في وطني لكل عابر سبيل حصة في بستان ، ثمرة في شجرة ، ظل تحت سنديانة ، سُمَّاقُنا مباحٌ لكل عابر سبيل يتدلى كالثريات يموج مثل وشاح أحمر يلف خصور الكروم اللينة يزنرها فتبدو كلوحة راقصة ، وأرضنا لا تبخل بالهندباء والزعتر والعَكُّوب والخبيزة والحميضة والفرفحين والفطر ، والكمأة في صحرائنا مشاع كلما اشتد رعد ، في وطني تتسلق دوالي العنب أسوار الحقول مطمئنة غير خائفة ولا مترددة ، سيقطف حصرمها كل مشتهٍ ووَحْمَى ، ويتذوق عنبها ظمآن أتعبه الطريق ، وتجمع أوراقها نساء اعتدن الحياة بفطرة الكائن الأول ، يرتبنها كصفحات كتاب داخل “قطرميزات” زجاجية ويغمرنها بماء وملح مؤونة للشتاء .
حين رَحَلْنَ لم يأخذْنَ معهن إلا الفطرة والعادات وما تيسر من ذكريات وألم ، ليس ثمة حقائب تُحْشى بالثياب ، كان الرحيل غفلة وعلى عجل ، كانت “قطرميزات” المؤونة ضحايا القصف دل عليها تسرب الماء المالح والزيت ورائحة الثوم والنعنع المجفف والزعتر .
في بلاد اللجوء ثَمَّ بردٌ لا يُسْكِتُهُ إلا دفءُ الأمنيات ، غيابٌ لا يهزمه إلا حضور الوطن ، فَقْدٌ لا يداويه إلا بعضُ أمل ، جرحٌ لا يرتقه إلا الحنين ، يُحْيي الهاربون من الموت أشياءهم بما تيسر من ملامح تعيد تشكيل الحياة التي ألفوها .
شرط الاندماج أن تقبل الآخرَ ويقبلك ، تأخذ منه وتعطيه ، تردفه ويردفك ، لا تذوب فيه ولا يذوب فيك ، لا تلغيه ولا يلغيك ، شرط الاندماج تلاقح يفضي إلى نمط جديد من العلاقات ، لا يُخْسِرُكَ ذاتكَ ولا يُخْسِرُ ذواتَ الآخرين ، كالجداول تسعى جميعها إلى نهر كبير .
الطبيعة هي الطبيعة ، البساتين هي البساتين ، وورق داليات العنب هو هو ، أخضر حامض يشرب الشمس بنهمٍ ويلوِّح بأكفه الناعمة للسوريات أن أقبِلْنَ ، يعرف حق المعرفة أن أناملهن ماهرة كفاية جعله مادة لذيذة شهية تزين موائدهن .
تلبي السوريات نداء الدوالي ، يبدأن بقطف أوراقها و ترتيبها برفق كأنهن يُطَرِّزْنَ ثوب زفاف ، لا يدور في خلد الواحدة منهن أن اجتراح الحياة في زحمة الموت اقتراف ذنب ، كُنَّ يَظُنَّنَّ أنهن يُدْخِلْنَ البهجة إلى بلاد مصابة بالوجوم بلاد امتهنت الحياد حَدَّ انطفاء الروح حَدَّ زوال ، أنهن سيُهْدين الموائد البائسة لهذه البلاد بعض الفرح ، أن اليبرق جسر آخر بين ثقافتين ، اليبرق الذي سافر قروناً في أصقاع الأرض من تركيا حيث ولد إلى سوريا حيث ترعرع إلى باقي أطراف الدنيا ، اليبرق الصادق الحقيقي المحشو بالأرز واللحم فوق “العصاعيص” مرة وفوق “لسان الخروف” مرة ثانية ، واليبرق الكاذب “اليالنجي” المحشو بالأرز والبقدونس والبندورة المطعَّم بالكثير من حامض الليمون والمزين بحب الرمان .
سيذكر التاريخ يوماً أن اليبرق صار طبقاً ألمانياً بامتياز في العقد الثالث من القرن الأول من الألفية الميلادية الثالثة بفضل أنامل سوريات ضُبِطْنَ ظهيرة يوم صائف و هنَّ يقطفْنَ أوراق الدوالي ، سيذكر التاريخ أيضاً أن السوري لطالما كان لقاحاً ضد الموات .
*خاص بالموقع