نزار غالب فليحان: هدم مقهى الحجاز.. طمس الهوية

0

هنا الترابات من طيب ومن طرب

وأين في غير شامٍ يطرب الحجر” سعيد عقل

من نعمة القدر أن يولد المرء في بلاد موغلة في العراقة، تأخذ من خريطة التراث العالمي مساحة تحسدها عليها باقي الأمم، ومن مهازل التاريخ أن تحكم هذه البلاد من أنظمة لا تقيم وزناً لتراث ولا تعنيها أوابد أو آثار أو صروح، فكيف لها أن تصنع التاريخ أو تحافظ على أقانيم لها في وجدان الشعب وتاريخه شأن سيجعل منها يوماً تراثاً راسخاً أصيلاً يضاف إلى ما تمتلكه من حضارة وتاريخ.

“هنا جذوري هنا قلبي هنا لغتي 

فكيف أوضح هل في العشق إيضاح؟” نزار قباني

قرابة سبعين عاماً مضت على إنشاء مقهى الحجاز في مدينة دمشق، وهل لنا أن نتخيل ما لهذا المرفق من مكانة في قلوب السوريين عامة والدمشقيين على وجه الخصوص؟ هل لنا أن نتخيل كم الحنين الذي ينداح لحظة ذكر اسمه أمام من اعتادوه وأدمنوا ارتياده كبيت ثانٍ أو كركن كان ينزع عنهم عناءهم وضيقم، كمعبد يمارسون فيه الحياة وينهلون منه ويستزيدون أوكسيراً يمنحهم جرعةً من أمل؟

“في دِمَشْقَ ,
تُطَرَّزُ أَسماءُ خَيْلِ العَرَبْ ,
مِنَ الجاهليَّةِ
حتى القيامةِ ,
أَو بَعْدها ,
….
بخُيُوطِ الذَهَبْ” محمود درويش

بعيداً عن هذا وذاك، كل صرح وبيت، كل مرفق وحي، كل شارع وبوابة، كل مئذنة وجرس، كل قبر وشاهدة، وكل ياسمينة وشجرة حور، أبناء المدينة الأم، أنجبتهم كي يعيشوا في كنفها، ازدهت وتباهت بهم، خرجت إلى الدنيا بهم، حدثت العالم بجمالهم، صارت تعرف وتكنى بهم، فكيف يقتل أبناؤها أمام عينيها؟ كيف ينتزع أبناؤها عن صدرها؟ لماذا يجتث كل ما يربط حاضرنا بماضينا؟ لماذا تشوه هويتنا ولصالح من؟ ولماذا يهدم مقهى الحجاز ويزال عن خارطة دمشق؟ 

“لَولا دِمَشقُ لَما كانَت طُلَيطِلَةٌ

وَلا زَهَت بِبَني العَبّاسِ بَغدانُ” أحمد شوقي

برر النظام فعلته، وليته لم يبرر، قال: “المقهى الذي تم وصفه بالتراثي والتاريخي هو إشغال محدود لمقهى له طابع الشعبي باسم من وحي المكان ولا يوجد له أي تبعية تاريخية أو أي معالم عمرانية أو هوية تراثية وغير مصنف في قوائم التراث في دمشق بتاتا”، فكيف يشطب سبعة عقود من عمر مدينة؟ كيف يلغي قيمة أضيفت إلى دمشق على مدى تلك العقود؟ كيف يجتث سنديانة الحجاز الشاهدة على عصر مدينة بكل آهاتها وأناتها؟

“الفل يبدأ من دمشق بياضه              وبعطرها تتطيب الأطياب‏
والحبّ يبدأ من دمشق فأهلنا          عبدوا الجمال وذوبوه وذابوا‏
فالدهر يبدأ من دمشق وعندها        تبقى اللغات وتحفظ الأنساب‏
ودمشق تعطي للعروبة شكلها          وبأرضها تتشكل الأحقاب‏” نزار قباني

في ذاكرة الشعب السوري، ومن وجوه ثقافته جهةَ الاعتناء بالمولود الجديد، وقبل الجونسون والنيفيا، دأبت الأمهات على تجهيز الريحان الناعم بعد قطفه وتجفيفه ثم دقِّهِ ليصبح ناعماً نعومة الدقيق، كي يقمن تالياً بتمسيد جسد المولود بزيت الزيتون ومن ثم فركه بذرات الريحان فيغدو الجسد طيعاً ليناً، وكانت الأمهات إذا ما اعتدى أحد على ولد من أولادهن يصحن في وجهه (ليش عمتضربه – شو إنت تعبان بدق ريحانه؟)، واليوم دمشق وكل الشعب السوري الغيور على تراث بلاده يصيح في وجه النظام : “هل تعبت في دق ريحان مقهى الحجاز؟”

(ليفانت نيوز)