نجم الدين سمّان: سيسيل..

0

لم أكن أعرف من الفرنسيّة وأنا في بلدي سوى خمسِ كلمات: بون جور؛ بون سوار؛ باردون؛ جي تِيم؛ لا مور.

قلت لسيسيل: – واليومَ.. بعد سنةٍ ونصف في فرنسا؛ أعرفُ خمسينَ كلمة؛ أليس هذا دليلاً على طالبٍ كسول؟.

ضحكت: – بل دليلٌ على فشل أساتذتِك!.

كانت تُناديني في دمشق بالأستاذ؛ مُذ عرَّفني عليها صديقٌ في بَهو المركز الثقافي الفرنسي بدمشق؛ ننتظر أن يبدأ عرضُ فيلم “رُكبَة كلير”؛ لمحتُ صديقي يُشير إليَّ وهو يتكلّم معها؛ ثمّ مضى بها نحوي؛ قال: – سيسيل.. طالبة لغة عربية في مدرسة اللغات.

قلتُ بالعربيّة: – أهلاً بكِ في بلدنا.

وأردف الصديق: – قلتُ لها.. إذا كنت تريدينَ إجادةَ لُغتِنَا؛ فليس لكِ غير هذا الأستاذ.

ابتسمتُ مُمَازحاً: – لا تُصدِّقيه.. إنه من هُوَاة الشائعات.

كرَّرَت سيسيل كلمةَ “هُوَاة” وسألتني بالعاميّة بينما نصعد الدرج نحو قاعة السينما: – شو يعني؟.

– عكس كلمة “مُحترِف”.

– مُوهتارِف.. شو يعني؟!.

ضحك صديقنا المُشترك مُعلّقاً:

– حرام عليك.. بدأتَ فوراً بسلسلة حزازيركَ اللغويّة؟!.

وقبل إطفاء الإضاءة في الصالة اندسّت حبيبةُ صديقي بجانبه:

– تأخرت.. ما هيك؟.

فعلّقتُ مُمازِحاً: – طبيعي؛ كلُّ النساء.. يتأخرنَ.

ترجم الصديق لسيسيل جُملتي فابتسمت وهي تهُزُّ رأسها:

– نعم؛ كُلّ النساء في العالم.. يفعلنَ ذلك!.

انطفأت الأضواء في الصالة.. وبدأ الفيلم.

بعد عشر سنوات.. بدأ فيلمٌ من نوعٍ مُختلف تماماً.. انطفأت بلدي سوريا؛ دمّرها رئيس وَرِثَ الكرسيّ عن أبيه.. بأكثرَ ممَّا فعلَ كلُّ غُزاتِها.

أرسلَت لي سيسيل إيميلاً: – ماذا يحدث عندكم بالضبط؛ هل أنت في خطر؛ لماذا لا تأتي إلى فرنسا؟!.

أجبتُها: – هجرتُ دمشقَ مُرغَمَاً؛ وحقيبةُ تغريبتي جاهزةٌ على الدوام؛ غداً.. موعدُ طائرتي من الجزائر إلى القاهرة؛ ولا أعرفُ بعدَهَا.. إلى أين!.

ثم سألتني: – ما اخبار صديقنا الأب باولو؟.

كتبت لها: – صديقُنا وصديقُ كثيرٍ من السوريين.. صار صديقاً لثورة السوريين على الاستبداد.

وفي دمشق قبلَ سنواتٍ.. قلتُ لها:

– لكلّ لغةٍ سرٌّ خاصٌّ بها؛ وسِرُّ لُغتِنَا الخاصُّ جداً هو: الاشتقاق.

وأضفتُ: – لن أُعطيكِ دروساً في القواعد؛ أنت تُتابعينها في مدرسة تعليم اللغات للأجانب.

بدأنا من ثلاثة حروف: الحاء والباء والراء؛ وكتبتُ لها على ورقةٍ أولَ أسرار العربية: حِبر – حَرب – بَحر – رَحب – رِبح – بَرَح.. الخ؛ بينما عيناها تتسِعانِ دهشةً وهي ترى كيفَ مِن مُتوَاليةِ حروفٍ ثلاث.. تتوالد كلماتٌ جديدة ومُختلفة.

