيليكية بين بلاد الشام والأناضول في حقبة زمنية تلت أفول العصر الجليدي الأخير منذ حوالي 11700 عاماً، وهو ما تؤكده الأبحاث الحديثة في علم المورثات، وهو ما يقودنا إلى الحقيقة العلمية الثانية المرتبطة بتلك الأولى، والتي تشير إلى أن السكان الأصليين الذين سكنوا غرب القارة الأوربية، وخاصة أرخبيل الجزر البريطانية كانوا من ذوي البشرة الداكنة والشعور الفاحمة والعيون الحور استناداً إلى بحوث علمية رصينة منشورة مؤخراً في أرفع المجلات العلمية المحكمة. والحقيقة الثالثة تتعلق بأن كل ذوي العيون الزرقاء من بني البشر هم أخلاف لسليف ذكر واحد تحلى بطفرة مورثية أدت إلى شحوب فائق في بشرته ولوناً أزرق في عينيه ناجم عن شبه انعدام في بدنه للخلايا الميلانية وما تفرزه من صباغ الميلانين في قزحية عينيه، وهو ما منحه ميزة تفاضلية للعيش في أقاصي شمال الكرة الأرضية التي تنخفض فيها معدلات وفرة الأشعة الشمسية إلى درجة كبيرة، ومثل شحوب جلده ميزة تفاضلية مكنته من اقتناص كمية أكبر من أشعة الشمس فوق البنفسجية وإنتاج ما يتطلبه جسمه من فيتامين دي للبقاء على قيد الحياة في تلك المناطق الجغرافية، وبالتالي نقل مورثاته إلى ذرية تخلفه من بعده.
ونفس المنهج التحليلي السالف يمكن توسعته على كل الملامح التشريحية الأخرى التي يختلف بها بنو البشر من قبيل شكل الأنف، والذي اتساع منخريه ينسجم أكثر مع المناخات الأكثر حرارة، إذ يسمح بمرور كمية أكبر من الهواء، دون الحاجة إلى حصره لتسخينه قبل إدخاله إلى القصبات الهوائية كما هو الحال في الأنوف المستدقة الأكثر شيوعاً لدى البشر الذين استوطنوا المناطق الأكثر بُعداً عن خط الاستواء والأكثر برودة.
وهو المنهج الذي يمكن سحبه على شكل وطبيعة وقوام الشعر الذي يكسو قمة رؤوس بني البشر، فقوام الشعر الأجعد بين سكان المناطق الاستوائية، والذي إن طال يصبح كالمظلة تظلل رأس صاحبه يمثل ميزة تفاضلية أكثر ملائمة للأجواء الحارة والشمس الغامرة، لما يوفره ذلك من حماية من ضربات الشمس؛ بينما الشعر الأملس الأشيع لدى سكان المناطق الأبعد عن خط الاستواء فإنه حينما يطول فهو يمثل حماية للأكتاف والرقبة من مخاطر حروق أشعة الشمس التي تمثل الزناد القادح لتطور سرطانات الجلد، والتي تزداد احتمالات الإصابة بها لدى من تحلوا بجلد شاحب جراء طفرة حصلت في أحد أسلافهم ومكنتهم من التكيف أكثر للعيش في المناطق الأقل وفرة في أشعة الشمس، وأصبح تحليهم بشعر أملس جراء طفرة عضوية أخرى أيضاً خلال مراحل تخلقهم الجنيني ميزة تفاضلية تكيفية إضافية تزيد من فرصهم في البقاء على قيد الحياة وإنجاب ذرية من بعدهم أكثر من أقرانهم الذين لم يتحلوا بتلك الصفة الظاهرية. وهو نسق التوازن البيولوجي التكيفي الذي أنتج أنماطاً ظاهرية تكيفية قد يظن غير العارفين بأنها اختلافات جذرية بين بني البشر على عكس حقيقتها بأنها اختلافات ظاهرية تكيفية لا تغير من حقيقة التطابق شبه المطلق بين البنية الوراثية بين كل بني البشر، وتساويهم الكامل في كل الأحياز البيولوجية الأخرى سواء كانت عقلية أو إدراكية أو سلوكية أو حركية كما يثبت ذلك علم وظائف أعضاء الجسم البشري.
وخلاصة القول إن فكرة «التفاوت العرقي» بين بني البشر فكرة هرائية لا أساس علمياً لها، ولا تستند إلا على تخرصات مخترعيها، لتبرير وحشيتهم وبربريتهم فيما دعوه إبان حقبة صعود «الاستعمار الاستيطاني المباشر» في القرن الثامن عشر بأنه «داروينية اجتماعية» تقتضي أن «البقاء للأصلح»، ناظرين إلى ذلك «الأصلح الخلبي» بأنه «الأكثر قدرة على الفتك» بأولئك الضعفاء من بني البشر الذين لم تقيض لهم ظروفهم إتقان فنون الحرب والتقتيل كما فعل الأوربيون بأبناء جلدتهم قبل أن يوسعوه إلى مظلوميهم من أبناء المستعمرات مبررين ذلك «بفوقية مختلقة وجاهلة» تنظر إلى الفروق الشكلية التكيفية بين بني البشر على أنها اختلافات بنيوية ووظيفية حقيقية فيما بينهم، بينما هي ليست إلا تلفيقات لغرض تبرير سلوك وحشي بربري أدمن الأقوياء ممارسته بحق الضعفاء غير القادرين على مقاومة ما يتعرضون إليه من جور وعسف.
