يقطع الكتّاب الخطوط الفاصلة بين الجنسين طوال الوقت؛ إذ ندر أن يخلو أدب من الجنسين يتناوب صوت الكاتب بينهما. لكن الأمر يصبح أكثر لفتًا للانتباه حين يكون بطل الكاتب من الجنس المقابل لوضوح الظلال الملقاة على حياته الداخلية واتساع الهامش النفسي الذي يتضمن نوازعه وتردده وخيباته، كما يصير من الملفت للانتباه استخدام الصوت المقابل في الحب والعلاقات الجسدية. غير أن هناك كُتّابًا أتقنوا استخدام الصوت الآخر بحيث لم يعد ليخطر على بال القارئ سؤال مقابل لو أن امرأة كتبت هذا النص هل كان الوضع ليكون مختلفًا؟ من أمثال ليو تولستوي في رائعته “آنا كارنينا” وغوستاف فلوبير في “مدام بوفاري”. كما أجادت كاتبات من النساء في المقابل النسج حول الشخصية الذكورية من أمثال أغاثا كريستي في “مقتل روجر أكرويد” وشارلوت برونتي في “البروفيسور” ودونا تارت في “التاريخ المخفي”. لكن هذا ليس هو الحال على الدوام، فتبادل الأصوات الجندرية يعد من أصعب مهمات الكتّاب على اختلاف هويتهم الجندرية.
ورغم أن التباين يظهر على أشدّه في النصوص المقروؤة المتروكة لخيال القُرّاء وتأويلاتهم، حيث يتدخل العنصر المؤدي في النصوص المنذورة للتمثيل على مسرح أو على شاشة ليضفي بُعدًا مقربًا يتدارك أي خلل جندري ممكن، إلا أنه حتى في هذه الحالة قد يقع الكتّاب في مأزق جندري حقيقي. فقد أخذ الكثير من القراء/ المشاهدين على روايات جي كي رولنغ المتمحورة حول شخصية هاري بوتر عجزها عن خلق شخصية رجولية مقنعة لهاري كلما تقدم بالعمر.
تقول الطبيبة النفسية فيفيان ديلر: “عندما يكتب الكُتّاب من جنسهم ينطلقون من تجاربهم بحيث تتم عملية الكتابة من الداخل إلى الخارج، أما في الحالة المقابلة فإنهم يستلهمون البيئة من الخارج نحو الداخل”. الحديث من جهة جندرية معاكسة يعني بناء تصورات منفصلة عن التلقائية المباشرة وقد يعني المغالاة في رد الفعل القائم على تصور بالاختلاف المطلق الذي يضع الأشياء على طرفي نقيض. ولكنه قد يعني أيضًا بالمقابل قدرة ذهنية أكبر على الموضوعية وفصل الذات ومثيلاتها في الجنس عن المشهد برمته، حيث ينأى الكاتب بنفسه عن تهمة اتصاله العضوي بصيرورة حيوات أبطاله كامتداد أو تأريخ أو حتى رغبات دفينة في حياته الشخصية.
يعد الكُتّاب كائنات متحيزة بطبيعة الحال والشخصيات المنبثقة من خيالها هي انعكاس بشكل أو بآخر لتجاربهم وآرائهم ومواقفهم من القضايا الإنسانية، إلا أن العنصر الجنساني يعد مكونًا أساسيًا في هوية الإنسان والطريقة التي يتلقاه بها العالم من حوله. وبخلاف أي من عناصر الهوية الأخرى فإن عنصر الجنسانية لا يمكن فصله عن صيرورة الإنسان وتاريخه ووجدانه وشخصيته التي تأتي كنتيجة أو كمسبب بحسب النظر إلى الأدوار الجندرية ومدى أصالتها من اكتسابها. وبالتالي فإن الكتابة من نظرة جندرية مشابهة يعني انعكاسًا لمنطق الشخصية وتجاربها من زاوية ذاتية أما الكتابة عن الجنس الآخر فيعني الانطلاق ابتداء من تصورات قد تكون وقد لا تكون حقيقية عن الآخر والأسوأ إمكانية انطلاقها من قوالب نمطية وأحكام مسبقة.
تتسيد النساء عالم ألبرتو مورافيا، 1906-1990، الكاتب الإيطالي الذي وُلِد وعاش معظم حياته في روما، ويؤثثن ببراعة “صوت البحر”، وهي مجموعة قصصية من ثلاث عشرة قصة أبطالها من النساء. وعلى عكس المتوقع لم ينخرط مورافيا في رسم الشبكات الحيوية لعلاقات الجنسين وتطلعاتهما وصراعاتهما وفرصهما المتباينة من ناحية جندرية، بل ظهر انعكاس الحيوات الداخلية والتجارب الناتجة عن المزج بين الجنسانية والظروف المحيطة.