كنتُ أيضاً.. أتعلَّمُ بينما أُعَلِّمُهَا.

وعندما انتقلتُ من القاهرة إلى إستانبول.. أرسلت لي سيسيل:

–  أين أنت الآن.. في أيِّ بلد؛ طَمِّني عنك؛ وإذا أردتَ اللجوء إلى فرنسا سأساعدك.

أجبتها: – أنا الآن في إستانبول؛ بدأتُ مشروعَ اصدار مجلةٍ شهريةٍ الكترونيّة سوريّة حُرّة؛ وأتوقعها في 121 صفحة؛ ولا أتوقع أن أغادر استانبول حالياً؛ شكراً لمُبادرتك بمُساعدتي؛ إذا كتبتِ أولَ مقالٍ بالعربية.. سأنشرهُ لك فيها.

أجابتني: – مقالة بالعربية.. هذا صعبٌ جداً؛ مع أنك كنتَ أفضلَ أستاذتي؛ لكنّها لغة جميلة وصعبة.. مثل الحُبّ تماماً.

أعجبني تشبيهها للغتنا بالحُبّ؛ وكانت في دمشق قد بدأت تتقدَّم ببطء.. وكنتُ أيضاً أشرحُ لها كيف تختلفُ دلالةُ الكلمات بين لغةٍ وأخرى؛ وبين شعبٍ وآخر؛ وبين حضارةٍ وسِوَاها؛ وبين شرقٍ وغرب؛ حتى سألتني مرَّة: – متى اُجِيدُ اللغةَ العربيَّةَ تماماً؟.

فابتسمت: – كثيرٌ من العرب.. لا يُجيدونها!؛ فاطمئنِّي.

أردفَت: – أريد جواباً جاداً.. لو سمحت.

قلتُ: – حين تفهمينَ الشعرَ العربيَّ والنُكتَةَ اليوميّة وتجويدَ القرآن.

كانت سيسيل تصغَرُني بعشرين عاماً؛ وهذا وَحدَهُ.. كافٍ لاختلاف مفاهيمِ جيلٍ عن جيل؛ فكيف إذا كُنَّا من ثقافتين مُختلفتين.

سألتها ذاتَ يوم: – ما هو انطباعك عن الناس هنا؟.

قالت: – وَدُودُون.. بسيطون.. عَفوِيّون.

فعلّقت: – ودودونَ جداً.. وبخاصةٍ مع الغريب!.

أردفت: – كريمون؛ مِضيافون؛ يتطوعون لمُساعدتي بحرارة.

قلتُ: – ولديهم نزعةُ استطلاع؛ بخاصةٍ في الشؤون الشخصيّة.

هزَّت رأسها مُوافِقَةً: – سألتني جارتي السوريّة في السَكَن.. إذا كان لديَّ صديق؛ إذا كنتُ مُتزوجةً أم لا؛ وعن كثيرٍ من التفاصيل!.

– وماذا أيضاً؟.

ابتسمت سيسيل: – أحِسُّ بأنّ نظرات شبابِكُم ستأكلني؛ فأنظر في كلّ مرّةٍ إلى ثيابي.. لأتأكد بأنّي لم اخرج عاريةً إلى الشارع.

ضحكت: – هكذا نحنُ مع النساء؛ وفي الحبّ وشجونه؛ نريدُهُ.. أو نموتَ دونَه!؛ أنتم لديكم كلمةٌ واحدة عن الحبّ: لا مور؛ نحن لدينا مُرادفاتٌ لها.. لا تنتهي.

تناولتُ كتابَ “طوق الحمامة في الألفة والألُّاف” قلتُ:

– اكتبي هذه المُرَادِفَات لو سمحتِ: الحبّ؛ الهوى؛ العشق؛ الوَجد؛ الغرام؛ الهيام؛ اللوعة؛ الوَلَه؛ الصبَابَة.. الخ.

كانت ترفع عينيها دهشةً.. بين كُلِّ مُرادِفٍ وآخرَ يلِيه؛ ثمّ حدَّثتها عن “الحب العذريّ” عند العرب والذي يُؤدّي غالباً إلى جنونِ أحد العاشِقَين؛ وأغلبُ مجانينِهِ.. من الرجال!.