ومن ناحية أخرى لا بد من الالتفات إلى ذلك الميل البيولوجي الغريزي لدى كل أبناء بني البشر للانتماء إلى مجموعة بشرية ينظرون إليها بأنها بمثابة الحصن الوحيد المتاح الاحتماء بنسيجه من عسف الطبيعة والمحيط البيئي. وهو الميل الغريزي الذي تنقى وتشذب بقوى الاصطفاء الطبيعي نفسها عبر آلاف الأجيال التي مرت في رحلة تطور الجنس البشري المعاصر الذي لولا استدماج ذلك الميل الغريزي للانتماء إلى الجماعة في عمق الدارات الدماغية البنيوية لبني البشر لما تمكن الجنس البشري من الصمود في وجه نوازل الطبيعة؛ إذ أن الإنسان ككائن بيولوجي منظوراً إليه من المنظار التشريحي المحض يكاد يكون من أكثر الكائنات الحية ضعفاً وأقل قدرة على مقاومة الظروف البيئية القاسية المحيطة به، خاصة وأنه لا يتحلى بأنياب جارحة أو مخالب ثاقبة أو فرو يكتسي به، فكان لا بد له من الاتكاء على ميزته شبه الوحيدة التفاضلية في مملكة الحيوان، وأعني بها هنا القشرة الدماغية الجديدة، والتي مكنته من التصويت والتواصل الاجتماعي المثمر عبر اللغة، ومنحته القدرة على استخدام أصابعه بشكل حاذق، بالإضافة إلى إعطائه القدرة على التحليل والتركيب والسعي بشكل مبدع في نسق ميوله البيولوجية الغريزية التي تنقت و تشذبت برهافة وفق قوانين الاصطفاء الطبيعي، و قد يكون أحد أهم مرتكزاتها الحاجة الفطرية للانتماء إلى مجموعة بشرية لكونها الحامي الوحيد للإنسان كحيوان أعزل من كل وسائل مقاومة قوى الطبيعة سوى عقله، والذي استخدمه فيما بعد من أجل تصعيد ذلك الانتماء، وقولبته، وتأطيره في مكان رفيع تجلى في ذلك التبجيل الفكري الذي ظهر في مرحلة متأخرة من رحلة تطور الجنس البشري خلال بضعة آلاف السنين الأخيرة لما قد يستقيم دعوته «القبيلة» التي أصبحت المُعَرِّفَ الفكري العياني المشخص لذلك الوعي الفطري الغريزي الموجه لبني البشر في رحلتهم التطورية للانتماء إلى مجموعة بشرية كانت في المراحل الأولى من عمر بني البشر عائلة مصغرة ثم أصبحت عائلة موسعة بمجموعات بشرية لم يتجاوز عدد أفرادها 150 فرداً في جل رحلة تطور بني البشر من جنس البشر الحاليين، و أبناء عمومتهم و أسلافهم من الأجناس البشرية البائدة، والتي امتدت على سبعة ملايين من السنين قضوا معظمها في مرحلة الصيد والجمع والالتقاط، ولما يتزايد عدد أفراد تلك المجموعات البشرية إلا بعد استقرار بني البشر في مجتمعات زراعية منذ حوالي 12000 عاماً، وهو ما اقتضى تخليق مفهوم انتماء جديد يتجاوز العائلة المصغرة والموسعة إلى ذلك النموذج العقلي والاجتماعي للقبيلة، وما استتبع ذلك من اجتهادات عقلية لبني البشر لقوننة ذلك النموذج في ضوء ما أفرزته طبيعة الاستقرار في مجتمعات زراعية من صعوبات في البقاء على قيد الحياة في ضوء احتمالات إخفاق المحصول الزراعي، وعدم التيقن من توافر ما يقيت المجموعة البشرية والقبيلة خاصة في ضوء الازدياد المضطرد لعديد أبناء البشر مع تراجع العصر الجليدي الأخير وبدء استقرار البشر في مجتمعات زراعية، وهو ما اقتضى إعادة تبئير تعريف المجموعة البشرية التي يعيش الفرد و عائلته المباشرة في كنفها بشكل عقلي مستحدث ينظر إليها بأنها «الحصن الحصين» الذي لا بد من القيام بكل ما هو متاح لحمايته، بالإضافة إلى استنباط «نهج مستحدث» لتعريف ذلك «الآخر» الذي ينتسب إلى مجموعات بشرية و«قبائل» أخرى، ولا بد من عقلنة «التغول على موارده»، وإخضاع الذات العقلية لما يعاكس فطرة بني البشر التي تدفع الإنسان باتجاه حفظ أي من المنتسبين إلى النوع البشري من الانقراض والاندثار البيولوجي، واستنباط مفاهيم «الغزو» و«التغاوي» و«التفاخر» بذلك السلوك في محاولة لإقناع الذات بعكس ميولها البيولوجية الفطرية لتهدئة مفاعيل الإحساس العميق بالذنب عند «التغول على حقوق وحيوات» أولئك البشر الآخرين الذين تصادف وجودهم في مجموعات بشرية و«قبائل» أخرى.
