كانت دائماً الكتابة وسيلة للبوح بالنسبة إلي، كنت أعبر بها عما يخالجني، أحدثني وأنا أرص الحروف جنباً إلى جنب، حين كنت أملأ الورقة البيضاء حبراً، أشعر وكأن هماً انزاح عني، لا يهم ما أكتبه لكن فعل الكتابة كان نفسه هو الحدث.
كتبت الكثير وعن كثيرين، كنت أحول همومي إلى شخصيات أحكي عنها في قصصي التي لم تنشر ولن تنشر، لم تكن تلك الخطوط المتموجة تعني شيئاً للآخرين، لكنها كانت مقياساً لانفعالاتي، لما يجول في خاطري، تعبيراً عن مآسيّ الصغيرة، خط الهروب إلى الأمام من ذلك الواقع الذي دائماً ما كنت أفكر بمن جعله على هذا الشكل ليكون مدرسة لإخراج المعطوبين.
نعم كنت أخاف مما أكتب، لأننا ببساطة نعري دواخلنا أمام الغرباء، لن يفهموا ما معنى أن تكون الكتابة علاجاً لجروحك، وأن تكون جروحك دافعك للكتابة.
سمعت يوماً أحدهم في الراديو يقول “لا يكتب من لا يقرأ”، كنت أريد أن أجيبه قائلة: “لا يكتب من لم يعش المأساة”. تركت المأساة مشرّعةً ففي كل تجربة إنسانية مأساة، وتركيبتنا الهشة تجعلنا نقدس الحزن أكثر من الفرح، السعادة لا تخلق العظماء، لا تكشف لك الوجه الحقيقي للحياة ولا تغرس في دواخلك رمحاً يقلِب أحشاءك، ولا تغسل أحلامك بماء من نار.
اللاستقرار كان حافزاً للكتابة بالنسبة إلي، كنت أجد فيه دافعاً للغوص في نفسي واصطياد كومة المشاعر المختلطة لفرزها وترتيبها في نسق جميل أطلق عليه “نص أدبي”، لا أصنفه لا في خانة الشعر ولا القصة ولا الرواية… لكنه كان يمثلني أنا، مزيج بين هذا وذاك فيه من روحي، وروحي حالمة، هائمة وحرة لا تحب التصنيف.
لكن كل هذا الحب للكتابة سيتلاشى فجأة، سأجدني في يوم من الأيام، لا أقوى على كتابة حرف، لا استطيع ترجمة ما أشعر به، شيء ما في داخلي انكسر، تغير، أو ربما لم تكن الكلمات بحجم مأساتي، كان إحساساً مخيفاً، مرعباً وصادماً، كان هناك انفجار نووي داخلي ترك فراغاً بحجم خيباتي، لم أكن أعي التحولات التي أعيشها، ولم استوعب كيف لي أن أفقد الوسيلة الوحيدة التي أخفف بها عن نفسي، الكتابة كانت طبيبي النفسي وقد مات.
قلت لنفسي بصوت عالٍ لعلِني أسمعه وأفهمه، “هاجر ضحية اختفاء قسري، ولن تعود مجدداً”، بكيت بحرقة إلى أن جفت دموعي، وأصبح البكاء أشبه بمهمة مستحيلة، كنت أريد فقط أن أعرف إن كنت قد مت، أن أرى نعشي وأزور قبري، وإن كنت ما زلت على قيد الحياة، أن أجدني، أن أعالجني، أن أحضنني فرب حضن أحيا الموتى.
شهور وأنا أحاول في كل مرة، أن أحمل حاسوبي وأكتب شيئاً، لم أستطع، فقدت الإحساس، لم أكن أشعر لا بالحزن ولا الفرح، مشاعري تجمدت، أشعر بالحياد، كنت مثل الماء لا لون ولا طعم ولا رائحة لي، أصبحت مثل الدمى شكلها الخارجي يوحي بأن لها ملامح إنسانية لكنها فارغة من الداخل، نعم لقد كنت فارغة من كل شيء، لم يعد يؤثر في شيء، لا الموت ولا المرض أو الحزن، أصبحت إنسانة بدون مشاعر ولا أحاسيس، كل شيء بالنسبة إلي مألوف، كأنني سبق أن عشت ذلك المشهد في زمن آخر.
في إحدى المرات توفي شخص عزيز علي، فاتصلوا بي ليبلغوني الخبر، لم أكن أعرف ماذا أقول، لأنني لم أشعر بشيء وبدا الخبر “عادياً” بالنسبة إلي، حاولت تمثيل أنني حزينة لكنني فاشلة حتى في التشخيص، كنت أعي أن الحدث مؤل وأن علي ألا أكون على ما يرام، عليَّ أن أبكي وأشعر بالفقد، لكن هذا لم يحدث، لم يكن بيدي، لست مسؤولة عن ما يحدث لي، أنا ليست “أنا”.
كان هناك صديق لي يحثني على كتابة تجربتي لربما أخرج مما أنا فيه، لكنني كنت أشعر بأنني لست من عاشت تلك التجربة، حتى حين كنت أتكلم عنها، أشعر كأنني أحكي عن رواية لست بطلتها، من الصعب أن تشرح لإنسان آخر ما تعيشه من إحساس بالعدمية واللاجدوى، لن يفهمه لأنني قبل أن أعيش التجربة لم أكن لأصدق أن هذا يمكن أن يحدث.
تخيلوا أن تتحول الكتابة من شيء ممتع إلى فعل انتحار، إحساس مقرف عندما تكتب شيئاَ أنت لست معنياً به، تصبح الكتابة كأنها “تجارة”، تبيع قلمك لتعيش أو لترضي الآخرين… كان صوت داخلي يقول لي إنني لم “أعد صالحة للكتابة، الكتابة ليست مهنتي”.
قاومت لقرابة ثلاث سنوات هذا الصوت، ناضلت بكل ما فيّ لأستعيد شغفي بالكتابة، لأستعيد إنسانيتي وروحي، لم أعاتب أحداً على ما عشته، لأنني كنت أعلم أن هذا كله سينتهي يوماً ما وسأعود لموطني، “الكتابة”. النجاة من الضياع تستحق الاحتفال ورفع نخب العودة، وأنا كنت ضائعة في ظلام حالك سببه انفجار استبداد وطني داخلي.
*موقع درج
*هاجر الريسوني صحافية مغربية ألقي القبض عليها عام 2019 مع خطيبها الناشط الحقوقي السوداني رفعت الأمين، عند خروجهما من عيادة طبيب في حي وسط العاصمة المغربية الرباط. ولفّقت النيابة العامة تهماً لهاجر بالخضوع لإجهاض سري، في محاولة لمعاقبتها على مواقفها السياسية المعارضة. وسجنت لمدة عام قبل أن تخرج بعفو من الملك محمد السادس.