نعوم تشومسكي: مسؤولية المثقف قول الحقيقة وكشف الأكاذيب

0

حاوره: د. مصعب قاسم عزاوي

كان لكاتب هذه السطور الشرف بدعوته إلى جلسة حوارية مع المفكر نعوم تشومسكي، نظمتها قناة “الديموقراطية الآن” في نيويورك، بإدارة الصحافية الطليعية آمي غودمان والصحافي المخضرم خوان غونزاليس في الرابع من نيسان/إبريل في العام 2017، بمناسبة صدور الكتاب الأخير للمفكر نعوم تشومسكي الذي حمل عنوان <<نعي الحلم الأمريكي: المبادئ العشرة لتركز الثروة والسلطة>>.

ويكاد كتاب تشومسكي الأخير، لكل قارئ مطلع على الكم الهائل من نتاج ذلك الأخير فكرياً و سياسياً (بالتوازي مع إنتاجه الثري في حقله الأكاديمي اللغوي الذي جاوز أكثر من 100 كتاب)، بمثابة تلخيص مكثف مبسط يرقى لأن يكون دليل عمل وكشف معرفي لآليات عمل أهل الحل والعقد الذين يملكون الثروة والسلطة ويتحكمون من خلالها بالولايات المتحدة والعالم وشعوبه المهشمة المقهورة، وهو ما يعكسه بشكل جلي توصيف ناشر الكتاب بأنّه الكتاب الأخير من نموذج المقابلات المطولة التوثيقية مع تشومسكي، وهو الشيخ المجتهد الذي قارب على نهاية العقد التاسع من عمره الذي كرس جلّه للعمل المعرفي الثاقب الفذ الذي لخص جوهره المحرك مؤرخ تاريخ المقهورين والمظلومين، وكذلك تساؤل شيخ مؤرخي الولايات المتحدة الراحل هوارد زين في مقدمة كتبها في العام 2002 لنسخة معادة الطبع من كتاب تشومسكي الأول في الحقل السياسي << القوة الأمريكية>> الذي صدر في العام 1969 <<عن السبب الذي يدعو تشومسكي كفيلسوف في اللغة على المستوى العالمي، توصف اجتهاداته في حقل اللغويات بشكل متكرر بأنها مقاربة في وزنها العلمي لكشوف آينشتاين في الفيزياء، وفرويد في علم النفس، للكتابة ضد الحرب الأمريكية في فيتنام>> ليتبعها بإجابة من منطوق ما كتبه تشومسكي في سياق تكثيفه <<لمسؤولية المثقفين>> بقوله: <<إنّ مسؤولية المثقفين تكمن في قول الحقيقة وكشف الأكاذيب والباطل>>. وهو المبدأ العمومي الذي شكّل الناظم غير المتغاير في عمل تشومسكي الفكري الممتد على سبعة عقود دون أن ينزاح عنه قيد أنملة، على الرغم من كل ما تعرض له من هجمات من المثقفين من فئة <<المرتزقة، ووعاظ السلاطين، وصناع الدعاية السوداء>>، والتي لم تزده إلا صلابة وإصراراً على مقاومة الباطل، وتفنيد الأكاذيب << بالتوثيق الثاقب والحقائق المغيبة>> على حد توصيف شيخ مقاومة غطرسة الشركات العابرة للقارات في الولايات المتحدة وكونياً المفكر رالف نادر.

تحدث تشومسكي في الجلسة الحوارية السالفة الذكر عن الهدف الموضوعي لكتابه الأخير المتمثل في محاولة لكشف المبادئ المحركة لاقتصاد تفاوت الدخل في الولايات المتحدة، وتهاوي الحلم الأمريكي الذي أفصح عن نفسه باندثار أحلام المهاجرين ومستوطني الولايات المتحدة بحياة أفضل لهم ولأبنائهم، وتحول المجتمع الأمريكي إلى حالة ركود عميم على مستوى الحراك الاجتماعي، واختزال الحلم الأمريكي بإذعان المقهورين وتصويتهم لأولئك الذين يقومون فعلياً بتهشيم ذلك الحلم كليانياً، والذي يبدو أنه أصبح كابوساً على المستوى المحلي في الولايات المتحدة وعالمياً في كل مجتمعات المعمورة التي لم تسلم من تغول هيمنة الولايات المتحدة وسطوتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

