لماذا “جرمينال”؟
كي تحل الطبيعة محل الرب، وكي يتذكر الفرنسيون أن العمل وحده لا (القديسين) هو الذي يجعل الأرض مثمرة، ألغى المؤتمر الوطني في الحادي والعشرين من شهر أيلول للعام 1792 العمل بالتقويم المسيحي في فرنسا وأطلق تقويماً ثورياً يبدأ في الثاني والعشرين من أيلول من كل عام وينتهي في الحادي والعشرين من ذات الشهر في السنة التالية استمر العمل به حتى السنة الميلادية 1805، وقد سُمِّيَت الأشهر تبعاً للحالة المُناخية التي تسودها، فكان نصيب الربيع شهراً للتبرعم أسموه (جيرمينال (وشهراً للإزهار أسموه (فلوريال (وثالثاً للمروج الخضر أسموه (بريريال)، فكان “جرمينال” اسم رواية “إميل زولا” مجاز تبرعم ثورة عبيد البرجوازية ورأس المال، التبرعم الذي سوف يثمر ثورة تفضي إلى إقرار النظام الجمهوري وإلغاء الملكية المطلقة وامتيازات النبلاء ورجال الدين، وتوحيد اللغة الفرنسية، وفصل الدين عن الدولة.
تفاصيل غزيرة وتشويق كبير
عرض الكاتب سرديته عبر مشاهد مليئة بالتفاصيل محشوة بالعذابات ليوميات عمال المناجم وأسَرِهِم، مشاهد توالت وفق تصاعد درامي بطيء مُجْهَد برصد كل كبيرة وصغيرة، لكنه مشوق مثير يخلق لدى القارئ رغبة في متابعة القراءة وفضولاً لمعرفة القادم بين طيات صفحات الرواية التي قارب عددها السبعمائة، ومنذ البداية يفاجئنا الكاتب بعدد كبير من أسماء الشخصيات والأماكن التي تصبح مألوفة كلما تقدمنا في القراءة إلى أن تستقر في الذهن وتصبح اعتيادية، بل يمكن تخيل طريقة حديثها، انفعالاتها، ردود أفعالها، وهيئتها.
لم يكن المناخ السياسي طاغياً على النص، رغم أنه هدفها نهاية الأمر، لقد نسج “إميل زولا” الحدث من لحم ودم، حكايات عشق، وحكايا عائلات غارقة بالفقر لا تكاد تعثر على كسرة خبز تسد بها رمق أطفالها، ومعاناة عمال ليس أمامهم سوى النزول في حُفَرِ الفحم الحجري باحثين في سوادها وعتمتها عن بصيص أمل بالبقاء على قيد الحياة، وحكايا عائلات برجوازية غارقة في البذخ والخيانات.
الحكاية
في إيماءة إلى خنوع وتقاعس فئة من عمال المناجم المسحوقين عن الانخراط في الإضراب الذي يهدد وجود أصحاب امتيازات المناجم، قال منظم الإضراب وخطيب الثائرين “إتيان”:
“لو كان الإضراب عامّاً، لأصبحنا نحن الأسياد منذ أمد بعيد”.
كان هذا لسان حال آلاف عمال المناجم “الذين يبصقون فحماً” وعائلاتهم حين اجتمعوا في الغابة هذه المرة، الغابة التي لا يمكن لأحد أن يطردهم منها، الغابة التي يمكنهم أن يصرخوا فيها بأعلى الصوت بكل ما يخنق حناجرهم من جوع وعوز وعسف تمارسه عليهم طبقة برجوازية تملك كل شيء حتى مصير هؤلاء الفقراء الذين سيموتون جوعاً إذا لم ينزلوا تحت الأرض حيت الموت البطيء والعتمة الطاغية حدَّ الزوال، هناك حيث يستغل جهدهم أصحاب رؤوس الأموال المقربون من السلطة المفوضون بممارسة كل أنواع الهيمنة على الشعب الذي ينبغي أن يبقى على فقره وجهله وخضوعه.
كان خطاب “إتيان” هذا في مقابل خطاب “راسنور” المهادن المهزوم الذي راح يدعو إلى التهدئة تحت ذريعة تأجيل التغيير إلى ما بعد تحقيق التطور المجتمعي، الخطاب الذي جوبه بعبارة “فليسقط الخائن” من جمهور المضربين الثائرين.