وهنا يفصح الفكر القومي عن نفسه كما لو أنه آخر «التفتقات» الفكرية التي استدعاها تعضي وانتظام وتكاثر أعداد المجموعات البشرية المستوطنة في نسق المجتمعات الاستيطانية الزراعية التي ترافق حلولها مع تصعد بني البشر من مرحلة التفاعل المنفعل مع الطبيعة إلى مرحلة تحوير شروط الطبيعة بقوة التعاون الجمعي لأولئك المنتسبين إلى مجموعة بشرية موسعة كانت في المراحل الأولى لنهوض المجتمعات الزراعية «قبيلة»، وكان لا بد من توسعتها في نسق تصعد النظم الإقطاعية لاحقاً لتصبح «نسباً قومياً مختلقاً» ليتسق مع متطلبات واشتراطات «العدد المهول من البشر» الخاضعين لسلطة «الإقطاع بصورته الملكية لاحقاً» و فئاته المهيمنة، والذين لم يعد صالحاً جمع «لفيفهم المفروق» في بوتقة «القبيلة» بعد تكاثرهم عددياً وتداخلهم وظيفياً بقوة ومفاعيل النظم الإقطاعية الملكية؛ وهو ما قامت الرأسمالية بعد انقلابها على النظم الإقطاعية السالفة لها، وحلولها محلها، باستثماره إلى أقصاه، وتوسعته، وتنميقه لغوياً وحتى فلسفياً على شاكلة النتاج الفلسفي «البليغ والصعب على الفهم» للفلاسفة الألمان من شاكلة فيخته وهيغل، لمنح «فكرة القومية» المختلقة بُعداً «فكرياً تلفيقياً» أكثر اتساعاً و مهابة يرتفع في نسق الفكر الهيغلي إلى مستوى «المطلق والأسمى»، وغيرها من التخرصات الهرائية التي تتمحور أهدافها حول توطيد القبول بفكرة نَظْم عديد البشر الهائمين في مجتمعات عملاقة في «نسق ما» يضمن انتظام جهودهم الجمعية في خدمة «الفئات المهيمنة في المجتمع على مفاصل السلطة والثروة»، ويضمن عدم توجيه تلك الجهود في محاولة تحسين ظروف ومستوى حيوات أولئك البشر المغرقة في بؤسها جراء عملية نهب «الأقوياء الأثرياء» لكل مقدراتها، ووأدها الممنهج لكل احتمالات خروجها من قمقم بؤسها السرمدي الذي تكابد مفاعيله في حيواتها وقوتها ومستقبل أبنائها.
وفي هذا السياق الأخير لا بد من استدعاء الحقيقة العيانية المشخصة تاريخياً بذلك المخاض العسير الذي خاضته القوى الرأسمالية الناهضة، ومن قبلها القوى الإقطاعية ذات التوجهات التوسعية التغولية ممثلة بالنظم الملكية الكبرى في فرنسا وبريطانيا آنذاك، لمحاولة إدخال فكرة القومية عنوة في «وجدان وعقول أبنائها»، الذين ظلوا على شاكلة كل أقرانهم في القارة الأوربية ينظرون إلى أن انتماءهم في مرحلة تكاثر بني البشر عددياً، واستقرارهم في مجتمعات زراعية، مشخص في انتمائهم إلى المدينة أو القرية أو البلدة التي ولدوا فيها، وليس إلى دولة جامعة يتسيد عرشها ملك أو ملكة أو ما كان على شاكلته. وذلك الواقع أفصح عن نفسه بجلاء منقطع النظير في تأخر استبطان الوعي القومي في كل المدن الإيطالية والعديد من الإمارات والمدن الألمانية التي لم يتم استدماج الوعي القومي فيها على شاكلة ما حدث في بريطانيا وفرنسا إلا بقوة الحديد والنار كما كان في حروب توحيد الإمارات الألمانية بالقوة التي خاضها بسمارك لتوطيد هيمنة إمارة بروسيا على المدن الألمانية المستقلة الأخرى لتخليق «الدولة- الأمة» الألمانية بشكلها المعاصر في العام 1871، وهو ما تم استنساخه في حالة المدن الإيطالية المستقلة على يد حكام مقاطعة بيدمونت -ساردينيا ليكتمل شكله أيضاً في العام 1871، وهو ما يعني عملياً بأن تأصيل وتوطيد «فكرة القومية» بشكل يتجاوز «مفهوم الانتماء الطبيعي إلى المدينة أو القرية أو البلدة» التي ولد فيها الإنسان في مرحلة تطور البشرية المعاصرة تم بالقوة، والقسر، ولما يتم نضوجه طبيعياً بشكل يعبر عن حاجات ورغبات المجتمعات البشرية والأفراد المنتسبين إليها.
