نصوص جولانية

0

عفاف محمد الرشيد

قاصة وشاعرة وحقوقية سورية، النصوص الثلاث من مجموعة قيد الإصدار بعنوان: “من سلال الذاكرة”.

مجلة أوراق- العدد 17-18

أوراق النصوص

1- اغتراب نازح لاجئ

طبرية أيتها البحيرة الوادعة، أما زالت فيق تحتضنك؟

أخبريني عن البوح الذي وشت به عنك عصافير الحقول في يومٍ ربيعي غابر، و عن الغزل الشفيف والحنان الأسطوري القديم بينك وبين فيق ، آه من حنين يكبل الضلوع يا وطني (يُحدث نفسه كعادته منذ أن غادر مسقط رأسه نازحاً ثم لاجئاً) إن علاقتي بذاكرتي  قوية لم تضعف رغم تقدم العمر وضعف البصر، وهذا يبشر بالخير والصحة الذهنية الجيدة، لكن مواقع الذكريات التي تخص مسقط رأسي وملعب طفولتي وريعان شبابي ترهقني إلحاحاً، ما زالت الصور صافية نقية الألوان كجمال الجولان  البهي، لم تبهت ملامحها، رغم  الزمن الطويل الذي مر على الفراق، فهل نسيتُ  قدماي في سهول الياقوصة، وتركتُ أشرعتي في بحيرة طبرية؟

أه ما أجمل الوطن، فهو المكان الذي قد تغادره أقدامنا لكن قلوبنا تظل فيه ساكنة، لقد  تجولت بين البلاد البعيدة الواسعة، ورأيت فيها من جمال إبداع خلق الله ما يسحر اللب والفؤاد، وكم خفق فؤادي إجلالاً لخلق الله في كل مكان، لكن روحي تحلق هناك، حيث البحيرة والسهول والتلال، مرارةُ الحنين لا تكاد تفارقني، أه يا أمي ما زال صوتك موسيقى ملائكية تعصف بوجداني، ورائحة الزلابية التي كانت تغمر الياقوصة تستنهض كل الذين غادروها في مخيلتي، أهازيجك الحزينة تنثر عبق الحضارة العتيقة المعتقة العصية عن الوصف، أه يا أمي  فالحنين والانتماء إلى هاتيك السهول والوهاد والتلال هو استمرار حنيني وانتمائي إليك، يا وجع الحنين يا أمي ويا وطني.

 يقلبُ صفحة من دفتر أفكاره وهو الذي نهل الكثير الكثير من مناهل العلم قائلاً:

أعلم جيداً أن  علاقة الإنسان وثيقة بالأرض، و أن هذه العلاقة لا تنفصل عنه ما دام على قيد الحياة،  مررتُ في دراستي الجامعية على أكثر العلوم الإنسانية تفاعلاً مع نفسي وطبيعتي، فكان علم النفس والفلسفة الأقرب إلى ميولي، وأعرف  جيداً لماذا الكثير من الأشخاص  يوصي أهله بأن يدفن في أرض وطنه في حالة توفاه الله خارج حدوده، لكني حزين لأجلك يا أبي،  لم أتمكن من دفنك كما أوصيتني  في فيق، لقد وافتك المنية في أحد مخيمات النازحين  بعد ضياع  فيق وما حولها  من الجولان، وكنا جميعا حينئذٍ  في دمشق نازحين، رغم أن حب  الوطن من الأمور الفطرية التي جُبل الإنسان عليها، لكن  للجولان نكهة من المشاعر مختلفة لا يعرفها إلا من عاش فيها وشرب من مائها، لم أنس  كلماتك يا أبي عندما أعود من  دمشق بعد انتهاء السنة الدراسية الجامعية مثقلاً بالحنين: 

 لا عجب يا حميد أن يُحب الإنسان وطنه الذي نشأ على أرضه، وشبَّ على ثراه، وترعرع بين جنباته، ولا عجب أن يشعر الإنسان بالحنين الصادق لوطنه عندما يُغادره إلى مكانٍ آخر، إنه الارتباط وصدق الانتماء، الأرض تشد الأبناء إليها أينما راحوا وحلوا يا ولدي.

رفع رأسه نحو السماء، يقول في نفسه، لكن العجب يا أبي أن يخذلك من يشاركك العيش والهواء والماء، فكيف يهون عليه الوطن، لقد هان الوطن على الخائنين يا أبي، وها نحن بعد النزوح الأول أصبحنا لاجئين، تمزقت أوصالنا في الشتات، لكن لن أفقد الأمل كما كنت توصيني، سأزرع القمح في قلبي كلما أشتد الحنين، وأنتظر اليوم الذي أمر به من دمشق متجهاً نحو درعا، وإلى مقبرة مخيم النازحين، حيث ترقد أنت وأمي، وأنثر حبات القمح كما أوصيتني، ثم أتابع إلى فيق نحو بحيرة طبرية، لأعوم في مياهها الفضية كعهد طفولتي، وأبلغها رسالتك بأنك ما زلت تعشقها، لن أحتاج المرور من الحواجز الأمنية القاتلة، ولا إلي تأشيرة دخول، ولعلي أزور قبر جدي تحت شجرة التوت الشامخة في حاكورة بيتنا  القديم بالياقوصة.

