نور عباس: العوالم المتضادة ولحظة اشتغال النسق المهمش.. قراءة في رواية هيا نشتر شاعراً.

0

       تتناول الرواية -تخيليياً- لحظة التقاء عالَمين متناقضين: عالم مغرق في ماديته، تفقد فيه الذات كينونتها الإنسانية لتتحول إلى رقم؛ (لديك شاعر، قال الضيف 3. واووو رائع أنا أحب الشعر، قال الضيف 4)، وتغدو المشاعر والانفعالات الإنسانية مجردة من ماهيتها الروحية وخاضعة للنسب المئوية؛ (أنا عاشق، قال. كم؟ سألت. بنسبة سبعين بالمئة. واووو), وعالم مغاير -يمثله الشاعر- تعلو فيه قيمة الحساسية التخييلية الانفعالية، ويتجلى فيه الإنسان وفق صيغته الشاعرية الجمالية (قال الشاعر: الناس يرون الوقت يمرّ في حين نراه نحن يتوقف، ثانية واحد تعادل الأبدية(.

       يتحاور هذان العالمان, نصّياً, ليؤثر الروحي الانفعالي بالذات المادية النفعية، فينبهها إلى جماليات المجاز وقيمته، ويوقظ الذات الشاعرة الكامنة داخلها.

       وتتعامل الذات الممثلة للمادية مع النسق الروحي الشاعري الكامن فيها, والمُكتشف حديثاً تعاملاً إنكارياً (لاحظت الرعب يتسلق وجهه. يتسلق وجهه؟ هل أصبحتِ شاعرة؟)

فعندما يعبر النسق التخييلي عن نفسه من طريق عبارة شاعرية مجازية يقوم النسق العقلاني المادي بعملية قمعية إنكارية في سبيل إلغاء التحول اللغوي الجمالي وإعادة الكيان -مباشرةً- إلى صيغته اللغوية المادية.

       فالنسق المادي يحاول إسكات النسق الشاعري المهمش أطول مدة زمنية ممكنة، استناداً إلى العملية النفسية الإنكارية؛ إذ ينكر حضور هذا النسق، وينظر إلى بروزه نظرة استغرابية اندهاشية.

       وهذه العملية الإنكارية الدفاعية قد تؤخر البروز الفاقع للنسق الروحي، ولكنها لا تحجبه نهائياً، فالنسق المهمش فور تحركه والانتباه إليه سيستمر تأثيره في أعماق الكيان الحاضر فيه.

       وهذا ما حدث مع الطفلة في الرواية، إذ بقي النسق المجازي المهمش حاضراً فيها ومؤثراً بها إلى أن أضحت شابة، فالشاعر الذي ستستمر الفتاة بزيارته هو شاعرها الداخلي المضمر المحتجب (وشاعري الذي اشتريته عندما كان عمري ثلاثة عشر عاما أو أربعة عشر ما زلت أزوره إلى اليوم).

الآخر واكتشاف المهمش:

       إنّ للآخر الشاعر دوراً بارزاً في لفت انتباه الذات إلى نسقها التخييلي المهمش، فالانتباه إلى النسق لم يكن انتباهاً ذاتياً خالصاً بل هو انتباه ذو تأثير خارج، ففور حضور الآخر المختلف غدت الذات قادرة على الوعي بنسقها الشاعري وضرورة تفعيله من أجل علاقة جديدة ومغايرة مع العالم من حولها.

       فالأنا مسكونة بنسقين متمايزين تمايزاً جوهرياً (مادي وروحي)، ويمارس النسق المادي فعلاً قمعيّاً على النسق الروحي فيجعله متوارياً في غياهب النسيان، وتتذكر الذات هذا النسق المنسي لحظة التقائها بكيان آخر مغاير روحاً وسلوكاً.

ونحن هنا لا ننكر دور الأنا في إحياء نسق مهمش قابع في كيانها، ولكننا نؤكد دور الآخر المغاير روحاً وثقافة وسلوكاً في لفت الانتباه إلى جانب مضمر ومنسي في أعماق الكيان.

الشاعر بين الذكورة والأنوثة :

       تتموضع ذات الشاعر بين شخصيتين متباينتين:

       شخصية ذكورية:

       يمثلها كل من الأب والابن,  تصطدم مع شخص الشاعر، وتعمل على نفيه وتهميشه ( اذهب حالاً إلى غرفتك. صرخ أبي في وجه الشاعر) ما يحيل- رمزياً- إلى طبيعة الثقافة الذكورية الأبوية بميلها إلى العنف ونفي الآخر المغاير روحاً وفكراً.

       وشخصية أنثوية:

       يمثلها كل من الأم والابنة، تتعاطف مع الشاعر وتتأثر لغوياً وجمالياً به ( لم ألتق الشاعر تلك الليلة. لم أستطع مواجهته. لا أستطيع النوم في سريري. وأبكي بشدة) ما يوحي بالطبيعة الانفعالية للثقافة الأنثوية، وميلها إلى الالتقاء بالآخر الجمالي المجازي.

       فالرواية لا تتحرك بين عالم مادي و آخر روحي فحسب بل تتحرك أيضاً بين ثقافتين متقابلتين, تجلّتا إشارياً عبر شخصيات النص بانفعالاتها وسلوكها .

       وتجدر الإشارة إلى أن سمات الذكورة والأنوثة التي تحدثنا عنها آنفاً ليست سمات مطلقة نهائية مصادر عليها، بل هي السمات التي ظهرت فنياً وفق سياق الرواية ولحظتها التاريخية النصية.

الترجمة ومستويات اللغة :

إنّ الترجمة هي فهم النظام الداخلي للغة ما وبنية النص المكتوب في تلك اللغة, وصنع نسخة  من النظام النصي يمكنها, تحت وصف ما, أن تخلق لدى القارئ أحاسيس مماثلة, سواء على المستوى الدلالي والتركيبي أو على مستوى الأسلوبي والنظمي والرمزي-الصوتي, وجميع المؤثرات العاطفية التي كان يهدف إليها النص المصدر(1).

       وتمتاز هذه الترجمة بعدم تحرك المترجم بين لغتين وثقافتين متباينتين فحسب (العربية والبرتغاليّة) بل بتحركه أيضاً -داخل النص- بين مستويي لغةٍ تحركاً سريعاً سلساً.

       مستوى إخباري تقريري: ( كانتc76 تلبس تنورة برعاية شركة مشهورة للتدليك. دهنت أظافرها بالأصفر. وشعرها كان مشدوداً إلى قفاها بثلاث سنانير بلاستيكية بنية).

       ومستوى شاعري انفعالي: ( أوراق المقابر. أوراق الجسد. تنمو فوقي. فوق الموت)، (الفتات الذي يطير عالياً يفضل مناقير الطيور على أهواء الريح).

       ما يظهر قدرة عالية لدى المترجم على التعامل مع إيقاع النص المتحور حول الانتقال السريع من التقريري إلى الرمزي الجمالي.

المرجع:

(1) أمبرتو أيكو: أن نقول الشيء نفسه تقريباً, تر: أحمد الصمعي, المنظمة العربيّة للترجمة, ص: 24.

*خاص بالموقع