نزار آغري: “السماء اليتيمة” للآذرية إيلا ليا… كاتبة تحتفل بانتهازيتها

0

في يوم صيفي، في أحد أعوام تسعينات القرن الماضي، كانت امرأة تعزف البيانو، وتغني أمام جمهور كبير في صالة موسيقية بجوار السفارة الأميركية في موسكو. كان السفير وحاشيته في عداد الحاضرين. أعجب الجميع بأدائها. بعد أيام قليلة، دعاها السفير الأميركي للعزف في حفلة موسيقية في حديقة السفارة. كان هناك ميكي كانتور الذي أصبح في ما بعد مدير الحملة الانتخابية لبيل كلينتون. في نهاية الحفلة، اقترب كانتور من العازفة وتبادل معها أطراف الحديث. أفصحت له عن رغبتها في اللجوء إلى الولايات المتحدة. ولم يمض وقت طويل حتى كان لها ما أرادت.


هذه الموسيقية هي إيلا ليا، الأذربيجانية، التي احترفت الغناء والعزف وأصدرت ألبومات غنائية عديدة أشهرها “أنا أحبّ”، ثم أصدرت روايتها “السماء اليتيمة” باللغة الإنكليزية في بلاد العم سام.

والحال أنه حين يقع الثور، تكثر السكاكين، كما يقول المثل. والثور قد يكون ثوراً بالفعل، لكنه قد يكون كناية عن كائن بشري أو جماعة أو فرقة أو دولة أو امبراطورية. امبراطورية؟ أجل، مثل الامبراطورية السوفياتية مثلاً، تلك التي لم تكد ملامح الانهيار تظهر عليها حتى انقضّت عليها السكاكين التي أخذت تقطعها جسداً وروحاً.

سكاكين
كانت سكين إيلا ليا، واحدة من تلك السكاكين. ليا، مثل بطلة روايتها، كما سنرى، ولدت وترعرعت في باكو، عاصمة أذربيجان السوفياتية، وكان والدها مسؤولاً كبيراً في الحزب الشيوعي وفي إدارة النفط. وهي درست الموسيقى، مثل بطلتها أيضاً، وتعلمت اللغة الإنكليزية على أيدي مدرسين خصوصيين. وهي أتقنت العزف على البيانو واللغة الإنكليزية، ونالت معرفة عميقة في الكلاسيكيات الغربية والشرقية على السواء. نهلت من أعمال بيتهوفن وموتسارت وتشايكوفسكي ورحمانينوف، جنباً إلى جنب الموسيقى التقليدية الآذرية والفارسية والتركية. كانت مدللة وكان كل شيء في متناول يدها.

الرواية التي تكاد تكون سيرة ذاتية، لقيت استحسان النقاد ووصفتها صحيفة “لوس أنجلوس ريفيو أوف بوكس” بأنها قرينة “عدّاء الطائرة الورقية” (The Kite Runner) للأفغاني الأميركي خالد حسيني. فبطلة الرواية، ليلى، هي ابنة المسؤول الأول في الحزب الشيوعي الآذري، وهي تدرس الموسيقى وتبرع فيها. هي أيضاً عضو في الشبيبة الشيوعية، الكومسومول، وتحظى بإعجاب وتقدير رفاقها الأعلى منها مقاماً. المسؤول الأول في الشبيبة، فرهاد، هو رفيقها الأقرب. يحبها وتحبه. فرهاد شاب صادق، مخلص، مناضل حقيقي، ووسيم.

الموسيقى الغربية
يكلفها فرهاد بمراقبة مخزن لبيع الأشرطة الغنائية يديره شاب يعتبره الرفاق “عميلاً للإمبريالية” وينشر الموسيقى الغربية المنحطة. هذا الشاب، عميل الغرب، الناشر للانحطاط الغربي، هو طاهر، حفيد عائلة ارستقراطية كان الشيوعيون، حين استلموا السلطة، نفوها إلى سيبيريا بعدما جرّدوها من أملاكها.