كانت عيناه غائرتين وقد غطى وجهه الاصفرار، وابتسامة خافتة تشرق من بين ثنايا تجعدات وجهه، كشمس الغروب في شتاء ملبد بالغيوم، رفع يداه نحو السماء، ينظر من نافذة غرفته التي المقابلة لسريره في المشفى، والذي لم يغادره منذ شهور، طال تحديقه في الأفق المتاح أمامه، ثم بدا مُرحباً كمن يستقبل ضيوفاً بعد غياب طويل ً

يا أهلاً، يا أهلاً، تفضلوا

غطى الغمام الأبيض أجواء المكان، وازدحمت الغرفة بالنوارس البيض التي صفقت بأجنحتها حول سريره، وهو كالطير الذي يفرد أجنحته ليطير، يغيبُ بيان طيات الضياء الأبيض والغمام، بينما صمت الحقيقة يغمر المكان، والعالم بأسره وما يزال !!!!

*****

2- المغارة

مغارةٌ تقع على هضبة من مرتفعات بلدة فيق المطلة على بحيرة طبرية، وهي صخرة عظيمة مجوفة كأنها غرفة صخرية أسطورية، باتت هي الملاذ الأمن لسكان مدينة فيق والقرى التي حولها، بعد أن شنت الطائرات المعادية الكثير من الجولات في سماء المدينة، تُرعب الناس بصوتها، وترمي صواريخاً هنا وهناك، أصوات صافرات الإنذار تزعق، والناس يتدافعون نحو باب المغارة الجبلية كأمواج البحر الهائج، يتعثرون وينهضون مذعورين، الطريق وعرة تغزوها الأشوال، والصخور البركانية المتفتتة المبعثرة الحادة تغطي الطريق، وتعيق المرور.

 من داخل المغارة بدت السماء كالمِرآة تعكس مشهداً مرعباً، هو ليس فلماً سينمائياً،  وليس محضاً من  الخيال القصصي، الظلمة تغمر المكان، وكأن الناس معلقون على لوحة جدارية، تبدو وجوههم كالأشباح كلما اشتعلت النار بالسماء، لا أحد يجرؤ أن يضيء المكان كي لا تكشفه الطائرات، الدخان لا يكاد يُرىَ من العتمة، لكنه  يفسدُ الهواء، فتضيق الصدور، وترتفع أصوات السعال والشهيق، بعض  المسنين أصمتهم السعال ، الحشرات تخرج من بين شقوق الصخور مذعورةً، فيزداد الأطفال رعباً، ومنهم  صمت صوته أبداً،  ليلةٌ صاخبةٌ  ومدينةٌ تحترقُ ، أعمدة الدخان  تتكاثف وتزداد، والمغارة تتسع رويداً رويداً حتى أصبحت بحجم  هذا العالم الحزين

*****

3- الغارة جوية

يتذكر بيته الذي  يطل على أجرافٍ تنحدر غرباً إلى شواطئ بحيرة طبريا ، وأن هواءً بارداً يصعد إلى داره حاملاً رطوبة البحيرة التي تشبه صحناً  من فضةٍ تحفه الجبال الخضر من كل جانبٍ، وفي ليلة خيم الخوف على بلدته  ،سمع  من نافذة غرفته المطلة على الشارع أقوالاً متلاطمةً تخبرُ بأن اليهود قادمون، ويجب أن يغادر الناس بيوتهم  مسرعين، ثرثراتٌ في الشارع وصافرات الإنذار تزعق كما لو كان يوم الحشر،  ذعرٌ مباغتٌ، يفاجئ الناس ،اتجه نحو  فسحة الدار يسربله الذهول، منكمشاً على نفسه، يحدق حوله بعينيين محمرتين،  شيع داره بنظرات حزينة ، رفع رأسه عالياً نحو السماء وقد هجرها القمر، أشعل قناديل روحه، استطلع جميع ملامح داره، وغَرَفَ بعينيه من خضرة أشجار الزيتون التي تحيط  الدار غَرّفَةً، ثم فرد ذراعيه على  أقصى مدى فصارت  أجنحة،  وتطاولت رويداً رويداً،  حتى احتضن  الدار  والعيال والأشجار وأراجيح الصغار، وزهور الحديقة، وصولاً إلى المدخل الرئيسي وضم أجنحته محتضناً تاريخه ثم  غاب بين عتمة الليل، ودخان الطائرات، وغبار الذكريات