بعد أسبوعٍ.. جاءت سيسيل إلى درسها؛ قالت:

– فتحَت جارتي السورية دفترَ الملاحظات دون أن تستأذنني؛ فقرأت مُرادفات كلمة الحب؛ قالت: شي حلو؛ انتبهي يا ابنتي؛ هذا الأستاذ يُطَبِقُك؛ شو قصدها؛ شو يعني كلمة: يطبقِك؟!.

فضحكتُ طويلاً.. قلت: – من الصعب.. أن تتعلَّمي لغتين: الفصحى والعاميّة الشاميّة معاً.

هزَّت رأسَها” – صحيح؛ أحياناً لا أعرف إذا كانت هذه الكلمة عامية او فصيحة؛ ولكن.. ما معنى كلمة “يطبِّق”.

شرحتُ لها قَصدَ جارتها.. فضحِكَت ثمّ علّقت:

– لكنك تعرف بأنّ لديَّ صديقٌ في بوردو ينتظرني؛ وتحترم ذلك.

ثم حَكَّت النمَش الذي في أرنبة أنفها:

– هل تسمح لي بسؤالٍ خاص؟.

فابتسمت: – طبعاً.. فغريزة الاستطلاع عند النساء أساسيّة.

ضحكت سيسيل طويلاً.. فشجّعتها: – اسألي.. ولا تهتمِّي.

قالت: – لاحظتُ أنكَ تعيش وحدَك؛ أليس لديكَ صديقة؟.

– كنتُ متزوجاً.. واتفقنا على انفصالٍ غيرِ مُعلَن.. ثم نُقرِّر بعدّه؛ أحياناً يحتاج الرجلُ للعُزلة.. ليُدرِك فَدَاحَةَ وَحدتِه.

هَزَّت رأسها: – والمرأة.. أيضاً.

نظرَت من شبَّاك غرفتي إلى حارة البولاد.. فأحسستُ بأنها تذهب بعيداً إلى حيثُ صديقها في بوردو.. ثمّ تنهدت:

– ونحتاج السفر أحياناً؛ مجيئي إلى دمشق.. جعلني أتأكد من حبّي له؛ وكسِبتُ صداقتك.

قلتُ لها: – إذا كُنتِ تحتاجينَ إلى كسر روتين دروسِكِ في مدرسة اللغات.. سأدلُّكِ على مكانٍ رائع.

قالت بفرح طفلةٍ في السابعة: – أحتاج.. شكراً.. أين.. ومتى؟!.

قلت: – شمالَ دمشق؛ في جبال القَلَمُون.. حيثُ نَحَتَ اللهُ أقلامَهُ التي من حجر.

وقفت.. انحنت مُمسكةً بيديّ: – رائع.. اقتراح رائع.

– نذهب يوم الخميس إلى ديرٍ عتيق.. حيثُ صديقنا الأب باولو؛ ونمكث حتى يوم الأحد.

لم أكن أتَبِعُ طريقةً في التدريس؛ كانت كلُّ جلساتنا جولاتٍ فيها بعضُ التاريخ؛ كثيرٌ من فولكلورنا؛ وأستعينُ نادراً باللغة الانكليزيّة لإيصال دلالةِ كلمةٍ أو عبارةٍ أو بيتَ شعرٍ أو أغنية.

في غرفتي الصغيرة في باب توما.. تعرَّفَت سيسيل إلى موشحاتنا ومواويلنا؛ أحبَّت كثيراً طريقة “صبري مدلّل” في الغناء وعُمرَهُ الثمانينيّ وطربوشَه العثملّلِي!؛ صارت عاشقة أيضاً.. لفيروز؛ حدّثتُها أيضاً.. عن “النحت اللغوي” في العربيّة؛ وبخاصةٍ من كلمتين؛ قلتُ لها:

– اكتبي لو سمحتِ: الزمان؛ فكتبت – وكنت أتقصَّدُ أن تكتبَ هي بيدها.. حتى لو أخطأت- ضَعِي علامةَ زائد.. فوضَعَتها؛ واكتبي كلمة “المكان”؛ ضعي إشارة يُساوي.. ثم أخذتُ القلم منها وكتبتُ: الزَمَكَان.

– هذا مثالٌ عن الاشتقاق من كلمتين.

