نزار غالب فليحان: مدن “تعلّق عاشقيها فوق أغصان الحديد”.. من قسطنطين زريق حتى الطيب تيزيني

0

لم ينطق محمود درويش عن هوىً حين كّثَّفَ ظاهرة قمع المفكرين والمبدعين عاشقي بلادهم في مقطع من قصيدته “بيروت”:

“أرى مدناً تُعَلِّق عاشِقيها

فوقَ أغصانِ الحديد”

مسيرة المفكر والمؤرخ قسطنطين زريق تُعْتَبَرُ الخطوة الأولى في سياق الفكر القومي العربي، الخطوة التي اتسعت لتصبح نهجاً على المستويين الفكري والسياسي بعد أن أغنى صاحبها المكتبة العربية بمؤلفات صارت تالياً إطاراً ومرجعية لذلك الفكر، لعل أهمها “الكتاب الأحمر” الذي أصدره في ثلاثينات القرن العشرين.

شغل قسطنطين زريق خلال مسيرته الحافلة، التي امتدت من حي “القيمرية” في دمشق حيث ولد في العام 1909 حتى بيروت حيث توفي في آب من العام 2000، مناصب سياسية وأكاديمية عديدة في سوريا ولبنان والولايات المتحدة الأميركية والكويت.

لكن كل ما قدمه قسطنطين زريق لأمته من منجزات لم تكن كافية كي تمنع جندياً من صفعه عندما خرج من مكتبه حين كان رئيساً لجامعة دمشق ليمنع العسكر من دخول حرم الجامعة بحجة البحث عن طالب اعتُبر أنه أهان رئيس الدولة آنذاك، أديب الشيشكلي، بعد رفضه استلام شهادته الجامعية منه، ما اعتبر سبباً كافياً لاقتحام الجامعة وإلقاء القبض عليه.

في العقد الرابع من القرن العشرين، وفي حي “باب الدريب” في مدينة حمص، ولد الفيلسوف السوري الطيب تيزيني، المفكر الذي لم يشغله مشروعه الفكري والفلسفي عن قضايا مجتمعه ووطنه، المفكر الذي كانت دموعه تتخلل سرده للمفاصل المؤلمة من تاريخ وواقع بلاده.

بكى الطيب تيزيني أثناء إلقائه محاضرة بمؤتمر في تونس بعد أن قال: “سوريا أصبحت اليوم حطاماً”، وبكى أثناء مقابلة مع الإعلامي “أكرم خزام” حين أتى على ذكر مأساة “ساعة حمص” التي استشهد على إثر مظاهرة عارمة فيها ألف وثلاثمائة فتاة وشاب، ورأيت دموعه أثناء لقاء جَمَعَنا في الكويت حين حَدَّثَنا فيه عن الأوضاع في سوريا في الأيام الأولى لثورات الربيع العربي قبل انطلاق الحراك الثوري في سوريا بأيام، روى لنا ليلتها حكاية فتاة صغيرة سقطت في حاوية كبيرة للقمامة أثناء محاولتها التقاط ما يمكن أن يكون صالحاً للأكل، حينها كانت شاحنة نقل القمامة قد اقتربت من الحاوية لرفع محتوياتها بما فيها الطفلة الجائعة، ما كان سيؤدي إلى مقتلها لولا أن التيزيني هرع مسرعاً من شقته -بسنه الذي كان قد اقترب من نهايات العقد الثامن- لم يعرف وقتها من أين أتته رشاقة الشباب لينبّه سائق الشاحنة أن في الحاوية طفلة صغيرة.

هذا الفيلسوف الجميل الودود الذي كان يتدفق إنسانية، نال بجسده النحيل ما ناله من ضرب وتعنيف وإهانة واعتقال من عناصر الأمن حين كان ولفيف من الفنانين والكتاب والناشطين يعتصمون أمام وزارة داخلية الوطن للمطالبة بإطلاق سراح المتظاهرين الذين كانوا قد اعتقلوا بعد المظاهرة الأولى في الحراك الشعبي السوري المطالب بالحرية والكرامة.

بين قسطنطين زريق والطيب تيزيني قافلة طويلة من القامات الفكرية والإبداعية التي كوفئت بالقمع والإقصاء والتهميش، هكذا يكافأ الإبداع، وهذه جوائز الفكر، في بلاد تحكمها أنظمة “تُعَلِّقُ عاشِقيها”.

*ليفانت