وفي نفس السياق الأخير لا بد من التطرق إلى جملة الحقائق التاريخية المرتبطة بتطور وتعضي المجتمعات الناطقة بلسان الضاد، والتي لما يتشكل فيها أي نموذج من الوعي القومي بصورته الأوربية إلى حين استجلابه عنوة من الأوربيين أنفسهم في مرحلة الحرب العالمية الأولى، حيث كان الأفراد المنتسبون إلى تلك المجتمعات قبل تلك الفترة ينظرون بشكل طبيعي إلى أن انتمائهم موزع بحصص متكاملة، حسب الحاجة والظرف الموضوعي في حينه، بين الانتماء القبلي، والمناطقي إلى مدينة أو قرية أو بلدة ما، والانتماء الديني الذي كان يمثل شكلاً من أشكال الثقافة الشعبية الجامعة أكثر من كونه تعاليماً وطقوساً صارمة. وذلك الواقع ظل يفصح عن نفسه بجلاء منقطع النظير على امتداد تاريخ السلطنة العثمانية التي مثلت استطالة متهتكة لحكم المماليك من قبلهم، والتي لم يكن يجد فيها أي من الخاضعين لحكمها بعجره وبجره أي صعوبة في تعريف ذاته «قومياً» إذ لم يكن هناك حدود جغرافية مصطنعة لا بد عليه من استبطانها حقيقة قائمة القوة، و لم يكن ليعيقه سوى مشقة الانتقال والارتحال من بقعة جغرافية إلى أخرى في حدود نفوذ السلطنة الجغرافي الشاسع إن استدعت ظروفه الحياتية ذلك، وبحيث كانت هويته التعريفية مختزلة في انتمائه المناطقي الأصلي بالإضافة إلى احتمال انطواء ذلك الانتماء على انتماء قبلي ضمني أو مشهر مع انتماء ديني واه على شاكلة «الحدس العام» باستعارة من قاموس أنطونيو غرامشي المعرفي.
وفيما يتعلق بالاعتبار السائد الذي ينظر إلى أن اللغة المشتركة هي عنصر التوحيد الأساسي الذي يمكن للمجموعات البشرية المتفاوتة الالتقاء حوله لإضفاء صفة جامعة تمحو الفروقات الداخلية والتباينات بين تلك المجموعات في عملية تذويبية تظهر صَغَارَها تجاه العنصر الجامع الأعظم ممثلاً باللغة المشتركة، فهو اعتقاد يفقد سرعته الابتدائية منطقياً عند التفكر بالحقيقة الأنثروبولوجية الثابتة على مر صيرورة تطور بني البشر الموثق كتابياً منذ بضعة آلاف من السنين، والذي يشير بوضوح إلى أن البشر يميلون إلى تبني اللغة الأكثر كفاءة في تسهيل عملية التواصل فيما بينهم، والتي يغلب أن تكون أكثر سهولة من الناحية اللغوية والقواعدية المحضة، بالإضافة إلى العنصر الأكثر أهمية والمرتبط بميل المجموعات البشرية لتبني لغة الفئة الأكثر هيمنة Hegemony في أي مرحلة زمنية، سواءً كانت تلك الهيمنة ثقافية أو سياسية أو اقتصادية أو كلها مجتمعة.
والمثال الأكثر نصوعاً على تلك الحقائق الأنثروبولوجية الآنفة الذكر هو بقاء اللغة السومرية لغة شبه رسمية في بواكير تصعد الإمبراطورية الأكادية في الألف الثالث قبل الميلاد، لمدة قاربت خمسة قرون بعد ذوبان الأقوام السومرية في حياض الإمبراطورية الأكادية، وذلك جراء الوزن التاريخي التراكمي للهيمنة الثقافية الراسخة للسومريين في منطقة الهلال الخصيب منذ الألف الخامس قبل الميلاد، وهو ما مكنها من الاستمرار ثقافياً وسياسياً حتى بعد اندثارها اجتماعياً. وهو نفس الواقع الذي كرر نفسه في الألف الثاني قبل الميلاد حينما أصبحت الهيمنة للغة الأكادية راسخة في منطقة الهلال الخصيب لتصبح اللغة الأكادية اللغة الرسمية لكل الأقوام التي سكنت المنطقة على الرغم من أن لغاتها المحكية وأسماء أبنائها كانت تختلف عن منطوق اللغة الأكادية بشكل كبير كما كان الحال في حضارة الحوريين ومملكتهم ميتاني في شمال وادي الرافدين.
ويمكن توسعة ذلك بالنظر إلى تسيد اللغة الآرامية منذ النصف الثاني من الألفية الأولى قبل الميلاد وحتى القرن السابع الميلادي في جل مناطق الهلال الخصيب لتصبح بمثابة اللغة المحكية لكل أبناء المنطقة، نظراً لسهولتها القواعدية وقربها اللغوي من اللغات الأخرى المحكية في المنطقة مما جعل تبنيها الجمعي حالة طبيعية لتسهيل تواصل البشر فيما بينهم وتيسير تفاعلهم الحضاري والاقتصادي الذي أصبح ضرورة ملحة مع تزايد أعداد ونمو المجموعات البشرية في منطقة الهلال الخصيب. وقد ينطبق نفس التوصيف الأخير على اللغة العربية الراهنة التي تعتبر أقرب لغات منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا إلى اللغة الآرامية، والتي كان لا بد أن تتخلى عن موقع الصدارة ليحل محلها لغة الأقوام الصاعدين إلى عرش الهيمنة Hegemony السياسية والفكرية الدينية والاقتصادية القادمين من شبه الجزيرة العربية في مرحلة حلول الدين الإسلامي ولغته على نفس الفضاء الجغرافي في مطلع القرن الثامن الميلادي.