ويقوم المبدأ الأول من المبادئ العشرة موضوع  الحوار مع تشومسكي على أساس <<تقزيم الديموقراطية>> المرتبط عضوياً بالكيفية التي صاغ فيها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة نظامها السياسي والاقتصادي القائم على <<تركز السلطة في يد الأغنياء>>، وهم الذين طالما كرهوا فكرة الديموقراطية التي تعني في جوهرها <<وضع السلطة في يد عامة الشعب>> والذي ينظر إليهم أولئك الأغنياء بكونهم <<قطعاناً شاردة>>  لابد من ترويضها من خلال <<تصنيع نظام دستوري ممانع للديموقراطية>> التي طالما دعاها الآباء المؤسسون <<طغيان الأغلبية>>، وهو ما قاد بالتالي إلى <<حلقة معيبة تعزز نفسها>> في المجتمع الأمريكي تقوم على أساس <<تركز الثروة يقود لتركيز للسلطة>> وخاصة في <<ضوء التعملق الخيالي لنفقات الدعاية الانتخابية>> وهو ما قاد إلى <<انغماس الأحزاب السياسية الأمريكية في جيوب الشركات الكبرى>> التي تمول الحملات الانتخابية لممثلي تلك الأحزاب على المستويين التشريعي والرئاسي، وهو التمويل الذي سرعان ما يعطي أكله عبر تشريعات يصدرها أولئك المنتخبون بالاستناد إلى ذلك التمويل، لتعمل تلك التشريعات بدورها على زيادة تركيز الثروة في يد أولئك الممولين، من خلال قوانين الضرائب، وإرخاء القوانين الرقابية على عمل الشركات الكبرى، لتقود بالتالي إلى تحقق فعلي لما دعاه آدم سميث في كتابه “ثروة الأمم” في العام 1776 <<الشعار المقزز>> لأولئك الذين <<يملكون المجتمع>> و الذين دعاهم سميث آنذاك <<سادة الجنس البشري>>  القائم على << كل شيء لنا، و لا شيء للآخرين>>، و هو الشعار الذي أفضى إلى نتائج سوداوية في المجتمع الأمريكي جراء غياب <<رد فعل شعبي عام>>  لمقاومة <<تقزيم الديموقراطية الممنهج في الولايات المتحدة منذ تأسيسها و حتى اللحظة الراهنة>>  .

وحمل المبدأ الثاني الذي تحدث عنه تشومسكي عنوان <<تشكيل الإيديولوجيا>>، والذي كان رد فعل النخبة السياسية المعبرة عن مصالح أصحاب الثروة التي تحركها على محاولة <<الفقراء عن الانفلات من موقعهم الطبيعي منفعلين، مطيعين، مستقيلين>> من كل ما له علاقة بالسياسة والمجتمع، والذي وصَّفته تلك النخبة بأنّه <<أزمة الديموقراطية>> التي كان علاجها الموصوف <<هو الإعداد العقائدي للأجيال الشابة>> التي اعتقدت بحقها في << الشطط في الاستقلالية والنزعة للانعتاق>>. وهو رد الفعل الذي أفصح عن نفسه رفع رسوم التعليم العالي في الولايات المتحدة، حتى أصبح الفقراء <<منغمسين في ديون تصل إلى 000,100 دولار للخريج الجامعي الواحد>>، لا يمكن له التفكر بالتمرد على <<سادة الجنس البشري>>، إذ يفضي ذلك إلى صعوبة في حصوله على عمل لاحقاً، وبالتالي يقوده لأهوال احتمالات انهيار مستقبله جراء عدم قدرته على دفع الديون التي راكمها خلال دراسته الجامعية.

وعلى مستوى التعليم الأساسي والثانوي، أشار تشومسكي إلى اتجاه مواز لذلك على مستوى التعليم الجامعي  تمثل في اختزال العملية التعليمية  إلى <<تعليم للمهارات الميكانيكية، وتقويض الإبداع، ومهارات التفكير المستقل، سواء لدى الطلاب أو المعلمين على حد سواء>> و هو ما تمثل في شعارات و سياسات <<التعليم لأجل النجاح في الامتحان>>، و تعليم لأجل صناعة << المتسابقين للوصول إلى القمة>>، بالاتساق مع تهميش و إفقار ميزانيات التعليم الأساسي المجاني في عموم الولايات المتحدة لصالح التعليم الخاص الذي محركه الأساسي ربحي و ليس اجتماعياً بالشكل الذي يفترض أن يكون عليه التعليم المجاني المعتمد المضمون حكومياً. و لتشخيص ذلك التوصيف الأخير أورد تشومسكي مثالاً مؤلماً عمّا يحدث لأطفال مدارس الفقراء في المناطق المهمشة في الولايات المتحدة، الذين يصف لهم الأطباء أدوية نفسية لتحسين الانتباه و التركيز توصف عادة للأطفال المصابين <<باضطرابات عسر الانتباه و التركيز>> و هم في الواقع <<أطفال طبيعيون ليس فيهم من مشكلة سوى أنهم مُفقرون في مدارس مهمشة و مهملة حكومياً>>، إذ أنّ الخيار الوحيد لأولئك الأطباء في مواجهة الكارثة التي يواجهونها المتمثلة بعدم إمكانية <<تغيير المجتمع بشكل ينتشل هؤلاء الأطفال من بؤسهم>>،  ليكون الحل الوحيد المتاح لهم هو <<بتغيير هؤلاء الأطفال و سكب الأدوية النفسية في أدمغتهم>>.