فجأة ينقلب كل شيء. تبدأ ليلى في التأثر بطاهر. بالموسيقى الغربية التي يستمع إليها، بالأشرطة التي تملأ مخزنه، بأفكاره عن الحرية. تتعلق ليلى بجوّ المخزن وتقع في غرام طاهر إلى أن تعشقه. يخبرها طاهر عن شمولية الحزب الشيوعي والفساد الذي يخنق كل شيء (كما لو أن ليلى كانت عمياء ولم تكن ترى شيئاً، هي ابنة المسؤول الشيوعي الكبير).

هكذا، من دون مسوغ واقعي يتحول فرهاد، في عيني ليلى، إلى وحش بشع، ويصير طاهر ملاكاً طاهراً (ربما لهذا سمّته الكاتبة بهذا الاسم). لم يرتكب فرهاد أي خطأ. لم يتغير في سلوكه المتفاني لخدمة الحزب والشبيبة والبلد. لم يضعف حبه لليلى، بل زاد يوماً بعد يوم. وبالطبع لم تضمحل وسامته (وهذه الوسامة هي ما تخبرنا عنها البطلة بنفسها).

تضع الكاتبة تلك الثنائية المعروفة: الأبيض مقابل الأسود. فرهاد، الشرير مقابل طاهر الخير (رغم أن فرهاد لم يقم بأي عمل شرير وطاهر لم يقم بأي عمل خير). الواضح أن ليلى تأخذ فرهاد مذنباً، أي شريراً، لأنه يخدم نظاماً شريراً. لكنها، هي ذاتها، تفعل الشيء نفسه.

لم يكن كل الشيوعيين طغاة أو فاسدين. كان هناك الملايين من الصادقين في قناعاتهم وفي السعي لخلق مجتمع عادل يحقق فيه الإنسان أجمل أحلامه في الحرية والانعتاق من كل قمع وقهر وحاجة. كان هناك الآلاف من الكتّاب والفنانين والرسامين والموسيقيين والرياضيين ممن كرسوا مواهبهم لخدمة ذلك الهدف النبيل. لنتخيل، للحظة واحدة: لو أن الدولة، الامبراطورية السوفياتية التي أنشأها البلاشفة، واصلت السير في دروب أفكار وأحلام ماركس وإنغلز ولينين وتروتسكي وروزا لوكسمبورغ وغرامشي وزينوفييف وبخارين وراديك، الخ، من الشيوعيين الحقيقيين، وأن الستالينية لم تظهر، وبالتالي لم تظهر الخروتوشفية والبريجنيفية، لربما كنا الآن في عالم آخر، مختلف تماماً، عما نحن فيه. ما كان ليظهر بوتين، بطبيعة الحال… لكن التاريخ يسير على نحو آخر، كما يبدو.

النظام الشمولي
تتمسك ليلى بكل الامتيازات التي تتيحها النومانكلاتورا الشيوعية والكومسومول، وتفضل التمتع بكل المزايا والمتع، وتبقى كذلك إلى أن تلوح نهاية الامبراطورية. حينئذ تقرر الهرب من السفينة. تماماً مثلما تفعل الكاتبة في الواقع. الرواية إذن، أهجية قاسية للنظام الشمولي الذي كان استقر على ظهور سكان الكوكب السوفياتي الذي حولته الستالينية إلى مستوطنة للعقاب.

كان هناك من يقف في صف الطغمة الحاكمة، في كل دولة من الدول التي كانت ضمن ذلك الاتحاد الديناصوري الهائل، من روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا، وصولاً إلى كازاخستان وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان.

تكتب ليا عن العيش في المستوطنة الصغيرة، أذربيجان، عن الانتهازيين، عن الجمود الفكري وقمع الحريات، عن الرشوة والمحسوبية، عن الانغلاق في وجه كل ما هو جديد ومغاير، ووسمه بالانحطاط. غير أن الروائية، إذ تفعل ذلك، فإنها تدين نفسها. كأنها تعري انتهازيتها ونفاقها ووصوليتها. في وسعنا القول: وماذا في ذلك؟ أن يكتب شخص انتهازي عن الانتهازية من أجل فضح ذاته وتعرية ما في داخله من ضعف إنساني.