وذلك التوصيف الأخير لا بد أن يقود إلى تلمس هشاشة الاتكاء على العنصر اللغوي لمضاهاته بشكل من أشكال وحدة الدم القبلية الجامعة لكل من يتحدثون بها، في محاولة لتوسعة مفهوم القبيلة بشكل يتسق مع شروط العالم المعاصر. وهي هشاشة تبدو واضحة العيان عند استذكار بأن جل سكان أمريكا الجنوبية بكل دولها حالياً وعلى اختلاف أصولهم الإثنية المختلفة التي تتنوع بين بقايا السكان الأصليين من قبائل المايا والآزتك، وأحفاد الكثير من المظلومين الذين تم استئصالهم من مجتمعاتهم في القارة الأفريقية لتحويلهم عبيداً مكبلين بأصفاد المستعمرين، بالإضافة إلى أحفاد الكثير من بقايا المستوطنين الأوربيين، يتحدثون باللغة الإسبانية أو البرتغالية، ولكن ذلك لا يجعلهم إسباناً أو برتغاليين بأي من معايير لي عنق الحقائق التاريخية والمنطقية والتي يمكن من خلالها تصنيفهم اعتباطياً في بوتقة قومية واحدة جامعة مانعة.
وقد يستقيم في نسق التحليل السالف التطرق إلى محاولة الاتكاء على ما يدعى إجمالاً بالتاريخ المشترك الذي لا بد أن يفضي إلى وحدة قومية بشكل ما بين الذين يمثلون حصيلة ذلك التاريخ المشترك، وهو خطاب تهويمي لا يستند على أي أساس من الصحة التاريخية أو الأنثروبولوجية بأي شكل كان، إذ أن تاريخ بني البشر حقيقة يتركز حول نهوضهم عقب تضاؤل أعدادهم خلال العصر الجليدي الأخير، والذي بدأ منذ حوالي 115000 عاماً و أخذ بالانحسار فقط منذ حوالي 11700 عاماً، إلى بضع مئات من البشر في عموم أرجاء البسيطة التي تمكنوا من الوصول إليها، والبقاء فيها على قيد الحياة في سياق مكابدتهم التي لا بد أنها كانت ملحمية لعسف العصر الجليدي الأخير، بشكل يومي إلى أن هناك تاريخاً واحداً لبني البشر ليس ببعيد زمنياً إذا أُخذ في سياق رحلة تطور الجنس البشري المعاصر وأسلافه و أبناء عمومته من أجناس البشر البائدين، والتي امتدت على حوالي سبعة ملايين السنين، وهو تاريخ جامع لكل بني البشر عنوانه العريض شبه الأوحد الصراع من أجل البقاء وحفظ النوع البشري من الانقراض، وهو النوع الحيواني الذي لم يكن لديه من سلاح لمواجهة عسف الطبيعة وضواريها، سوى استخدام قدراته العقلية الفائقة للتواصل والتعاون الجمعي مع أقرانه لتعويض ضعفه البيولوجي الذي تركه عارياً من فرو يقيه برد الشتاء، ومن أنياب ينازل بها عديد الجوارح والكواسر التي تنتظر افتراسه. وهي صيرورة نهوض جنس بني البشر المعاصرين التي لا بد أن تحيلنا إلى حقيقة أن جل المناطق الجغرافية التي حل عليها البشر مثلت بشكل أو بآخر بواتق لصهر وتلاقح وتواشج المجموعات البشرية التي تصادف حلولها على تلك المناطق سواء عبر الهجرة أو بالتمدد بالقوة للتغول على موارد ومصادر حياة المجموعات الأخرى. وقد يكون مثالها الأكثر وصفية هو تاريخ الهلال الخصيب الذي قد يكون من الصعب استثناء استدماج أي حضارة في صيرورة تكوينه التاريخي بدءاً من السومريين والأكاديين والبابليين والآشوريين والكلدانيين والعيلاميين وصولاً إلى الحثيين والحوريين والفراعنة والآراميين مروراً باليونانيين وشعوب الجزر البحرية في البحر المتوسط المعروفين بحسب التوصيف «التوراتي» بالفلسطينيين، والشعوب المرتحلة في البوادي من العموريين، والفينيقيين الذين وصلت حضارتهم إلى جنوب القارة الأوربية في مدن مرسيليا وتولوز الفرنسية راهناً، وجزيرة مالطة وصقلية وسردينيا في البحر المتوسط، ووصولاً إلى الشعوب الكنعانية التي تداخلت اقتصادياً وحضارياً مع الأمهريين والنوبيين وجل القبائل التي كانت تروم القارة الأفريقية من شرقها إلى غربها. وهو نفسه الهلال الخصيب الذي ومنذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد تعاقب على التحكم بمفاتيحه السياسية والاقتصادية الميديون والفرس والرومان الشرقيون في بيزنطة ومن ثم القبائل العربية القادمة من غرب وجنوب شبه الجزيرة العربية، وهم الذين بدورهم فتحوا الباب على مصراعيه لحلول أقوام أخرى في مراكز الثقل السياسي والعسكري في تلك المنطقة توزع بين العديد من المجموعات البشرية التي تحدثت باللغات الفارسية من إقليم خراسان، ومن ثم تلك التي تحدثت باللغات التركية من بلاد الأناضول وآسيا الوسطى وصولاً إلى السلاجقة والبويهيين ومن ثم المماليك والأيوبيون وصولاً إلى الألبان الذين ظلوا يحكمون بشكل فعلي في منطقة بلاد الشام و مصر حتى القرن التاسع عشر. هذا كله دون تناسي عملية الصهر الكلياني التي قامت بها حملة الإسكندر المقدوني اليوناني لتلبيس المنطقة لبوساً ثقافياً واحداً في القرن الثالث قبل الميلاد كان يهدف إلى توطين الحضارة اليونانية في المنطقة بالقوة، وهو ما تحقق له فعلياً بشكل أو بآخر في حملته الشاملة التي أوصلت الحضارة اليونانية إلى عمق شبه القارة الهندية مروراً بكل المناطق الجغرافية التي مر عليها، وقد يكون أهمها الهلال الخصيب الذي قضى الإسكندر المقدوني نحبه في عاصمته بابل آنذاك في القرن الثالث قبل الميلاد.
