كان الشعر الفلسطيني المرآة العاكسة للحدث والموقف، ولكل ما يجري على أرض فلسطين، دون إغفال الدفقة الشعورية التي تشحن هذا الإشعاع بالعاطفة، وتقدح زنده بالانفعال وتوشّحة بالجمال! فلم يكن مجرّد مدونة تاريخية، لكنه مواكبة وجدانية، وشلّال منحدر، لم يتوقف له انهمار، ولا انقطع له تيّار.
لكنّ السّمة الأشدّ حضوراً والأسطع ظهوراً، هو تلك الملامح المشتركة الجامعة، التي تقود القارئ مباشرةً إلى نبعه الأصيل، ومنشئه النبيل: العشق المتمادي لكل ما يمّثل هذا الوجود الضافي الذي يحمل مسمّى الوطن، من إنسان وشجر وحجر، فهو بمجمله مقامات وارفة وإيقاعات ذارفة، في ملحمة كبيرة، تحكي قصة عشق وحنين وإصرار تنتظمة ثيمة واحدة هي حتمية العودة.
فما بين إبراهيم طوقان ومحمود المفلح وأبي سلمى، ومحمود درويش مسافة وصل لا فصل، وحتى التوظيف اللغوي على تنوعه يذوب في البوتقة الأم التي يتماوج فيها الشعور، وتشطح أمواجه على سطح هذا البحر الزاخر، فالقارئ والمتلقي لن يتوقف كثيراً عند الصيغ اللغوية، بل هو يتلقى إيحاءاتها بصفته طرفاً في هذا الاشتباك، أوتاره أصلاً مشدودة ومدوزنة لاستقبال أصابع العازف.
وفي سياق هذا الزّخم تتلاشى الفوارق، فحتى الغموض لا يقف حائلاً، ولا حتى الرمز الذي أصبح شائعاً ومحفوظاً في فهرس مرجعي، في ما يبدو وكأنه اتفاق ضمني أو تواطؤ بين الشعراء، على قائمة لغوية ورمزيات مصطلحٍ عليها، حتى يصعب تجاوزها والخروج عن محيط دائرتها، وهذه نماذج أقدمها للقارئ ليتأثّر ويتأمّل، دون أن يحول بينه وبينها التحليل والتأويل، وإنما فقط للتدليل على هذه الوحدة العجيبة وهذا الإتلاف القاهر الذي لا يحول دونه حائل:
رجعنا يا حبيبي
أقولُ وإنَّ قولي كاللهيبِ
فلسطينُ الحبيبةُ لن تَغيبي
وهل ننسى المآذنَ شامخاتٍ
وأرواحًا تسيلُ على الدروبِ
وهل ننسى الهضابَ هضابَ عكَّا
وأمواجاً تسافرُ في الغروبِ
وأشجاراً من الليمونِ فاحَتْ
وأنساما وصوتَ العندليبِ
حمَلْنا رايةَ القرآنِ لحنًا
وقُلْنا للكواكبِ لا تَغيبي
أتَيْنا كالعواصفِ غاضباتٍ
نطيرُ مِن الشمالِ مِن الجنوبِ!!
«محمود مفلح»
٭ ٭ ٭
فلسطينُ الحبيبةُ كيف أحيا
بعيداً عن سهولكِ والهضابِ
تناديني السُّفوحُ مُخضَّباتٍ
وفي الآفاقِ آثارُ الهضابِ
تناديني الجداولُ شارداتٍ
تسيرُ غريبةً دون اغترابِ
ويسألُني الرّفاقُ ألا لقاءٌ
وهل من عودةٍ بعد الغيابِ؟
غداً سنعودُ والأجيالُ تصغي
إلى وقعِ الخُطا عند الإيابِ
عبد الكريم الكرمي « أبو سلمى»
٭ ٭ ٭
سنرجع يوماً إلى حيّنا
ونغرق في دافئات المُنى
سنرجع مهما يمر الزمان
وتنأى المسافات ما بيننا
فيا قلب مهلاً ولا ترتمي
على درب عودتنا موهنا
يعز علينا غداً أن تعود
رفوف الطيور ونحن هنا
« هارون هاشم رشيد »
٭ ٭ ٭
في دير قديس
لم ألقَ بين لياليَّ التي سَلفتْ
كليلةٍ بتُّها في دير قِدِّيسِ
ضَمَمْتُ حسناءَ لم يُخلَق لها مَثَلٌ
بين الحسانِ ولا حُورِ الفراديسِ
ما عرشُ بِلقيسَ في إبَّان دولتِها
ولا سليمانُ مزفوفًا لبلقيسِ
يومًا بأعظمَ منَّا في السرير وقد
دام العناقُ إلى قرع النَّواقيسِ
« إبراهيم طوقان »
٭ ٭ ٭
عيونك شوكة في القلب
توجعني وأعبدها
وأحميها من الريح
وأغمدها وراء الليل والأوجاع … أغمدها
فيشعل جرحها ضوء المصابيح
ويجعل حاضري غدها
أعز عليَّ من روحي
فلسطينية العينين والوشم
فلسطينية الاسم
فلسطينية الأحلام والهم
فلسطينية المنديل والقدمين والجسم
« محمود درويش »
٭ ٭ ٭
في ظل النصوص السابقة يصبح الحديث عن البنيوية والتفكيكية أو الحداثة أو ما بعدها ترفاً ونافلة قول، فالجزئيات في هذا السياق الموحّد تشدّ بعضها بعضاً لدرجة تستعصي على التفكيك دون فقدان المعنى وخبو الوهج، ليس لطغيان الواقعية السياسية على النص، أو توظيف مفرداته، بل لأنه في حرارة التفاعل تذوب الفوارق وتتلاشى، والطوفان العاطفي يجرف كل المعالم المصطنعة ويبقي على الأصيل الراسخ. فتفاصيل اللجوء وغدر الإخوة والجحود والدم والمجزرة تتكرٍر مشاهدها، ليس بين دير ياسين وكفر قاسم حسب، بل بين بيروت وعمّان والقاهرة، ولذا تتكرر مفردات الدم والحصار والمواجهة والفرار، إنه قاموس القضية الذي أضاءت مفرادته زوايا الشعر العربي وليس الفلسطيني فقط. ولا جرم فهي محبوبة واحدة «فلسطين» ملامحها غير قابلة لا للتشويه ولا للتزوير، وكل ما فعله الشعراء هو أنهم رسموا هذا الجمال كُلٌّ بخطوطه الخاصة، لكن المتأمل في النهاية لن يجهد في التعرف إلى صاحبة الصورة، فموناليزا هاشم رشيد أو المفلح أو طوقان هي ذاتها موناليزا درويش وزيّاد والقاسم حتى وإن تفاوتت الظلال والألوان فهذا من عبقرية اللوحات الخالدة.
*القدس العربي