لقد قرروا أخيراً أنهم سوف يحاكمون رأس المال “ذلك الإله المشَخَّص، المجهول عند العامل، الرابض في مكان ما، في سر هيكله، من هناك يمتص حياة الجياع الذين يطعمونه” هكذا قال “إتيان” وأردف: “سوف يذهبون هناك، وينتهي بهم المطاف حقاً إلى رؤية وجهه – الإله المشَخَّص – رأس المال، سوف يغرقونه في الدم، ذلك الخنُّوص القذر، ذلك المعبود البشع، المتخم باللحم البشري”
نفذ المضربون وعدهم وبروا بقسمهم، مضوا من منجم إلى آخر، أجبروا العمال على الخروج وعَطَّلوا العمل، قضوا يوماً كاملاً في الجري مسافات طويلة بين البساتين سدوا أفواه المناجم الواحد تلو الآخر متراصي الصفوف واثقي الخطى نحو انتزاع اعتراف بإنسانيتهم وبحقهم في أن يمتلكوا أدوات إنتاجهم وثمرات شقائهم، حتى طالت قافلتهم وصاروا آلافاً لن تمنعهم قوة من تحقيق ما ساروا لأجله، حَقٌّ ثارَ في وجهِ باطلٍ…
لكن شأن ثورة “إتيان” ورفاقه شأن أي ثورة يتربص بها أعداؤها، يسخِّرون كل ما من شأنه أن يجهضها، من تدخل رجال الدين ومحاولاتهم اختطافها، إلى انحياز تيار من المثقفين الزئبقيين إلى الباطل وتبنيهم خطابات انهزامية، إلى استخدام البطش المسلح، انتهاءً باستقدام عمال مناجم من “بلجيكا” لسد الفراغ الذي تركه الثوار المضربون عن النزول قعر الحُفَر.
يبدأ المضربون معركة مع الجوع، معركة غير متكافئة، أحشاء خاوية وجيوب فارغة وبرد ومرض وإحباط حدَّ العدم.
لحظة تاريخية تفصل بين حال الثوار وبين تقرير مصيرهم، كم يجب أن يؤمنوا بثورتهم كي يصمدوا في معركتهم، كي يتابعوا إضرابهم، كي يتحملوا القبض على جمرة كفاية تحقيق حلمهم.
“إذا أهلكنا أنفسنا في العناء، فإن جثثنا كجياع ستخدم قضية الشعب أكثر من سياستك كلها، سياسة الرجل الحكيم” قالها “إتيان” لـ “راسنور”.
ولأن السلطة لا تعترف بإرادة الشعب، فلا بد أن تستخدم كل وسيلة لقمعه، لذا لم ينجح حراك المضربين في منع عمال المناجم الأجانب من النزول إلى الحفرة، كان الرصاص رداً كافياً لإسالة الدماء وإزهاق الأرواح ووقف الحراك تالياً، الأمر الذي أدخل الثورة نفق اليأس والإحباط، وأعاد خطاب “راسنور” إلى الواجهة مدوياً: “لم يسبق قط أن أفلح العنف، لا يمكن أن نعيد خلق العالم في يوم واحد، الذين وعدوكم في تغيير كل شيء دفعة واحدة هم هازلون أو أنذال” وكان الخطاب يقع على رس أأأس “إتيان” كالرصاص.
وفيما خسر “إتيان” معركته الكبرى مع أصحاب المناجم، ربح معركته الصغرى مع “شافال” حين شج رأس الأخير بصخرة دفاعاً عن “كاترين”، كان الثلاثة معلقين بين موت مؤكد ونجاة مستحيلة داخل الحفرة إلى أن صعد “إتيان” حاملاً جثة “كاترين” التي تلاشت من البرد والجوع والخوف، كان ذلك يوم قرر الجميع تحت ضغوط الفقر والجوع العودة إلى الحفر التي ابتلعتهم هذه المرة لتقذفهم جثثاً إثر انهدام جدران المنجم.
يغادر “إتيان” “مونسو” نحو “باريس” حيث رفاقه بدأوا يعيدون ترتيب أوراقهم للانطلاق من جديد في يوم آخر للثورة التي لا يمكن أن تموت، يودع كل الرفاق أثناء ذهابهم إلى العمل في المنجم منكسرين، لكنه أحس في حرارة مصافحتهم وعداً بالالتحاق بالموجة التالية للثورة، وقرأ في عيونهم اعتذاراً عن حنثهم بالعهد الذي قطعوه بالصمود في اعتصامهم.
نمت شجرة الثورة وامتدت أغصانها، اتحدت قواها واتضحت أهدافها وصار اليوم التالي على الأبواب بعد أن شقت براعم عمال المناجم صخرة كبار الطبقة البرجوازية وفتتتها.
وبقيت “جرمينال” “إميل زولا” واحدة من فرائد سرديات ثورات الشعوب المسحوقة على القوى والطُّغَم والأنظمة الديكتاتورية الحاكمة.
*الليفنت