ويصب في سياق التوصيف الأخير حقيقة أن ما يعرف بالتاريخ الموثق منذ فجر بزوغ الكتابة المسمارية والتصويرية في الألف الثالث قبل الميلاد ما هو إلا توثيق لصراعات الأقوياء فيما بينهم بدماء المستضعفين الذين لم يكن يعنيهم فعلياً انتصار هذا أو ذاك من الأفرقاء الذي سوف يتوجب عليهم دفع الجزية أو الضرائب الباهظة له. وهو ما يعني في الحقيقة أن الاستناد على مقول البشر السالفين لاستنباط حقائق دامغة جامعة مانعة حول انتساب مجموعة بشرية إلى أصل تلفيقي واحد، هو نهج لا يمت إلى النهج العلمي بصلة، وهو الذي يقوم على استخلاص النتائج من الحقائق العيانية المشخصة، والتي في حيز التاريخ المكتوب يصعب غالباً فرز الغث عن السمين فيها، والدعاية السوداء عن الحقائق أو التصورات الشخصية، نظراً لحقيقة أن جل المقهورين المستضعفين لم يقيض لهم المشاركة في كتابة التاريخ في الغالبية العظمى من منعطفات النهوض الحضري للمجموعات البشرية في عموم أرجاء الأرضين. وهو واقع عسر كتابة وتوثيق التاريخ الحق يفصح عن نفسه في حيوات البشر المعاصرين بحالة من الكوميديا السوداء تعبر عنها شجرات الأنساب الخلبية التي يتفاخر بها البشر هنا وهناك، والتي لا تختلف في غرائبيتها عن شجرة نسب عبيد الله مؤسس الدولة الفاطمية في مصر، والذي يعود أصل عائلته وأجداده إلى خراسان، و هو الذي قدم نفسه على أنه من سلالة علي بن أبي طالب القرشي المكي، وكان رده على طلب علماء الأزهر الشريف تقديم ما يثبت صحة نسبه الشريف قبل مبايعته حاكماً لمصر وخليفة لرسول المسلمين محمد بن عبد الله القرشي المكي في القرن العاشر الميلادي، فكان رده بأن شجرة نسبه مكتوبة في صرة دراهمه الذهبية، وأن سند إثبات صحتها كامن في سيفه المزنر به، فكان له ما أراد من قبول علماء الأزهر لصحة نسبه وإسناده ومبايعته حاكماً لمصر وخليفة للمسلمين في عموم أرجاء الأرضين.
وللطرافة فإن نسبة لا تقل عن 40% من عموم المسلمين في عموم أرجاء الأرضين يحتفون بنسبهم الشريف الذي يعود إلى زين العابدين بن علي بن أبي طالب بشكل لا يختلف في نهج تلفيقه كثيراً عن نهج عبيد الله الفاطمي السالف الذكر، على الرغم من أن زين العابدين بن علي كان عليلاً ولما كان ليبقى على قيد الحياة لولا عناية وتمريض أخته زينب له، وعلى الرغم من ذلك فقد تكاثر نسله ليضم في عداده شجرات مؤلفة من الأنساب التي تعود في مآلها الأخير إليه من حدود الصين وأذربيجان في آسيا الوسطى إلى مضيق البوسفور في القارة الأوربية مروراً بأجزاء شاسعة من قارتي آسيا وأفريقيا بمجموعاتها البشرية المتعددة ولغاتها التي قد يصعب إحصاؤها.