 ثم عرّج تشومسكي على جزئية تكميلية في سياق شرحه لمبدأ <<تشكيل الإيديولوجيا>> تتعلق <<بإدانة المنتقدين>> لهيمنة <<سادة الجنس البشري>> على النظام السياسي والثروة والإعلام في الولايات المتحدة واتهامهم المثير للشفقة <<بمعاداة الولايات المتحدة>> بطريقة لا تختلف كثيراً إلا في عدم تمظهرها <<دموياً>> على طريقة الأنظمة الشمولية أو <<النظم القمعية الإرهابية>> التي طالما رعتها الولايات المتحدة في غير بقعة من أرجاء المعمورة.

بالفعل كان خطاب تشومسكي الثاقب كأنّه تصوير غير مباشر لكارثة السوريين المقهورين حينما تطفر النموذج القمعي السادي لنظام حافظ الأسد الذي أبدع في التفنن في استنساخ النظم الشمولية لحلف وارسو بخطابيتها الجوفاء حول الديمقراطية الشعبية كتنميق و تورية لتسلطها الفاشي على الدولة و المجتمع بما حوّلها لدولة أمنية بامتياز تدار عبر أجهزة المخابرات، وفيالق الانتهازيين من العسس <<البعثيين>> البصاصين، على إيقاع  صرير أجهزة التعذيب السادي في فروعها الأمنية، وأقبيتها الطابقية في العالم السفلي تحت الأرض، ليحل عليهم بعد رحيل الطاغية الأب جحيم انفتاح نظام بشار الأسد الليبرالي المسخ على الطريقة المخلوفية التي حاولت إدماج الطغمة الحاكمة في سورية في اللعبة النيوليبرالية الكونية المتوحشة، من خلال إعادة تشكل الاقتصاد السوري ليتواءم مع  نموذج سلب ما راكمه الشعب السوري المفقر خلال سنوات القحط السياسي و الاقتصادي منذ انقلاب البعثيين في العام 1963، ليصرفوها مرغمين على نتاج الاقتصاد السمسرة المخلوفية كوكيل كمبرادوري لتلك الشركات الكبرى التي أشار إليها تشومسكي في استعارته لعبارة آدم سميث <<سادة الجنس البشري>>، فتبخرت كل مدخرات السوريين لشراء جوالات، و <<تكاسي>>  رامي مخلوف، وشركاته القابضة، حتى أصبح حلم كل المفقرين في سورية بيع ذهب أمهاتهم و زوجاتهم لشراء <<تكسي>> للعمل فيها في عاصمة تحولت إلى <<كراج كبير>>  باستعارة  توصيف شيخ المفكرين السوريين طيب تيزيني.

وعلى المقلب السياسي سورياً، لم يكن لأي سوري إلا أن يستعيد في سياق حديث تشومسكي عن <<تشكيل الإيديولوجيا>> في الولايات المتحدة <<و إدانة كل منتقدي تلك الأخيرة>> إلا استعادة النموذج الوحشي للنظام السوري في تحويل الوطن السوري إلى سجن كبير، و تحويل كل المؤسسات التابعة للنظام السوري إلى ثكنات <<للإعداد العقائدي>> ابتداء من طلائع البعث، و شبيبة الثورة، و اتحاد الطلبة، وصولاً إلى النقابات المهنية المدجنة، و اتحادي الصحفيين والكتاب العرب، الذين كان يفترض بهما غير حالة التروض المطلق، حتى أصبح الخطاب المعارض فيهما حالة مطلقة الندرة مرتبطة بأشخاص محددين بعينهم، لم يسلم جلهم من محنة الولوج المؤقت أو السرمدي في غياهب الفناء في السراديب المخابراتية، بتلفيقات من التهم الأمنية السوريالية التي لم تتفتق مخيلة <<سادة الجنس البشري>> عن استنباط مثلها بعد لتشويه صورة معارضيها في الغرب، إذ أنها في سورية المغلوب على أمرها وطناً و شعباً تتمثل في << النيل من هيبة الدولة>> و <<الاستقواء بالخارج>> و <<إضعاف الثقة بالاقتصاد القومي>> و << مقاومة النظام الاشتراكي>> و هي غيض من فيض التفتقات التي حضرت قسرياً في بال كاتب هذه السطور مما عايشه على جلده بشكل عياني مشخص، في حلقة مجهرية من كابوس جلجلة الشعب السوري الطويل في محنة القهر المقيم قبل الثورة السورية المظلومة و بعدها.

بالفعل لا زالت هناك الكثير من النقاط التي تحدث عنها تشومسكي، وتستدعي الاجتهاد لتكثيفها للقارئ العربي عموماً والسوري خصوصاً لما لها من انعكاس عميق عن تجربته التاريخية المرّة في أحلامه الموؤودة في النهضة، والحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية، وهو ما سوف نحاول العمل على تقديمه في الأعداد القادمة.

*خاص بالموقع

مجلة أوراق

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here