لطالما كنا ننظرُ لصورتنا القديمة من خلال ما كتبه المستشرقون عنا، ولكن قلّما كان يحدث العكس، فنقرأ ما كتبه العُمانيون عن “الآخر” باعتباره الجحيم أو النعيم، فكما يبدو “فإنّ الكشوفات الجغرافية، وما أعقبها من تغيرات جذرية على مستوى العالم، أدخلت عُمان في علاقات مع أممٍ وشعوبٍ لم تعهدها من قبل”.
وقد يبدو مفاجئا أن نعرف أنّه، “لم تكن ثمّة إشارة لقارة أوروبا وشعوبها وثقافتها في نصوص التّراث العُماني المُدوّن قبل القرن الخامس عشر الميلادي!”، الأمر الذي صعّب على الباحثين رصد الانطباعات الأولية التي تركها “الآخر” في الذاكرة العُمانية، وذلك بسبب تجاهل النخب الثقافية توثيق اللحظة الفارقة في تاريخهم السياسي والاجتماعي!
استطاع الباحث ناصر السعدي عبر كتابه “الأوروبيّون في مدونات التراث العُماني (1498-1950)، الصادر برفقة العدد 107 من مجلة نزوى، أن يُقدم لنا مراحل تطور نظرة أهل عُمان للأوروبيين على مدى أكثر من أربعة قرون، ويقصد بالمدونة العُمانية: الأدب والفقه وكتب التاريخ وأدب الرحلات.
يحاول السعدي الوقوف على السّياقات التي أنتجت الصورة، والتغيرات التي شابتها من زمنٍ لآخر، بدءا من نزول أوّل أمّة أوروبية إلى السواحل العُمانية عام 1507م، وحتى منتصف القرن العشرين.
وكما بدا جليا فإن العامل السياسي أثر –في البدايات- في تشكّل صورة سلبية تجاه الأوروبيين، بسبب الهيمنة السياسية والثقافيّة؛ إلا أنّها ما لبثت أن خفتت في حقبٍ تالية.
قسّم السعدي مراحل تطور الصورة لأربع مراحل: مرحلة الملاح أحمد بن ماجد، حين وصف خوف الناس ورعبهم من البرتغاليين ومن سفنهم المحشوّة بالبارود والنيران، الأمر الذي أدى إلى ترسيخ نظرة سلبيّة، لم تستطع الأيام والسنون محوها بسرعة.
ويرجعُ السعدي سبب تجاهل العُمانيين الكتابة في البدايات، لانعدام الرابط الوجداني والثقافيّ والجغرافي.. “بدءًا من سحنات الوجوه، واللغة، وشكل السفن، والأسلحة، والصليب الذي يعتلي الأشرعة والصواري”!.
كان البحارة أحمد بن ماجد، أول من ذكرهم في أراجيزه باسم ” بلاد الإفرنج”، ثمّ مرّ زمنٌ طويل لم يُكتب فيه شيء، حتى القرن السابع عشر الميلادي عندما هُزم البرتغاليون على يد دولة اليعاربة، فخرجتْ الكتابات التي وسمتهم بسمات الذلّ والخزي والعار، فاستعادت الذات العُمانية توازناتها، وغدا الأوروبي ينظر إليها بمنظور التكافؤ والنديّة. ثمّ جاءت المرحلة الانتقالية التي اتسمت بالحذر والشك من كل ما هو أوروبي.
أمّا المرحلة الرابعة، فقد تبدت فيها ملامح الإعجاب والانبهار بالحضارة الأوروبية. “حيث تزايد انفتاح أهل عُمان على الفضاء الأوروبي منذ القرن التاسع عشر الميلادي، وبدأت الرحلات العمانية تتوافد على أوروبا بدءا برحلات علي بن ناصر البوسعيدي عام 1838م و1842م و1844م كمبعوث للسيد سعيد بن سلطان، على متن السفينة سلطانة، ولكن هذه الرحلات الثلاث لم تخلّف نصًّا ثقافيًّا يُمكن أن يترك أثراً”!
ثم تلاها انتقال السيّدة سالمة بنت سعيد بن سلطان للعيش في أوروبا، فقد غادرت زنجبار عام 1867م، وعاشت في ألمانيا وتنقلت بين مدن أوروبية عديدة، ونشرت مذكراتها في عام 1886م.
وقد وصل السيد برغش إلى أوروبا في عام 1875م، وطاف مدنًا أوروبيّة، ودوّن زاهر بن سعيد البحري تفاصيل تلك الرحلة، ونقل ما رآه من مشاهد في كتاب حمل عنوان “تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجبار”، وشهدت تلك الرحلة “أول لقاء عماني برتغالي ذُكر في المصادر التاريخيّة منذ أن خرجوا من عُمان، وهذه المرة في لشبونة معقل البرتغال”.
يلقي الكتاب نظرة على تطور المفردات السياسيّة والاجتماعية والدينية، وفهم دلالاتها، ويشير إلى الذهنية العُمانية التي لم تستسغ التسميات ذات الهويّات القطرية قبل القرن العشرين، فحلّت بدلاً منها تسميات ذات بعد عرقيّ ودينيّ مثل: “الإفرنج والنصارى”.
لم تبدأ العلاقة بأوروبا على شكل مثاقفة طبيعيّة، إنّما كانت فرضاً بالقوة، مما أعطى صورة عدائية في البدايات الأولى، بل إنّ أحدهم كان يتساءل قبل عام 1871، خوفاً من الوقوع في الآثام عن الحكم فيما إذا “قام المرء بتأجير منزله لأوروبي؟”.
*جريدة عُمان