وفيما يتعلق بالطموحات والآمال المشتركة التي يحتسبها المنظرون القوميون بمثابة عنصر جامع مانع للفيف مفروق من المجتمعات تحت راية قومية واحدة، فإن الحقيقة العلمية التي تثبتها أبحاث وظائف الدماغ والعقل البشريين تشير إلى أن كل البشر ككائنات حيوانية عاقلة واجتماعية بامتياز يستبطنون في بنيان أدمغتهم دارات دماغية تنقت عبر صيرورة الاصطفاء الطبيعي لا بد أن تجعل من طموحاتهم وآمالهم منطلقة من جملة من الأهداف الثابتة المتعلقة بحفظ النوع من الانقراض مشخصاً في السعي الفطري لتحقيق حد أدنى من الأمان والطمأنينة في الحياة اليومية المعاشة، بالتوازي مع الاجتهاد الدائب لنقل مورثات العضوية البشرية إلى الأجيال اللاحقة، وهي وظيفة بيولوجية لا يتغاير فيها أبناء بني البشر عن أي من أقرانهم في مملكة الحيوانات، وهي التي تعني بشكل عياني مشخص سعي كل فرد لتأمين قوته وقوت عياله، وضمان سقف فوق رؤوسهم يقيهم عسف الطبيعة، بالتوازي مع الدأب لتأمين كل ما قد يسهم في الحفاظ على صحتهم من شرور الأمراض الفتاكة وغيرها، والتي قد تكون أهم أسباب اندثار بني البشر من وجودهم على وجه البسيطة. وبشكل أكثر تبسيطاً فإن طموح كل بني البشر الطبيعيين لا بد أن يتركز حول تأمين قوتهم وأمانهم وصحتهم وتعليم أبنائهم؛ وكل ما سوى ذلك فإنه لا يتعدى أن يكون انزلاقاً لبني البشر في لعبة الرأسمالية الحاذقة في تحويل ما قد يعجب الفرد ويبهره إلى حاجة ملحة لا يمكنه العيش من دونها، وبشكل يحوله من «إنسان عاقل» إلى «مستهلك نهم» لا هم له إلا الإبحار في طوفان المستهلكات التي تزين له الرأسمالية مفاتن اقتنائها بحيث تصبح هي ضالته وسبب وجوده في حياته الدنيا، في تشويه متعمد وصارخ لكل ما هو طبيعي وبنيوي في أدمغة وعقول بني البشر وتم تنقيته على امتداد سبعة ملايين من السنين بقوة الاصطفاء الطبيعي.
والواقع أن الطموحات الكبرى التي يتحذلق بها الكتاب والمنظرون وتشكل ناظماً عاماً يجمع المجموعات البشرية حولها، منذ تفتقات الفيلسوف الألماني فيخته وتنظيره للقومية الألمانية «الفائقة للعادة»، وما أنتجه من بعده هيغل في فكره التبجيلي «للدولة التنينية» الجامعة والناظمة ومحققة الإرادة التاريخية للشعب الألماني «العظيم»، ومن بعده «الفكر العنصري المتحذلق» لمارتن هايدجر في تنظيره «لرفعة القومية الألمانية» و«رسالتها التاريخية السامية» لترقية البشرية ونقلها إلى مرحلة جديدة ورتبة عليا بين جميع الأقوام الأخرى، وصولاً إلى الاستجلابات المسخية لتلك الأفكار ومحاولة توطينها عنوة في غير موضع من أرجاء المعمورة، مثلما حدث في تفتقات الفكر القومي في العالم العربي، لا تمثل إلا تورية لمشاريع مواربة تهدف إلى توطيد هيمنة الأقوياء على المستضعفين، وتبرير تلك الهيمنة بكونها تضحية لا بد منها على مذبح «القومية الخالصة» التي دون بذل «دماء المستضعفين المقهورين» لن يمكنها التصعد لتحقق «رسالتها الخالدة» بين الأمم، وهو ما يعني في الواقع «توطيد هيمنة المنافقين» من الأقوياء الأثرياء المتلطين وراء ستارات الحذلقات الخطابية والشعارات الرنانة التي لا تغير من جوهرها البائس والمسخ شيئاً.
والتشبث بقشة «الوحدة في العادات والتقاليد والإرث الحضاري» لتبرير اختراع «قومية جامعة مانعة» قد يمثل أس تهافت المنظرين لذلك النسق الفكري القاصر والهجين في أحسن أحواله، إذ أن مفهوم العادات والتقاليد والإرث الحضاري مفهوم مطاط ومائع ولا ملامح واضحة له، فالحقيقة أن هناك درجة كبيرة من الاختلاف في الميول الشخصية بين الأفراد الذين ينتسبون إلى نفس المجموعة البشرية، وهو ما يتسق مع اكتشافات علم وظائف الدماغ والعقل البشريين التي تومي إلى أن تباين الميول والاتجاهات في خضم أي مجموعة بشرية ضروري لضمان قيام الأفراد المنتسبين إليها بكل الوظائف التي يقتضيها واجب الحفاظ على وجود المجموعة البشرية بكليتها كوحدة عضوية اجتماعية يمثل الحفاظ على كينونتها ضرورة وجودية لكل كائن بشري ينتسب إليها.
وكمثال أكثر اتساعاً وتبئيراً عن الحقيقة الآنفة فإن جل الدراسات الأنثروبولوجية تشير إلى عدم اختلاف العادات والتقاليد بمفهومها العام بين سكان البحر المتوسط على اختلاف مرجعياتهم اللغوية والإثنية والدينية. ونفس التوصيف ينطبق على ما قد يستقيم تسميته «ثقافة شعبية» بين البشر المنتمين إلى عشرات المجموعات البشرية الإثنية الممتدة من تركستان الشرقية في غرب الصين وحتى تخوم الصحراء الغربية على المحيط الأطلسي.