شرحتُ لها الفرقَ بين كلمتيِّ الزمن والزمان؛ ثمّ سحبتُ من رَفّ مكتبتي نسخةً من رواية إميل حبيبي “المُتشائِل” وعليها هذا الاهداء: “إلى سيسيل.. حين ستضحكين بمرارةٍ وأنتِ تقرأينها.. ستكونين قد أجَدتِ اللغة العربية”.

ثم شرحتُ لها كيف اشتقّ بالنحتِ في اللغة عنوانَ روايته من كلمتين مُتضادتين: مُتشائِم ومُتفائِل.

هكذا تعلّمت سيسيلُ لغتنا.. مع مزيجٍ من ترجمة أغنياتٍ بالفصحى والعامية؛ ومع بعضِ النكات اليوميّة وبخاصةٍ “الحُمصيّة” منها؛ أوصيتها ايضاً أن تتسامَرَ أكثرَ مع جارتها الدمشقيّة.. لتكتشفَ أسرارَ ما لا أعرِفُهُ من لغاتِ النساءَ ولهجاتهنَّ الأنثويّة.

بعد أن سُدَّت الآفاق بوجهي في إستانبول؛ وتوقفت المجلة التي أصدرتها بسبب نقص تمويلها السوريّ؛ وبعد أن تسلَّقَ من تسلّقَ على أكتاف الثورة؛ وانتهزَ مَن انتهز؛ وسَمسَر بالثورة وبالسوريين من سَمسَر؛ وتقلّص عددُ المقالات التي أنشرها وأعيش من عائداتها؛ حتى بدا أنّي لن أتمكَنَ من دفع أجرة غرفة القبو الذي استأجرتها في استنبول.. تقدّمتُ بطلب لجوءٍ الى القنصلية الفرنسيّة.

كتبت لي سيسيل: – هذا عنواني في بوردو؛ أرسِلهُ للقنصليّة لو سمحت؛ أنا مُستعدَّة مع زوجي لاستضافتك حتى تحصل على إقامتِك في فرنسا؛ وعلى مَسكنٍ مُلائم؛ أنت أستاذي.. ولن أنسى بأنكَ عَلَّمتني أسرارَ واحدةٍ من أجملِ لغاتِ العالم.

فأجبتُها: – لغةُ الإنسانيّة هي التي تجمعنا؛ شكراً لك سيسيل.

وحين أصرَّ الأب باولو على الذهاب إلى الرقة ليتحاور مع طواغيت داعش؛ ثمّ انقطعت أخبارُه.. اتصلت سيسيل عبر السكايب: – هل تعتقد بأنه ما زال حياً؟.

– ربما.

– أنت تُخفي عَنِّي شيئاً بهذه النبرةِ المُنكسِرة في صوتك.

– أنا كائنٌ مُتشائِل.

– أعرف.. مثل إميل حبيبي تماماً.

– والداعشيّون.. مثلَ نظام الأسد؛ ومن طينة القتل والكراهية ذاتِها؛ وجهان.. لاستبدادٍ واحد.

صمتت سيسيل؛ غَطَّت عينيها بباطن كفّيها.. لتحجِب عنِّي دمعتين.

ثمّ انفجرت: – لن أُصدِّق بأنه قد قُتِل؛ ابتسامتُه وحدَها تصنع حياةً للآخرين.

وَاسَيتُهُا: – قلبي لا يُريد أن يُصدِّق أيضاً.

– لا يُمكِنُني نِسيانُ ابتسامته؛ ثلاثة أيامٍ في ضيافته جعلتني أعرف الكثير عن الكون وعن نفسي.

لأُخرِجَهَا من حالتها.. قلتُ لسيسيل:

– حين أجيء إلى فرنسا.. ستقترحين عليَّ مكاناً مُمَاثلاً.

صرخت كطفلةٍ: – أخيراً.. قرَّرتَ المجيء.

– حصلتُ على فيزا لجوء؛ طائرتي بعد أسبوع.

– إلى أيّ مطارٍ.. إلى أيّة مدينة؟.

– إلى بيزانسون.. مسقط رأس فيكتور هوغو؛ ستكون رابعَ تغريبةٍ لي.. يا سيسيل.

*- فرنسا 2020.

– الصور.. بعيني الثالثة: لمدينة بيزانسون.