انشغل صاحب “الاحتقار” و”السأم” و”الانتباه” بضعف البنى المجتمعية وتحولات المجتمع الإيطالي خاصة البرجوازية الناشئة، لكنه تخلى خلال مسيرته وهو المولود لعائلة إيطالية ثرية عن ماركسيته المتطرفة باتجاه الفرويدية التي تجلت لديه بتحليل العلاقة بين الجنسين ومآلات النشاط الجنسي وتصوير الاغتراب الاجتماعي المبني على العزلة. فصوّر محنة الفرد المؤنث كمخلوق محكوم بالخطيئة والفناء، في ظل عالم متطلب ومليء باليأس. وظهرت بطلة مورافيا المرهقة من الحياة والباحثة بضجر وبرود عن الملذات، إلى الحد الذي أشار معه بعض متتبعي سيرة مورافيا إلى احتلال أدريانا وهي المومس في “امرأة من روما” دور البطولة الحقيقية في أدب مورافيا؛ فقد برزت المرأة التي تعيش حياة حسية ساخرة وبرعت في فهم جسدها وأمزجة عشاقها بقوة في حكايات مورافيا وكانت مدخلًا جريئًا لعرض الثقافة الشعبية الموروثة عن الانغماس في الفجاجة والإيماءات الغريزية المتكشفة والفظة الصادمة لتصور الطبقة العليا، والتي رأى فيها البعض انتقامًا من برجوازية مورافيا وكرهه لذاته ومنبته. بينما أشار البعض الآخر إلى نأي العلاقات الجسدية عن تشكيل مركز عالم مورافيا باتجاه الدور الذي يلعبه الجسد أو المال أو الفقر في هذا العالم المليء بالإيحاءات والاستطرادات والإشارات التي ترسم عالمًا من السأم والتخلع كتعبير عن رفض الحياة القائمة، والبحث عن بديل “أخلاقي” نظيف لها يخرج عن تصورات المجتمع القائم باتجاه معاكس، هو لدى مورافيا الأخلاقية المناوئة للبرجوازية وتقاليدها الصارمة.
ظهرت هذه النزعة جلية في قصة “الحياة غير النظيفة” في المجموعة، حيث تحاكم المرأة خاطبها الباحث عن حياة برجوازية تقليدية يشتغل فيها بالتجارة بينما تنجب هي أطفالًا كثرًا: “لقد عرفتَ كيف تذهب مباشرة إلى ما وراء مظهري كامرأة لا تجيد إلا تعرية جسدها، فهمتَ أني مختلفة عما أبدو. وبدلًا من أن تقوم بما يسمونه “مغازلة” رأيت أن تقترح علي شيئًا جديًا وللأسف فإن الحياة النظيفة ليست شيئًا جديًا” “وما هو الشيء الجدي إذًا؟ “ربما يكون العكس، ربما تكون الحياة غير النظيفة”.
كمبدأ عام فإن عملية خلق شخصية مناوئة جنسانيًا تتطلب وعيًا حاضرًا وحذرًا متصلًا أثناء التوغل في عملية الكتابة؛ إذ يتباين الوصف الابتدائي المتعلق بعالم المرأة عنه في عالم الرجل؛ فبينما ينشغل الكاتب الرجل بالإسهاب في وصف القد وانحناءة الردفين وتكور الثديين كأنهما نبتا لحظة كتابة النص وهو الحقيقة بالنسبة للرجل، تنشغل الكاتبة الأنثى بوصف الملبس والمظهر العام الذي يعكس ظرف الشخصية وبيئتها. طبعًا قد يختلف الموقف عندما يتدخل عنصر الميل الجنسي لدى الكاتب\ة بما يخرج الواقع من هذه التعميمات. إلا أن مورافيا لا يكترث بمدى إقناع المرأة في دورها الجندري؛ إذ تظهر المرأة الواعية بجمالها ونهديها المتدفقين وشفاهها الشهوانية امرأة مكبوتة ترفض غرائزها وتضحي بالحب في مقابل المال. وتظل المرأة شديدة الوعي بجسدها حتى وهي تتبع فلسفة وجودية وتبحث في ماهية الزمن “بينما كنت أقصع جسدي الجميل إلى الخلف… تدفق الماء الغالي يغمر نهدي ويجعلهما قاسيين أحمرين أشبه بمرمر وردي عند ذاك وافتني الفكرة الزمن غير موجود”. يرتبط الجسد أيضًا بالأخلاق عند مورافيا، فالعقدة الأخلاقية المرتبطة بالمال وبيع الجسد مقابل المصالح المادية ترتبط لديه بقدرة المرأة على اكتشاف العيوب الجسدية المنفرة في زوجها، إذ كل مرة ينافق فيها مديره تتكور عجيزته وتهتز ويبرز بطنه وينتفخ لتشعر زوجته بالاشمئزاز وتتحول إلى الرذيلة دون تأنيب ضمير.
يتجاهل مورافيا من ناحية أخرى فكرة تجانس الصوت في المتن والخلفية الوصفية كضرورة لخلق شخصية واقعية. إذ لا يمانع في أن يتدخل أحيانًا بتصوره عن المرأة ليتساءل صادقًا عن كينونتها كأنما يبادل بين صوته “صوت الآخر” وصوتها ذاته في قصة امرأة عادية حيث يقرر “بعد ممارسة الحب تحس المرأة العادية بسعادة غامرة، لكنها تحس في الوقت نفسه بتعاسة لأنها سعيدة. هل يمكننا أن نعرف ما فائدة التعقيد إذا كان المرء يتصرف في النهاية كشخص بسيط؟” وتظهر نساء مورافيا على هيئة علامات استفهام كبيرة جارّات وراءهن قدرًا من الدهشة والمفاجأة، ليقرر على لسان امرأة منهن أنه قد “نما لدي انطباع بأني حيوان أكثر مني إنسان فخلصت إلى التساؤل عن معنى أن يكون المرء امرأة جدًا”. ثم ليتوج فكرته في آخر قصة في المجموعة “اكتشاف الاكتشافات” حيث تتنقل الفتاة من بائعة هوى إلى مومس محترفة ثم سارقة في محاولة للبحث عن هويتها لتشير في جوهر قصتها لمحاولات مورافيا لفهم ورسم نسائه “في الشارع نما لدي من جديد انطباع بأني قمت باكتشاف ولكن هذه المرة يعني اكتشاف عملية الاكتشافات”.
(ضفة ثالثة)