وفي الواقع فإن جل أدبيات الفكر القومي العربي ممثلاً بأيديولوجيا حزب البعث العربي الاشتراكي هي أدبيات مستقاة بعجرها وبجرها من فكر الفاشية الإيطالية بصورته الأكثر تنميقاً، والتي أنتجها حزب العمال الألماني القومي الاشتراكي والذي كان يدعى اختصاراً بالحزب النازي والذي قاده زعيمه أدولف هتلر إلى ما كان يحتمل تصعيده ليصل إلى مرحلة تدمير كلياني لكوكب الأرض في حال نجاحه في تصنيع قنبلة نووية في توقيت مناسب قبل تفاقم خسارته على الجبهتين الغربية والشرقية. وفيما يتعلق ببعد «الاشتراكية» في ذلك الفكر «البربري» فهي لم تكن تعني سوى «رأسمالية خالصة للدولة» بشكل لا يختلف كثيراً عما كان سائداً في الاتحاد السوفيتي قبل انهياره، وفي «الصين الشعبية» راهناً التي تعني فيها الاشتراكية «اشتراك الشعب في الطحن السرمدي لكل مكوناته بماكينة الدولة الأمنية وحزبها القائد للدولة والمجتمع». وهو الواقع الشامل عمقاً وسطحاً وعمودياً وأفقياً في كل الأنظمة العربية التي تبنت ذلك النموذج «المسخي» من استجلاب الفكر القومي الأوروبي بأرذل صوره إلى العالم العربي، واستخدامه ذريعة لهيمنة «طغمة فاسدة مفسدة مافيوية» على مقدرات شعوبها، وتحويل تلك الأخيرة إلى «رقيق دون أغلال» لا خيار لهم إلا بالتسبيح بحمد «الطغاة القوميين الأفذاذ وقادتهم الملهمين»، الذين لم يفلحوا برغائهم القومي في العالم العربي إلا بتوطين طوفانات من البلاءات التي لم تنقطع فيه بدءاً من تأصيل بنيان الدول القمعية الشمولية الأمنية على شاكلة الجمهورية العربية المتحدة، ومن بعدها سورية الأسد، وعراق صدام حسين، وليبيا المخبول القذافي، وما أنتجته من صراعات وشقاقات وحروب بينية مع الجيران والأشقاء لم يدفع ثمنها سوى المعذبون المقهورون من البسطاء الذين هم في أحسن الأحوال أمناء على أنسابهم، وبالكاد يعرفون جدهم الثاني أو الثالث، ولم يكن يعنيهم أي من التلفيقات والتحذلقات التي لما تملأ معداتهم الخاوية أو تقي أبناءهم شر الموت الزؤام العبثي؛ وصولاً إلى نكسة حزيران وخسارة الجولان، واحتلال الشعب المظلوم في الصحراء الغربية، وخطيئة غزو الكويت، والجرائم ضد الإنسانية الفاجعة التي تم ارتكابها بحق الأقليات في غير موضع من العالم العربي، قد يكون أهمها التعامل الفاشي الذي قام به البعثيون الأرذال مع المظلومين من «الأكراد» ومعاملتهم كما لو أنهم غزاة محتلون في أرض آبائهم وأجدادهم منذ الألف الثاني قبل الميلاد، وهو ما أظهر وجهه القبيح في غير مرحلة قد يكون أكثرها قبحاً عمليات التهجير القسري والتطهير العرقي التي سماها البعثيون الأرذال على ضفتي نهر دجلة عمليات « تخليق الحزام العربي»، بالإضافة إلى عمليات الإبادة المنظمة لهم بأسلحة التدمير الشامل وغيرها كما كان في تراجيديا الإبادة الجماعية في حلبجة وما كان على شاكلتها ولم تصل أخباره إلى المراقبين في خارج البوتقة البعثية الفاشية المافيوية.
وخلاصة القول قد يستقيم تكثيفها في التشديد على الضرورة الملحة لإعادة الاعتبار لقيمة التواصل الإنساني بين البشر على أساس احترام حقوق الإنسان الطبيعية والأساسية وعلى رأسها حق كل إنسان بالكرامة والعدالة والحرية والاحترام لكينونته الإنسانية بغض النظر عن أي تخرصات تلفيقية مصطنعة لتفريق البشر عن بعضهم، لصالح توطيد هيمنة الأقوياء الأثرياء على المقهورين المستضعفين عبر الاتكاء المخاتل الموارب أو الصفيق الصارخ على شعارات رنانة خلبية من قبيل الانتماءات القومية التي لا سند علمياً لها، والتي هي في أحسن الأحوال تفتقات بهلوانية تسعى لتوسعة وحذلقة الميولات الغريزية للانتماء إلى مجموعة بشرية أصبحت قبيلة في صيرورة استقرار البشر في المجتمعات الزراعية، وكان لا بد من مطها في مرحلة تصعد نمط الإنتاج الإمبريالي الرأسمالي وتلبيسها بلبوس لغوي وتنظيري منمق وإظهارها بحُلة جديدة على شكل «هويات قومية مصطنعة» لا تغير من جوهرها الفارغ من أي سند علمي أو تاريخي أو أنثروبولوجي أو لغوي عند النظر المتحقق المستبصر في آلية تخليقها وبؤس تلافيفها وحناياها وإفرازاتها القيحية على المستوى الكوني.