نزار غالب فليحان: زاد الخير … الحلم إذا استبد

0

لم يتصور الملك “غيبون” يوماً أن شعب مملكته الراضخ لسلطته سيثور يوماً عليه، ليس لأنه لم يستمع يوماً إلى نصائح صديقه ومستشاره “مراد” الذي اعتقله نهاية الأمر فحسب، بل لأنه بلغ ذروة الغطرسة، الذروة التي لا عودة منها إلا بالسقوط .

تمادى “غيبون”، صار يقاسم الشعب المواسم والأرزاق ورغيف الخبز، إلى أن قرر الأهالي بقيادة “بربر” مغادرة المملكة مخلفين وراءهم مَلِكاً بلا رعية “مَلِكاً لمنفى”، تاركين “زاد الخير” التي أبَتْ أن ترحل “ناطورةً” لمفاتيح بيوتهم .

يسقط في يد الملك حين يصحو على مُلْكٍ زائف، وعلى رد “زاد الخير” القاتل حين سعى للحوار معها: “يا جَلالْة الملكْ لو المْفاتيح سْيوفْ كِنْتْ بِتْسلِّحْ جيشك من المْفاتيح اللي عِنْدي”، لكن الملك يذهب بعيداً في جبروته فيفتح السجون ويطلق سراح المجرمين كي يجعل منهم رعية تهرب منه تالياً وتنضم إلى قافلة الهاربين من المملكة لتبقى “زاد الخير”وحيدة تُصَلِّي: “لا تِهْمِلْني لا تِنْساني يا شَمْس المساكين”، وتُنْذِرُ الملك بأنها سوف تغادر المملكة هي الأخرى لأن بقاءها ضمانة لبقاء الملك : “إِنْتا بْقيتْ لَإِنِّي أنا بْقيتْ، و إِزا رَحْ ضَلْ إِنْتا رَحْ تْضَلْ وبيكونوا اللي راحوا راحوا بْلا تَمَنْ” و تمعن في تهديده: “كِلْ ما إِبْعُدْ مَسافِة … عَرْشَكْ بْيِغْرَقْ شِبْر … حَتَّى تُوصَلْ إِنْتا لِلْأرْض وْ أنا لِلْحِرِيّة” .

يهيم الملك على وجهه، يكاد يجن، ينادي الشعب، يدق الأبواب، يتوسل الغائبين كلمةً حلوةً، ويتوسل “زاد الخير” أن تناديهم كي يعودوا، فيعود الشعب بعد أن تنتصر إرادته على إرادة الملك .

مضى على مسرحية “ناطورة المفاتيح” قرابة الخمسين عاماً، وهي تكاد تقرأ حاضرنا وربما يتبادر في أذهاننا إسقاطها على حالنا ومآلنا كمقاربة ممكنة، لولا نهايتها غير الواقعية، بل والحالمة، فنحن شعب نال من القمع ما يتجاوز قمع الملك “غيبون” بمراحل متقدمة، بل ما تعجز عنه مخيلة مهما اتسع مداها، كما أننا شعب لم يختر مغادرة بلاده بإرادته حين رمى حلمه خلف ظهره وسَلَّمَ روحه لأول موجة بحر تاركاً خلفه أطلال بيوت دمرها القصف لا تعني مفاتيحها له سوى الذكرى والألم، وليس ثمة “زاد خير”يمكن أن تبقى كي تحرس تلك الأطلال، كان على الجميع أن يهربوا وأن ينجوا حتى ولو كان طريق النجاة مفخخاً بالموت، كان عليهم أن يهربوا من موت يوقنون أنه آتٍ لا محالة إلى موت محتمل، وربما إلى بعض حياة، حتى المجرمون الذين أُطْلِقَ سراحُهم كمجرمي “غيبون” كي يشوِّهوا كل شيء ركبوا البحار، حتى الجلادون القَتَلة ركبوا البحار ولم يبق إلا الملك و حاشيته والغزاة ومن لم يتمكن من الفرار .

ليت “الرَّحابنة” كانوا أكثر عقلانية قبل أن تنزل ستارة “ناطورة المفاتيح” وليتهم لم يغرقوا في لحظة اسْتَبَدَّ فيها الحلم وتَمَكَّنَ اللامعقول بحيث يصير الملك واحداً من الشعب، أيُّ حاكم يخضع؟ وأيُّ حاكم يشبع؟ وكم كبر الأمل عندهم لتغني “زاد الخير” في المشهد الأخير: “غني يا مدينة … اوسعي يا مدينة … رجعوا الناس … وعمرت المدينة”؟ .

مازلنا نعد لمشهدنا الأخير، مفاتيح بيوتنا في أعناقنا والدَرْبُ طويلة تحفظها العيون ويحرسها أحمر الدَّحْنون، نزين شاهدات القبور بالرياحين، نلملم ظلالنا الشريدة عن الأرصفة، نضمد الخدوش في ذاكرتنا، نرمم صورنا في إطاراتها المعطوبة، نسد الثقوب في أصص القرنفل والحبق وننفض الغبار عن بياض الياسمين، نعلق شرفاتنا في فضاءاتها ونجمع ثرثراتنا في زواياها، نعيد رسم غمازات الذين رحلوا على جدران أحيائنا ونلون خربشاتهم في السقوف، نسرد حكاياتنا ونخبئها في “أَعْبابِ” بعضنا، عيوننا تنضح دمعاً حتى يُرْفَعَ السِّتارُ عن المشهد الأخير .

المصدر: موقع ألف

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here