لا. هي لا تفعل ذلك. لا تعري انتهازيتها، وانتهازية بطلة الرواية، بل تحتفل بها. تمجد ذاتها، وذات البطلة، على حساب الامبراطورية التي شربتا من حليبها (هل نمضي في الاستعارة ونسمي الامبراطورية السوفياتية بقرة حلوباً؟ بقيت البطلة، والكاتبة، ترضعان حليبها، إلى أن سقطت أرضاً فعمدت إلى لبطها في بطنها وتركتاها تتخبط، ومضتا مزهوتين بنفسيهما).

لم تفكر الكاتبة، حين كانت هناك، في انتقاد الواقع. بل هي لم تعمد، في أضعف الإيمان، إلى النأي بنفسها عن الآلة الفتاكة للنظام الشمولي. انضمت إلى هذا النظام، انخرطت فيه، حملت لواءه، ووضعت مواهبها في خدمته.

الكتّاب الذين كانوا يتمتعون بحماية ورعاية مثل هذه السلطات، في بلدان المنظومة الاشتراكية (وربما يجدر بنا أن نضيف، عرضاَ، دولاً مثل كوبا والعراق وليبيا وسوريا) كانوا أعضاء في اتحادات الكتّاب ويحصلون على ما تشتهيه نفوسهم من مكاسب وامتيازات وكانوا يسطرون مقالات، إن لم تكن في تمجيد الحكم، فعلى الأقل في تبني خطابه وشعاراته). لكن حين اقتربت النهاية، أداروا ظهورهم ونقلوا البندقية، أو القلم، من كتف أو يد، إلى كتف آخر أو يد أخرى. ثم شرعوا في فتح أفواههم (هل نقول أشداقهم؟)، في اللعن والقدح والتشهير.

النازية
لكن هل يمكن الحكم على نص أدبي انطلاقاً من شخصية كاتبه؟ فالنص له عوالمه المتفردة وقوانينه الخاصة بمعزل عما يكون عليه كاتبه. معيار تقييم النص ليس سلوك وأفكار ومزاعم الكاتب، بل قيمته الجمالية والفنية. هو نص جميل أو غير جميل، بالاتكاء إلى ميزان الأدب وحده. يكون النص حافلاً بالجمال والدهشة، حتى ولو كان مؤلفه نازياً (النروجي كنوت هامسون، مثلاً، استقبل النازيين وتبنى وجهة نظرهم حين احتلوا النروج. هناك حتى اليوم تعتيم شبه كامل على شخص المؤلف، الذي حاز جائزة نوبل. لم تنصب له تماثيل ولم تُسمّ شوارع باسمه، بعكس هنريك ابسن، مثلاً، الذي تتوزع تماثيله والشوارع باسمه في غالبية المدن والبلدات النروجية. لكن كتب كنوت هامسون تملأ المكتبات وتعاد طباعتها عاماً بعد عام، ولنضف، هنا، أن بول أوستر، سليل عائلة هربت من القمع النازي هو من أشد المعجبين بأدب هامسون وكتب دراسة مطولة عن رائعته “الجوع”).

ينهض السؤال المنطقي: هل تستحق هذه الرواية، “السماء اليتيمة”، بمعزل عن كاتبتها، الاحتفاء بها حقاً؟ هل هي تحفة أدبية يمكن، بسببها، غض النظر عن السلوك الانتهازي لمؤلفتها؟

بعيداً من الكلمات الطنانة التي تتحفنا بها، كالعادة، الصفحات الأدبية في صحف عريقة مثل “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست” و”الغارديان”، وهو أمر بات مفضوحاً، فإن الرواية بشارة لكاتبة تحسن التعامل مع عدّة الإبداع الأدبي. ولولا بعض المبالغات الدرامية والهنات السردية لأمكن القول أنها، بوصفها الرواية الأولى، ناجحة تماماً. هناك إتقان في تطويع اللغة وتشبيك الأحداث ورسم الشخصيات والنهل من أكثر من معين في ما يتعلق بالقماشة الخلفية للوقائع: الحكايات الفولكلورية الآذرية وتداخل الحدود الثقافية لما هو خارج الحدود مع المحيط المحلي الآذري، والاستفادة الفذة من الخطاب الموسيقي ولغته ومفرداته وإدخال خيوطه الملونة في الثوب السردي.

*المدن